التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ
١٠٢
وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ
١٠٣
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
١٠٤
وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ
١٠٥
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ
١٠٦
أَفَأَمِنُوۤاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٠٧
قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٠٨
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٠٩
حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ
١١٠
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
١١١
-يوسف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

اسم الإشارة فى قوله - سبحانه - { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ... } يعود على ما ذكره الله - تعالى - فى هذه السورة من قصص يتعلق بيوسف وإخوته وأبيه وغيرهم، أى: ذلك الذى قصصناه عليك - أيها الرسول الكريم - فى هذه السورة، وما قصصناه عليك فى غيرها { مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ } أى: من الأخبار الغيبية التى لا يعلمها علماً تاما شاملاً إلا الله - تعالى - وحده.
ونحن { نُوحِيهِ إِلَيْك } ونعلمك به لما فيه من العبر والعظات.
وقوله: { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } مسوق للتدليل على أن هذا القصص من أنباء الغيب الموحاة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم -.
أى: ومما يشهد بأن هذا الذى قصصناه عليك فى هذه السورة من أنباء الغيب، أنك - أيها الرسول الكريم - ما كنت حاضرا مع إخوة يوسف، وقت أن أجمعوا أمرهم للمكر به، ثم استقر رأيهم على إلقائه فى الجب، وما كنت حاضراً أيضاً وقت أن مكرت امرأة العزيز بيوسف، وما كنت مشاهداً لتلك الأحداث المتنوعة التى اشتملت عليها هذه السورة الكريمة، ولكنا أخبرناك بكل ذلك لتقرأه على الناس، ولينتفعوا بما فيه من حكم وأحكام، وعبر وعظات.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى خلال قصة نوح - عليه السلام -:
{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } وقوله - تعالى - فى خلال قصة موسى - عليه السلام - { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ } وقوله - تعالى - فى خلال حديثه عن مريم { ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } إلى غير ذلك من الآيات التى تدل على أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معاصرا لمن جاء القرآن بقصصهم، ولم يطلع على كتاب فيه خبرهم، فلم يبق لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بذلك طريق إلا طريق الوحى.
ثم ساق - سبحانه - ما يبعث التسلية والتعزية فى قلب النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }.
أى: لقد جئت - أيها الرسول - للناس بدين الفطرة، الذى ترتاح له النفوس وتتقبله القلوب بسرور وانشراح. ولكن أكثر الناس قد استحوذ عليهم الشيطان، فمسخ نفوسهم وقلوبهم،، فصاروا مع حرصك على إيمانهم، ومع حرصك على دعوتهم إلى الحق على بصيرة، لا يؤمنون بك، ولا يستجيبون لدعوتك، لاستيلاء المطامع والشهوات والأحقاد على نفوسهم.
وفى التعبير بقوله - سبحانه - { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ... } إشعار بأن هناك قلة من الناس قد استجابت بدون تردد لدعوة النبى - صلى الله عليه وسلم -، فدخلت فى الدين الحق، عن طواعية واختيار.
وقوله { وَلَوْ حَرَصْتَ } جملة معترضة لبيان أنه مهما بالغ النبى - صلى الله عليه وسلم - فى كشف الحق، فإنهم سادرون، فى ضلالهم وكفرهم، إذ الحرص طلب الشئ باجتهاد.
قال الآلوسى ما ملخصه: "سألت قريش واليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قصة يوسف، فنزلت مشروحة شرحاً وافياً، فأمل النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ذلك سبباً فى إسلامهم، فلما لم يفعلوا حزن - صلى الله عليه وسلم - فعزاه الله - تعالى - بذلك".
وقوله { وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } زيادة فى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفى إعلاء شأنه.
أى أنك - أيها الرسول الكريم - ما تسألهم على هذا القرآن الذى تتلوه عليهم لهدايتهم وسعادتهم من أجر ولو كان زهيداً ضئيلاً. كما يفعل غيرك من الكهان والأحبار والرهبان...
