التفاسير

< >
عرض

وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ
٢٣
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ
٢٤
وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى ٱلْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٥
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ
٢٦
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ
٢٧
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
٢٨
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ
٢٩
-يوسف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه - { وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ... } رجوع إلى شرح ما جرى ليوسف فى منزل العزيز بعد أن أمر امرأته بإكرام مثواه، وما كان من حال تلك المرأة مع يوسف، وكيف أنها نظرت إليه بعين، تخالف العين التى نظر بها إليه زوجها.
والمراودة - كما يقول صاحب الكشاف - مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب، كأن المعنى: خادعته عن نفسه، أى: فعلت معه ما يفعله المخادع لصاحبه عن الشئ الذى لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهو عبارة عن التحايل لمواقعته إياها.
والتعبير عن حالها معه بالمراودة المقتضية لتكرار المحاولة، للإِشعار بأنها كان منها الطلب المستمر، المصحوب بالإِغراء والترفق والتحايل على ما تشتهيه منه بشتى الوسائل والحيل. وكان منه - عليه السلام - الإِباء والامتناع عما تريده خوفا من الله - تعالى..
وقال - سبحانه - { ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا } دون ذكر لاسمها، سترا لها، وابتعادا عن التشهير بها، وهذا من الأدب السامى الذى التزمه القرآن فى تعبيراته وأساليبه، حتى يتأسى أتباعه بهذا اللون من الأدب فى التعبير.
والمراد ببيتها: بيت سكناها، والإِخبار عن المراودة بأنها كانت فى بيتها. أدعى لإظهار كمال نزاهته عليه السلام - فإن كونه فى بيتها يغرى بالاستجابة لها، ومع ذلك فقد أعرض عنها، ولم يطاوعها فى مرادها.
وعدى فعل المراودة بعن، لتضمنه معنى المخادعة.
قال بعض العلماء: و "عن" هنا للمجاوزة، أى: راودته مباعدة له عن نفسه، أى: بأن يجعل نفسه لها، والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن الكريم، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة، قاله ابن عطيه، أى: فالنفس أريد به عفافه وتمكينها منه لما تريد، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه فى نفسه".
وقوله { وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ } أى: أبواب بيت سكناها الذى تبيت فيه بابا فباباً، قيل: كانت الأبواب سبعة.
والمراد أنها أغلقت جميع الأبواب الموصلة إلى المكان الذى راودته فيه إغلاقا شديدا محكما، كما يشعر بذلك التضعيف فى "غلّقت" زيادة فى حمله على الاستجابة لها.
ثم أضافت إلى كل تلك المغريات أنها قالت له: هيت لك، أى: هأنذا مهيئة لك فأسرع فى الإِقبال على...
وهذه الدعوة السافرة منها له، تدل على أنه تلك المرأة كانت قد بلغت النهاية فى الكشف عن رغبتها، وأنها قد خرجت من المألوف من بنات جنسها، فقد جرت العادة أن تكون المرأة مطلوبة لا طالبة...
و "هيت" اسم فعل أمر بمعنى أقبل وأسرع، فهى كلمة حض وحث على الفعل، واللام فى "لك" لزيادة بيان المقصود بالخطاب، كما فى قولهم: سقيا لك وشكراً لك. وهى متعلقة بمحذوف فكأنما تقول: إرادتى كائنة لك.
قال الجمل ما ملخصه: "ورد فى هذه الكلمة قراءات: "هَيتِ" كليت، و "هِيتَ" كفيل و "هَيتُ" كحيث، و "هِيئتُ" بكسر الهاء وضم التاء، و "هِئتَ" بكسر الهاء وفتح التاء.
ثم قال: فالقراءات السبعية خمسة، وهذه كلها لغات فى هذه الكلمة، وهى فى كلها اسم فعل بمعنى هلم أى أقبل وتعال.
وقوله - سبحانه - { قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ }
بيان لما ردّ به يوسف عليها، بعد أن تجاوزت فى إثارته كل حد.
و "معاذ" مصدر أضيف إلى لفظ الجلالة، وهو منصوب بفعل محذوف أى: قال يوسف فى الرد عليها: أعوذ بالله معاذا مما تطلبينه منى، وأعتصم به اعتصاما مما تحاولينه معى، فإن ما تطلبينه وتلحين فى طلبه يتنافى مع الدين والمروءة والشرف.. ولا يفعله إلا من خبث منبته، وساء طبعه، وأظلم قلبه.
