التفاسير

< >
عرض

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ قَالَ يٰبُشْرَىٰ هَـٰذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
١٩
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ
٢٠
وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢١
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٢٢
-يوسف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فقوله - سبحانه -: { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ... } شروع فى الحديث عما جرى ليوسف من أحداث بعد أن ألقى به إخوته فى الجب.
والسيارة: جماعة المسافرين، وكانوا - كما قيل - متجهين من بلاد الشام إلى مصر.
والوارد: هو الذى يرد الماء ليستقى للناس الذين معه. ويقع هذا اللفظ على الفرد والجماعة. فيقال لكل من يرد الماء وارد، كما يقال للماء مورود.
وقوله { فَأَدْلَىٰ } من الإِدلاء بمعنى إرسال الدلو فى البئر لأخذ الماء.
والدلو: إناء معروف يوضع فيه الماء.
وفى الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام، والتقدير:
وبعد أن ألقى إخوة يوسف به فى الجب وتركوه وانصرفوا لشأنهم، جاءت إلى ذلك المكان قافلة من المسافرين، فأرسلوا واردهم ليبحث لهم عن ماء ليستقوا، فوجد جبا، فأدلى دلوه فيه، فتعلق به يوسف، فلما خرج ورآه فرح به وقال: يا بشرى هذا غلام.
وأوقع النداء على البشرى، للتعبير عن ابتهاجه وسروره، حتى لكأنها شخص عاقل يستحق النداء، أى: يا بشارتى أقبلى فهذا أوان إقبالك.
وقيل المنادى محذوف والتقدير: يا رفاقى فى السفر أبشروا فهذا غلام، وقد خرج من الجب.
وقرأ أهل المدينة ومكة: يا بشراى هذا غلام. بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم. والضمير المنصوب وهو الهاء فى قوله: { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } يعود إلى يوسف.
أما الضمير المرفوع فيعود إلى السيارة، وأسر من الإِسرار الذى هو ضد الإِعلان.
والبضاعة: عرضو التجارة ومتاعها. وهذا اللفظ مأخوذ من البضع بمعنى القطع، وأصله جملة من اللحم تبضع أى: تقطع. وهو حال من الضمير المنصوب فى { وأسروه }.
والمعنى: وأخفى جماعة المسافرين خبر التقاط يوسف من الجب مخافة أن يطلبه أحد من السكان المجاورين للجب، واعتبره بضاعة سرية لهم، وعزموا على بيعه على أنه من العبيد الأرقاء.
ولعل يوسف - عليه السلام - قد أخبرهم بقصته بعد إخراجه من الجب.
ولكنهم لم يلتفتوا إلى ما أخبرهم به طمعا فى بيعه والانتفاع بثمنه.
ومن المفسرين من يرى أن الضمير المرفوع فى قوله { وأسروه } يعود على الوارد ورفاقه، فيكون المعنى:
وأسر الوارد ومن معه أمر يوسف عن بقية أفراد القافلة، مخافة أن يشاركوهم فى ثمنه إذا علموا خبره، وزعموا أن أهل هذا المكان الذى به الجب دفعوه إليهم ليبيعوه لهم فى مصر على أنه بضاعة لهم.
ومنهم من يرى أن الضمير السابق يعود إلى إخوة يوسف.
قال الشوكانى ما ملخصه: وذلك أن يهوذا كان يأتى إلى يوسف كل يوم بالطعام، فأتاه يوم خروجه من الجب فلم يجده، فأخبر إخوته بذلك، فأتوا إلى السيارة وقالوا لهم: "إن الغلام الذى معكم عبد لنا قد أبق، فاشتروه منهم بثمن بخس، وسكت يوسف مخافة أن يأخذه إخوته فيقتلوه".
وعلى هذا الرأى يكون معنى { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً }: أخفى إخوة يوسف كونه أخا لهم، واعتبروه عرضا من عروض التجارة القابلة للبيع والشراء.