وإنما تفعل ابتغاء رضا الله - تعالى - ونشر دينه.
وقوله { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أى: ما هذا القرآن الذى تقرؤه عليهم إلا تذكير وعظة وهداية للعالمين كافة لا يختص به قوم دون قوم، ولا جنس دون جنس.
قالوا: وهذه الجملة كالتعليل لما قبلها، لأن التذكير العام لكل الناس، يتنافى مع أخذ الأجرة من البعض دون البعض، وإنما تتأتى الأجرة، إذا كانت الدعوة خاصة وليست عامة.
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المشركين تطالعهم الدلائل والبراهين الدالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته، ولكنهم فى عمى عنها فقال: { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }.
و { كأين } كلمة مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة، ثم تنوسى معنى جزئيتها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية المفيدة للتكثير.
والمراد بالآية هنا: العبرة والعظمة الدالة على وحدانية الله وقدرته يمر بها هؤلاء المشركون فلا يلتفتون إليها، ولا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون بها، لأن بصائرهم قد انطمست بسبب استحواذ الأهواء والشهوات والعناد عليها.
قال ابن كثير ما ملخصه: يخبر - تعالى - فى هذه الآية عن غفلة أكثر الناس عن التفكير فى آيات الله ودلائل توحيده، بما خلقه - سبحانه - فى السماوات من كواكب زاهرات، وسيارات وأفلاك.... وفى الأرض من حدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وحيوانات ونبات... فسبحان الواحد الأحد، خالق أنواع المخلوقات، المنفرد بالدوام والبقاء والصمدية...".
ثم بين - سبحانه - أنهم بجانب غفلتهم وجهالتهم، لا يؤمنون إيماناً صحيحاً فقال - تعالى - { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }.
أى: وما يؤمن أكثر هؤلاء الضالين بالله فى إقرارهم بوجوده، وفى اعترافهم بأنه هو الخالق، إلا وهم مشركون به فى عقيدتهم وفى عبادتهم وفى تصرفاتهم، فإنهم مع اعترافهم بأن خالقهم وخالق السماوات والأرض هو الله لكنهم مع ذلك كانوا يتقربون إلى أصنامهم بالعبادة ويقولون
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } والآية تشمل كل شرك سواء أكان ظاهراً أم خفياً، كبيراً أم صغيراً. وقد ساق ابن كثير هنا جملة من الأحاديث فى هذا المعنى، كلها تنهى عن الشرك أياً كان لونه، منها "قوله صلى الله عليه وسلم: عندما سئل أى الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك ومنها قوله؛ إن الرقى والتمائم والتولة شرك" .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: ما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء" .
ومنها "قوله صلى الله عليه وسلم: فيما يرويه عن ربه - عز وجل - يقول الله - تعالى - أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معى غيرى، تركته وشركه" .
فالآية الكريمة تنهى عن كل شرك، وتدعو إلى إخلاص العبادة والطاعة لله رب العالمين.
ثم هددهم - سبحانه - بحلول قارعة تدمرهم تدميراً فقال - تعالى -: { أَفَأَمِنُوۤاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }.
والغاشية؛ كل ما يغطى الشئ ويستره، والمراد بها: ما يغشاهم ويغمرهم من العذاب. والاستفهام للتوبيخ والتقريع.
والمعنى: أفأمن هؤلاء الضالون، أن يأتيهم عذاب من الله - تعالى - يغشاهم ويغمرهم ويشمل كل أجزائهم، وأمنوا أن تأتيهم الساعة فجأة دون أن يسبقها ما يدل عليها، بحيث لا يشعرون بإتيانها إلا عند قيامها.