وقوله: { إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ } تعليل لنفوره مما دعته إليه، واستعاذ بالله منه.
والضمير فى "إنه" يصح أن يعود إلى الله - تعالى - فيكون لفظ ربى بمعنى خالقى. والتقدير: قال يوسف فى الرد عليها: معاذ الله أن أفعل الفحشاء والمنكر، بعد أن أكرمنى الله - تعالى - بما أكرمنى به من النجاة من الجب، ومن تهيئة الأسباب التى جعلتنى أعيش معززا مكرما، وإذا كان - سبحانه - قد حبانى كل هذه النعم فيكف أرتكب ما يغضبه؟
وجوز بعضهم عودة الضمير فى "إنه" إلى زوجها، فيكون لفظ ربى بمعنى سيدى ومالكى، والتقدير: معاذ الله أن أقابل من اشترانى بماله، وأحسن منزلى، وأمرك بإكرامى - بالخيانة له فى عرضه.
وفى هذه الجملة الكريمة تذكير لها بألطف أسلوب بحقوق الله - تعالى - وبحقوق زوجها، وتنبيه لها إلى وجوب الإقلاع عما تريده منه من مواقعتها، لأنه يؤدى إلى غضب الله وغضب زوجها عليها.
وجملة { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } تعليل آخر لصدها عما تريده منه.
والفلاح: الظفر وإدراك المأمول.
أى: إن كل من ارتكب ما نهى الله - تعالى - عنه، تكون عاقبته الخيبة والخسران وعدم الفلاح فى الدنيا والآخرة فكيف تريدين منى أن أكون كذلك؟
هذا، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يرى أن القرآن الكريم قد قابل دواعى الغواية الثلاث التى جاهرت بها امرأة العزيز والمتمثلة فى المراودة، وتغليق الأبواب، وقولها، هيت لك: بدواعى العفاف الثلاث التى رد بها عليها يوسف، والمتمثلة فى قوله - كما حكى القرآن عنه - { مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ }.
وذلك ليثبت أن الاعتصام بالعفاف والشرف والأمانة، كان سلاح - يوسف - عليه السلام - فى تلك المعركة العنيفة بين نداء العقل ونداء الشهوة...
ولكن نداء العقل ونداء الشهوة الجامحة لم ينته عند هذا الحد، بل نرى القرآن الكريم يحكى لنا بعد ذلك صداما آخر بينهما فيقول: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ... }.
وهذه الآية الكريمة من الآيات التى خلط المفسرون فيها بين الأقوال الصحيحة والأقوال السقيمة.
وسنبين أولا الرأى الذى نختاره فى تفسيرها، ثم نتبعه بعد ذلك بغيره فنقول: ألهّم: المقاربة من الفعل من غير دخول فيه، تقول هممت على فعل هذا الشئ، إذا أقبلت نفسك عليه دون أن تفعله.
وقال: بعض العلماء: الهم نوعان: هم ثابت معه عزم وعقد ورضا، وهو مذموم مؤاخذ به صاحبه، وهَمٌّ بمعنى خاطر وحديث نفس، من غير تصميم وهو غير مؤاخذ به صاحبه، لأن خطور المناهى فى الصدور، وتصورها فى الأذهان، لا مؤاخذة بها ما لم توجد فى الأعيان.
روى الشيخان وأهل السنن عن أبى هريرة، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به" .
وقد أجمع العلماء على أن همَّ امرأة العزيز بيوسف كان هما بمعصية، وكان مقرونا بالعزم والجزم والقصد، بدليل المراودة وتغليق الأبواب، وقولها "هيْت لك".
كما أجمعوا على أن يوسف - عليه السلام - لم يأت بفاحشة، وأن همه كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية: من غير جزم وعزم...
وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف، ولا يخل بمقام النبوّة، كالصائم يرى الماء البارد فى اليوم الشديد الحرراة، فتميل نفسه إليه، ولكن دينه يمنعه من الشرب منه، فلا يؤاخذ بهذا الميل.
والمراد ببرهان ربه هو: ما غرسه الله - تعالى - فى قلبه من العلم المصحوب بالعمل، بأن هذا الفعل الذى دعته إليه امرأة العزيز قبيح، ولا يليق به.