ويكون المراد بقوله - تعالى - بعد ذلك { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } الشراء الحقيقى، بمعنى أن السيارة اشتروا يوسف من إخوته بثمن بخس.
والحق أن الرأى الأول هو الذى تطمئن إليه النفس، لأنه هو الظاهر من معنى الآية، ولأنه بعيد عن التكلف الذى يرى واضحا فى القولين الثانى والثالث.
وقوله: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أى: لا يخفى عليه شئ من إسرارهم. ومن عملهم السئ فى حق يوسف. حيث إنهم استرقوه وباعوه بثمن بخس، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم، كما جاء فى الحديث الشريف.
وقوله: - سبحانه - { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِين } بيان لما فعله السيارة بيوسف بعد أن أسروه بضاعة.
وقوله { شروه } هنا بمعنى باعوه.
والبخس: النقص، يقال بخس فلان فلانا حقه، إذا نقصه وعابه. وهو هنا بمعنى المبخوس.
و { دراهم } جمع درهم، وهى بدل من { ثمن }.
و { معدودة } صفة لدراهم، وهى كناية عن كونها قليلة، لأن الشئ القليل يسهل عده، بخلاف الشئ الكثير، فإنه فى الغالب يوزن وزنا.
والمعنى: أن هؤلاء المسافرين بعد أن أخذوا يوسف ليجعلوه عرضا من عروض تجارتهم، باعوه فى الأسواق بثمن قليل تافه، وهو عبارة عن دراهم معدودة، ذكر بعضهم أنها لا تزيد على عشرين درهما.
وقوله: { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ } بيان لعدم حرصهم على بقائه معهم، إذ أصل الزهد قلة الرغبة فى الشئ، تقول زهدت فى هذا الشئ، إذا كنت كارها له غير مقبل عليه.
أى: وكان هؤلاء الذين باعوه من الزاهدين فى بقائه معهم، الراغبين فى التخلص منه بأقل ثمن قبل أن يظهر من يطالبهم به.
قال الآلوسى ما ملخصه: "وزهدهم فيه سببه أنهم التقطوه من الجب، والملتقط للشئ متهاون به لا يبالى أن يبيعه بأى ثمن خوفا من أن يعرض له مستحق ينزعه منه.."
وقوله - سبحانه -: { وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً... } بيان لبعض مظاهر رعاية الله - تعالى - ليوسف - عليه السلام -.
والذى اشتراه، قالوا إنه كان رئيس الشرطة لملك مصر فى ذلك الوقت ولقبه القرآن بالعزيز كما سيأتى فى قوله - تعالى -:
{ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ... } و { مِن مِّصْرَ } صفة لقوله { ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ }.
وامرأته: المراد بها زوجته، واسمها كما قيل زليخا أو راعيل.
ومثواه من المثوى وهو مكان الإِقامة والاستقرار. يقال: ثوى فلان بمكان كذا، إذا أطال الإِقامة به. ومنه قوله - تعالى -
{ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ... } أى مقيما معهم.
أى: وقال الرجل المصرى الذى اشترى يوسف لامرأته: اجعلى محل إقامته كريما، وأنزليه منزلا حسنا مرضيا.
وهذا كناية عن وصيته لها بإكرامه على أبلغ وجه، لأن من أكرم المحل بتنظيفه وتهيئته تهيئة حسنة فقد أكرم صاحبه.
قال صاحب الكشاف: قوله { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } أى: اجعلى منزله ومقامه عندنا كريما: أى حسنا مرضيا بدليل قوله بعد ذلك
{ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ } والمراد تفقديه بالإِحسان، وتعهديه بحسن الملكة، حتى تكون نفسه طيبة فى صحبتنا، ساكنة فى كنفنا. ويقال للرجل: كيف أبو مثواك وأم مثواك؟ لمن ينزل به من رجل أو امرأة، يراد هلى تطيب نفسك بثوائك عنده وهل يراعى حق نزولك به؟ واللام فى { لامرأته } متعلق بقال...".