إن كانوا قد أمنوا كل ذلك، فهم فى غمرة ساهون، وفى الكفر والطغيان غارقون، فإنه
{ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } ثم أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم: إن يسير فى طريقه الذى رسمه له، وأن يدعو الناس إليه فقال: { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي... } والبصيرة: المعرفة التى يتميز بها الحق من الباطل.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - للناس هذه طريقى وسبيلى واحدة مستقيمة لا عوج فيها ولا شبهة، وهى أنى أدعو إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده، ببصيرة مستنيرة، وحجة واضحة، وكذلك أتباعى يفعلون ذلك... ولن نكفّ عن دعوتنا هذه مهما اعترضتنا العقبات.
واسم الإِشارة { هذه } مبتدأ، و { سبيلى } خبر، وجملة { أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ... } حالية، وقد جئ بها على سبيل التفسير للطريقة التى انتهجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته.
وقوله { وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } تنزيه لله - تعالى - عن كل ما لا يليق به على أبلغ وجه.
أى: وأنزه الله - تعالى - تنزيهاً كاملاً عن الشرك والشركاء، وما أنا من المشركين به فى عبادته أو طاعته فى أى وقت من الأوقات.
ثم بين - سبحانه - أن رسالته - صلى الله عليه وسلم - ليست بدعا من بين الرسالات السماوية، وإنما قد سبقه إلى ذلك رجال يشبهونه فى الدعوة إلى الله، فقال - تعالى - { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ... }
أى: وما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول الكريم - لتبليغ أوامرنا ونواهينا إلى الناس، إلا رجالاً مثلك، وهؤلاء الرجال اختصصناهم بوحينا ليبلغوه إلى من أرسلوا إليهم واصطفيناهم من بين أهل القرى والمدائن، لكونهم أصفى عقولاً وأكثر حلما.
وإنما جعلنا الرسل من الرجال ولم نجعلهم من الملائكة أو من الجن أو من غيرهم، لأن الجنس إلى جنسه أميل، وأكثرهم تفهما وإدراكاً لما يلقى عليه من أبناء جنسه.
ثم نعى - سبحانه - على هؤلاء المشركين غفلتهم وجهالتهم فقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... }
أى: أوصلت الجهالة والغفلة بهؤلاء المشركين، أنهم لم يتعظوا بما أصاب الجاحدين من قبلهم من عذاب دمرهم تدميراً، وهؤلاء الجاحدين الذين دمروا ما زالت آثار بعضهم باقية وظاهرة فى الأرض. وقومك - يا محمد - يمرون عليهم فى الصباح وفى المساء وهم فى طريقهم إلى بلاد الشام، كقوم صالح وقوم لوط - عليهما السلام -.
فالجملة توبيخ شديد لأهل مكة على عدم اعتبارهم بسوء مصير من كان على شاكلتهم فى الشرك والجحود.
وقوله { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ } وما فيها من نعيم دائم { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } الله - تعالى - وصانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضيه.
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أيها المشركون ما خاطبناكم به فيحملكم هذا التعقل والتدبر إلى الدخول فى الإِيمان، ونبذ الكفر والطغيان.
ثم حكى - سبحانه - سنة من سننه التى لا تتخلف ولا تتبدل فقال: { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا... }
وفى قوله { قَدْ كُذِبُواْ } وردت قراءتان سبعيتان إحداهما بتشديد الذال والثانية بالتخفيف.
وعلى القراءتين فالغاية فى قوله - تعالى - { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ } غاية لكلام محذوف دل عليه السياق.
والمعنى على القراءة التى بالتشديد. لقد أرسلنا رسلنا لهداية الناس، فأعرض الكثيرون منهم عن دعوتهم، ووقفوا منهم موقف المنكر والمعاند والمحارب لهدايتهم، وضاق الرسل ذرعاً بموقف هؤلاء الجاحدين، حتى إذا استيأس الرسل الكرام من إيمان هؤلاء الجاحدين، وظنوا - أى الرسل - أن أقوامهم الجاحدين قد كذبوهم فى كل ما جاءوهم به لكثرة إعراضهم عنهم، وإيذائهم لهم... أى: حتى إذا ما وصل الرسل إلى هذا الحد من ضيقهم بأقوامهم الجاحدين جاءهم نصرنا الذى لا يتخلف.