أو هو - كما يقول ابن جرير - رؤيته من آيات الله ما زجره عما كان همّ به..
والمعنى: ولقد همت به، أى: ولقد قصدت امرأة العزيز مواقعة يوسف - عليه السلام - قصداً جازما، بعد أن أغرته بشتى الوسائل فلم يستجب لها...
{ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى: ومال إلى مطاوعتها بمقتضى طبيعته البشرية وبمقتضى توفر كل الدواعى لهذا الميل...
ولكن مشاهدته للأدلة على شناعة المعصية، وخوفه لمقام ربه، وعون الله - تعالى - له على مقاومة شهوته... كل ذلك حال بينه وبين تنفيذ هذا الميل، وصرفه عنه صرفا كليا، وجعله يفر هاربا طالبا النجاة مما تريده منه تلك المرأة.
هذا هو الرأى الذى نختاره فى تفسير هذه الآية الكريمة، وقد استخلصناه من أقوال المفسرين القدامى والمحدثين.
فمن المفسرين القدامى الذين ذكروا هذا الرأى صاحب الكشاف، فقد قال ما ملخصه.
وقوله - تعالى - { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } معناه: ولقد همت بمخالطته؛ "وهم بها" أى: وهم بمخالطتها { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } جوابه محذوف تقديره؛ لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، فحذف لأن قوله وهم بها يدل عليه، كقولك: هممت بقتله لولا أنى خفت الله. معناه: لولا أنى خفت الله لقتلته.
فإن قلت: كيف جاز على نبى الله أن يكون منه هم بالمعصية؟
قلت: المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة، ونازعت إليها عن شهوة الشباب، ميلا يشبه الهم به، وكما تقتضيه تلك الحال التى تكاد تذهب بالعقول والعزائم، وهو يكسر ما به، ويرده بالنظر فى برهان الله المأخوذ على المكلفين بوجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته، لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع، لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته، ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه بأنه من عباده المخلصين"
ومن المفسرين المحدثين الذين ذكروا هذا الرأى الإمام الآلوسى، فقد قال ما ملخصه: قوله: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى: بمخالطته.. والمعنى: أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما، لا يلويها عنها صارف بعدما باشرت مباديها...
والتأكيد - باللام وقد - لدفع ما يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه.
{ وَهَمَّ بِهَا } أى: مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية... ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف، وليس المراد أنه قصدها قصدا اختياريا، لأن ذلك أمر مذموم تنادى الآيات بعدم اتصافه به، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه فى صحبة همها فى الذكر على سبيل المشاكلة لا لشبهه به... { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى محبته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا، وسوء سبيله.
والمراد برؤيته له: كمال إيقانه به، ومشاهدته له مشاهدة وصلت إلى مرتبة عين اليقين...".
ومن المفسرين من يرى أن المراد بهما به: الهم بضربه نتيجة عصيانه لأمرها.
وأن المراد بهمه بها: الدفاع عن نفسه برد الاعتداء، ولكنه آثر الهرب.
وقد قرر هذا الرأى ودافع عنه وأنكر سواه صاحب المنار، فقد قال ما ملخصه:
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى: وتالله لقد همت المرأة بالبطش به لعصيانه لأمرها، وهى فى نظرها سيدته وهو عبدها، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها، بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه... فخرجت بذلك عن طبع أنوثتها فى التمنع.. مما جعلها تحاول البطش به بعد أن أذل كرامتها، وهو انتقام معهود من مثلها، وممن دونها فى كل زمان ومكان..
وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله، وهو قوله - تعالى - { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ولكنه رأى من برهان ربه فى سريرة نفسه، ما هو مصداق قوله - تعالى -
{ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } وهو إما النبوة... وإما معجزتها.. وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا، وهى مراقبته لله - تعالى - ورؤيته ربه متجليا له، ناظرا إليه".
وما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم منها بالبطش بيوسف، وتفسير الهم منه برد الاعتداء الذى وقع عليه منها... أقول: ما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم بذلك، لا أرى دليلا عليه من الآية، لا عن طريق الإِشارة، ولا عن طريق العبارة...