وقوله: { عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً... } بيان لسبب أمره لها بإكرام مثواه.
أى: عسى هذا الغلام أن ينفعنا فى قضاء مصالحنا، وفى مختلف شئوننا، أو نتبناه فيكون منا بمنزلة الولد، فإنى أرى فيه علامات الرشد والنجابة، وأمارات الأدب وحسن الخلق.
قالوا وهذه الجملة { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } توحى بأنهما لم يكن عندهما أولاد. والكاف فى قوله - سبحانه - { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ } فى محل نصب، على أنه نعت لمصدر محذوف والإِشارة إلى ما تقدم من إنجائه من إخوته، وانتشاله من الجب، ومحبة العزيز له.. و "مكنا" من التمكين بمعنى التثبيت، والمراد بالأرض: أرض مصر التى نزل فيها.
أى: ومثل ذلك التمكين البديع الدال على رعايتنا له، مكنا ليوسف فى أرض مصر، حتى صار أهلا للأمر والنهى فيها.
وقوله - سبحانه - { وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } علة لمعلل محذوف، فكأنه قيل: وفعلنا ذلك التمكين له، لنعلمه من تأويل الأحاديث، بأن نهبه من صدق اليقين، واستنارة العقل، ما يجعله يدرك معنى الكلام إدراكا سليما، ويفسر الرؤى تفسيرا صحيحا صادقا.
وقوله: { وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } تذييل قصد به بيان قدرة الله - تعالى - ونفاذ مشيئته.
فأمر الله هنا: هو ما قدره وأراده.
أى: والله - تعالى - متمم ما قدره وأراده، لا يمنعه من ذلك مانع، ولا ينازعه منازع، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك حق العلم، فيما يأتون ويذرون من أقوال وأفعال.
والتعبير بقوله: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } احتراس لإِنصاف ومدح القلة من الناس الذين يعطيهم الله - تعالى - من فضله ما يجعلهم لا يندرجون فى الكثرة التى لا تعلم، بل هو - سبحانه - يعطيهم من فضله ما يجعلهم يعلمون مالا يعلمه غيرهم.
ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهر إنعامه على يوسف فقال: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ }.
والأشد: قوة الإِنسان، وبلوغه النهاية فى ذلك، مأخوذ من الشدة بمعنى القوة والارتفاع، يقال: شد النهار إذا ارتفع.
ويرى بعضهم أنه مفرد جاء بصيغة الجمع ويرى آخرون أنه جمع لا واحد له من لفظه وقيل هو جمع شدة كأنعم ونعمة.
والمعنى: وحين بلغ يوسف - عليه السلام - منتهى شدته وقوته، وهى السن التى كان فيها - على ما قيل - ما بين الثلاثين والأربعين.
{ آتيناه } أى: أعطيناه بفضلنا وإحساننا.
{ حكما } أى: حكمة، وهى الإِصابة فى القول والعمل أو هى النبوة.
و { علما } أى فقها فى الدين، وفهما سليما لتفسير الرؤى، وإدراكا واسعا لشئون الدين والدنيا.
وقوله: { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } أى: ومثل هذا الجزاء الحسن والعطاء الكريم، نعطى ونجازى الذين يحسنون أداء ما كلفهم الله - تعالى - به، فكل من أحسن فى أقواله وأعماله أحسن الله - تعالى - جزاءه.
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك، لتحدثنا عن مرحلة من أدق المراحل وأخطرها، فى حياة يوسف - عليه السلام - وهى مرحلة التعرض للفتن والمؤامرات بعد أن بلغ أشده، وآتاه الله - تعالى - حكما وعلما، وقد واجه يوسف - عليه السلام - هذه الفتن بقلب سليم، وخلق قويم، فنجاه الله - تعالى - منها.
استمع إلى السورة الكريمة وهى تحكى بأسلوبها البليغ ما فعلته معه امرأة العزيز من ترغيب وترهيب، وإغراء وتهديد... فتقول:
{ وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ... }