والمعنى على القراءة الثانية التى هى بالتخفيف: حتى إذا يئس الرسل من إيمان أقوامهم يأساً شديداً، وظن هؤلاء الأقوم أن الرسل قد كذبوا عليهم فيما جاءوهم به، وفيما هددوهم به من عذاب إذا ما استمروا على كفرهم..
حتى إذا ما وصل الأمر بالرسل وبالأقوام إلى هذا الحد، جاء نصرنا الذى لا يتخلف إلى هؤلاء الرسل، فضلاً منا وكرماً...
فالضمير فى قوله { كُذِّبواْ } بالتشديد يعود على الرسل، أما على قراءة التخفيف { كُذِبوا } فيعود إلى الأقوام الجاحدين.
ومنهم من جعل الضمير - أيضاً - على قراءة { كذبوا } بالتخفيف يعود على الرسل، فيكون المعنى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنوا - أى الرسل - أن نفوسهم قد كذبت عليهم فى تحديد موعد انتصارهم على أعدائهم لأن البلاء قد طال. والنصر قد تأخر.. جاءهم - أى الرسل - نصرنا الذى لا يتخلف.
قال الشيخ القاسمى فى بيان هذا المعنى: قال الحكيم الترمذى: ووجهه - أى هذا القول السابق - أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر، أن يتخلف النصر، لا عن تهمة بوعد الله، بل عن تهمة لنفوسهم أن تكون قد أحدثت حدثاً ينقض ذلك الشرط، فكان النصر إذا طال انتظاره واشتد البلاء عليهم، دخلهم الظن من هذه الجهة".
وهذا يدل على شدة محاسبة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لنفوسهم، وحسن صلتهم بخالقهم - عز وجل -.
وقوله - سبحانه - { فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } معطوف على ما قبله، ومتفرع عليه.
أى: جاءهم نصرنا الذى وعدناهم به، بأن أنزلنا العذاب على أعدائهم، فنجا من نشاء إنجاءه وهم المؤمنون بالرسل، ولا يرد بأسنا وعذابنا عن القوم المجرمين عند نزوله بهم.
ثم ختم - سبحانه - هذه السورة الكريمة بقوله: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } أى: لقد كان فى قصص أولئك الأنبياء الكرام وما جرى لهم من أقوامهم، عبرة وعظة لأصحاب العقول السليمة، والأفكار القويمة، بسبب ما اشتمل عليه هذا القصص من حكم وأحكام، وآداب وهدايات.
و { مَا كَانَ } هذا المقصوص فى كتاب الله - تعالى - { حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ } أى يختلق.
{ وَلَـٰكِن } كان { تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب السابقة عليه، كالتوراة والإِنجيل والزبور، فهو المهيمن على هذه الكتب، والمؤيد لما فيها من أخبار صحيحة، والمبين لما وقع فيها من تحريف وتغيير، والحاكم عليها بالنسخ أو بالتقرير.
{ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } أى: وكان فى هذا الكتاب - أيضاً - تفصيل وتوضيح كل شئ من الشرائع المجملة التى تحتاج إلى ذلك.
{ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أى: وكان هداية تامة، ورحمة شاملة، لقوم يؤمنون به، ويعملون بما فيه من أمر ونهى، وينتفعون بما اشتمل عليه من وجوه العبر والعظات.
وبعد: فهذا تفسير لسورة يوسف - عليه السلام - تلك السورة الزاخرة بالحكم والأحكام، وبالآداب والأخلاق، وبالمحاورات والمجادلات، وبأحوال النفوس البشرية فى حبها وبغضها، وعسرها ويسرها، وخيرها وشرها. وعطائها ومنعها وسرها وعلانيتها، ورضاها وغضبها، وحزنها وسرورها.