ولعل صاحب المنار -رحمه الله - أراد بهذا التفسير أن يبعد يوسف - عليه السلام - عن أن يكون قد هم بها هم ميل بمقتضى الطبيعة البشرية، ونحن لا نرى مقتضيا لهذا الإِبعاد، لأن خطور المناهى فى الأذهان، لا مؤاخذة عليها، ما دامت لم يصاحبها عزم أو قصد - كما سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل.
هذا وهناك أقوال أخرى لبعض المفسرين فى معنى الآية الكريمة، رأينا أن نضرب عنها صفحا؛ لأنه لا دليل عليها لا من العقل ولا من النقل ولا من اللغة... وإنما هى من الأوهام الإِسرائيلية التى تتنافى كل التنافى مع أخلاق عباد الله المخلصين، الذين على رأسهم يوسف - عليه السلام.
قوله - سبحانه - { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله - تعالى - به، ورعايته له.
والكاف: نعت لمصدر محذوف والإِشارة بذلك إلى الإِراءة المدلول عليها بقوله { لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك.
والصرف: نقل الشئ من مكان إلى مكان والمراد به هنا: الحفظ من الوقوع فيما نهى الله عنه، أى: أريناه مثل هذه الإِراءة أو ثبتناه تثبيتا مثل هذا التثبيت لنعصمه ونحفظه ونصونه عن الوقوع فى السوء - أى فى المنكر والفجور والمكروه - والفحشاء - أى كل ما فحش وقبح من الأفعال كالزنا ونحوه.
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } - بفتح اللام - أى: إنه من عبادنا الذين أخلصناهم لطاعتنا وعصمناهم من كل ما يغضبنا.
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو "المخلصين" - بكسر اللام - أى: إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم لنا.
والجملة الكريمة على القراءتين تعليل لحكمة صرفه - عليه السلام - عن السوء والفحشاء.
وقوله - سبحانه - { وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ... } متصل بقوله - سبحانه - قبل ذلك { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ... } وقوله { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ... } اعتراض جئ به بين المتعاطفين تقريرا لنزاهته.
وقوله { وَٱسْتَبَقَا.. } من الاستباق وهو افتعال من السبق بمعنى أن كل واحد منهما يحاول أن يكون هو السابق إلى الباب.
ووجه تسابقهما: أن يوسف - عليه السلام - أسرع بالفرار من أمامها إلى الباب هروبا من الفاحشة التى طلبتها منه. وهى أسرعت خلفه لتمنعه من الوصول إلى الباب ومن الخروج منه.
وأفرد - سبحانه - الباب هنا، وجمعه فيما تقدم، لأن المراد به هنا الباب الخارجى، الذى يخلص منه يوسف إلى خارج الدار، وهو منصوب هنا على نزع الخافض أى: واستبقا إلى الباب.
وجملة { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } حالية، والقد: القطع والشق، وأكثر استعماله فى الشق والقطع الذى يكون طولا، وهو المراد هنا، لأن الغالب أنها جذبته من الخلف وهو يجرى أمامها فانخرق القميص إلى أسفله.
وقوله: { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى ٱلْبَابِ } أى: وصادفا ووجدا زوجها عند الباب الذى تسابقا للوصول إليه.
قالوا: والتعبير عن الزوج بالسيد، كان عادة من عادات القوم فى ذلك الوقت، فعبر عنه القرآن بذلك حكاية لدقائق ما كان متبعا فى التاريخ القديم.
وقال - سبحانه - { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا } لأن ملك العزيز ليوسف - عليه السلام - لم يكن ملكا صحيحا، فيوسف ليس رقيقا يباع ويشترى، وإنما هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وبيع السيارة له، إنما كان على سبيل التخلص منه بعد أن التقطوه من الجب.
وقوله - سبحانه - { قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } حكاية لما قالته لزوجها عندما فوجئت به عند الباب وهى تسرع وراء يوسف.
أى قالت تلك المرأة لزوجها عندما فوجئت به لدى الباب: ليس من جزاء لمن أراد بأهلك - تعنى نفسها - سوءا، أى ما يسوءك ويؤلمك، إلا أن يسجن، عقوبة له، أو أن يعذب عذابا أليما عن طريق الضرب أو الجلد، لتجاوزه الحدود، واعتدائه على أهلك.
وهذه الجملة الكريمة التى حكاها القرآن الكريم عنها، تدل على أن تلك المرأة كانت فى نهاية المكر والدهاء والتحكم فى إرادة زوجها...
ورحم الله الآلوسى فقد علق على قولها هذا الذى حكاه القرآن عنها بقوله ما ملخصه: "ولقد آتت - تلك المرأة - فى هذه الحالة التى يدهش فيها الفطن اللوذعى - حيث شاهدها زوجها على تلك الحالة المريبة - بحيلة جمعت فيها غرضيها، وهما تبرئة ساحتها مما يلوح من ظاهر حالها، واستنزال يوسف عن رأيه فى استعصائه عليها، وعدم طاعته لها، بإلقاء الرعب فى قلبه...
ولم تصرح بالاسم، بل أتت بلفظ عام { مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا... } تهويلا للأمر، ومبالغة فى التخويف، كأن ذلك قانون مطرد فى حق كل من أراد بأهله سوءاً.
وذكرت نفسها بعنوان أهلية العزيز، إعظاما للخطب...
ثم إن حبها الشديد ليوسف - عليه السلام - حملها على أن تبدأ بذكر السجن، وتؤخر ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى فى إيلام المحبوب، لا سيما أن قولها: "إلا أن يسجن..." قد يكون المراد منه السجن لمدة يوم أو يومين...".
والحق أن هذه الجملة التى حكاها القرآن عنها، تدل على اكتمال قدرتها على المكر والدهاء - كما سبق أن أشرنا - ومن مظاهر ذلك، محاولتها إيهام زوجها بأن يوسف قد اعتدى عليها بما يسوؤها ويسوؤه، ولكن بدون تصريح بهذا العدوان - شأن العاشق مع معشوقه - حتى لا يسعى زوجها فى التخلص منه ببيعه - مثلا - .
وفى الوقت نفسه إفهام يوسف عن طريق مباشر، بأن أمره بيدها لا بيد زوجها، وأنها هى الآمرة الناهية، فعليه أن يخضع لما تريده منه، وإلا فالسجن أو العذاب الأليم هو مصيره المحتوم.
وهنا نجد يوسف - عليه السلام - لا يجد مفرا من الرد على هذا الاتهام الباطل، فيقول - كما حكى القرآن عنه -: { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي... }.
أى: قال يوسف مدافعا عن نفسه: إنى ما أردت بها سوءا كما تزعم وإنما هى التى بالغت فى ترغيبى وإغرائى بارتكاب ما لا يليق معها..
ثم قال - تعالى -: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ }.
وهذا الشاهد ذهب بعضهم إلى أنه كان ابن خال لها، وقيل ابن عم لها..
قال صاحب المنار: "ولكن الرواية عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك، أنه كان صبيا فى المهد، ويؤيدها ما رواه أحمد وابن جرير والبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال:
"تكلم فى المهد أربعة وهم: صغار ابن ماشطة ابنة فرعون. وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى بن مريم" .
وروى ابن جرير عن أبى هريرة قال: "عيسى ابن مريم وصاحب يوسف وصاحب جريج تكلموا فى المهد" وهذا موقوف، والمرفوع ضعيف، وقد اختاره ابن جرير، وحكاه ابن كثير بدون تأييد ولا تضعيف.."
وعلى أية حال فالذى يهمنا أن الله - تعالى - قد سخر فى تلك اللحظة الحرجة، من يدلى بشهادته لتثبت براءة يوسف أمام العزيز.
وألقى الله - تعالى - هذه الشهادة على لسان من هو من أهلها، لتكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه.
وقد قال هذا الشاهد فى شهادته - كما حكى القرآن عنه - { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } أى: من أمام { فَصَدَقَتْ } فى أنه أراد بها سوءا، لأن ذلك يدل على أنها دافعته من الأمام وهو يريد الاعتداء عليها. { وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } فى قوله { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي }.
{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } أى من خلف { فَكَذَبَتْ } فى دعواها على أنه أراد بها سوءا، لأن ذلك يدل على أنه حاول الهرب منها، فتعقبته حتى الباب، وأمسكت به من الخلف { وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } فى دعواه أنها راودته عن نفسه.
وسمى القرآن الكريم ذلك الحكم بينهما شهادة، لأن قوله هذا يساعد على الوصول إلى الحق فى قضية التبس فيها الأمر على العزيز.
وقدم الشاهد فى شهادته الغرض الأول وهو - إن كان قميصه قد من قبل - لأنه إن صح يقتضى صدقها، وقد يكون هو حريصا على ذلك بمقتضى قرابته لها، إلا أن الله - تعالى - أظهر ما هو الحق، تكريما ليوسف - عليه السلام - أو يكون قد قدم ذلك باعتبارها سيدة، ويوسف فتى، فمن باب اللياقة أن يذكر الفرض الأول رحمة بها.
وزيادة جملة { وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } بعد "فصدقت" وزيادة جملة { وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } بعد "فكذبت" تأكيد لزيادة تقرير الحق كما هو الشأن فى إصدار الأحكام.
وقوله - سبحانه - { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ... } بيان لما قاله زوجها بعد أن انكشفت له الحقيقة انكشافا تاما.
أى: فلما رأى العزيز قميص يوسف قد قطع من الخلف. وجه كلامه إلى زوجته معاتبا إياها بقوله: إن محاولتك اتهام يوسف بما هو برئ منه، هو نوع من "كيدكن" ومكركن وحيلكن { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } فى بابه، لأن كثيرا من الرجال لا يفطنون إلى مراميه.
وهكذا واجه ذلك الرجل خيانة زوجه له بهذا الأسلوب الناعم الهادئ، بأن نسب كيدها ومكرها لا إليها وحدها بل الجنس كله { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ }.
ثم وجه كلامه إلى يوسف فقال له { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا } أى: يا يوسف أعرض عن هذا الأمر الذى دار بينك وبينها فاكتمه. ولا تتحدث به خوفا من الفضيحة، وحفاظا على كرامتى وكرامتها.
وقوله: { وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ } خطاب منه لزوجته التى ثبتت عليها الجريمة ثبوتا تاما.
أى: واستغفرى الله من ذنبك الذى وقع منك، بإساءتك فعل السوء مع يوسف، ثم اتهامك له بما هو برئ منه.
وجملة: { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ } تعليل لطلب الاستغفار. أى توبى إلى الله مما حدث منك، لأن ما حدث منك مع يوسف جعلك من جملة القوم المتعمدين لارتكاب الذنوب، وجعلها من جملة الخاطئين للتخفيف عليها فى المؤاخذة.
وهكذا نجد هذا الرجل - صاحب المنصب الكبير - يعالج الجريمة التى تثور لها الدماء فى العروق، وتستلزم حسما وجزما فى الأحكام، بهذا الأسلوب الهادئ البارد، شأن المترفين فى كل زمان ومكان، الذين يهمهم ظواهر الأمور دون حقائقها وأشكالها دون جواهرها، فهو يلوم امرأته لوما خفيفا يشبه المدح، ثم يطلب من يوسف كتمان الأمر، ثم يطلب منها التوبة من ذنوبها المتعمدة.. ثم تستمر الأمور بعد ذلك على ما هى عليه من بقاء يوسف معها فى بيتها، بعد أن كان منها معه ما يستلزم عدم اجتماعهما.
هذا ومن العبر والعظات والأحكام التى نأخذها من هذه الآيات الكريمة:
1 - أن اختلاط الرجال بالنساء. كثيرا ما يؤدى إلى الوقوع فى الفاحشة وذلك لأن ميل الرجل إلى المرأة وميل المرأة إلى الرجل أمر طبيعى، وما بالذات لا يتغير.
ووجود يوسف - عليه السلام - مع امرأة العزيز تحت سقف واحد فى سن كانت هى فيه مكتملة الأنوثة، وكان هو فيها فتى شابا جميلا.. أدى إلى فتنتها به، وإلى أن تقول له فى نهاية الأمر بعد إغراءات شتى له منها: { هَيْتَ لَكَ }.
ولا شك أن من الأسباب الأساسية التى جعلتها تقول هذا القول العجيب وجودهما لفترة طويلة تحت سقف واحد.
لذا حرم الإِسلام تحريما قاطعا الخلوة بالأجنبية، سدا لباب الوقوع فى الفتن، ومنعا من تهيئة الوسائل للوقوع فى الفاحشة.
ومن الأحاديث التى وردت فى ذلك ما رواه الشيخان عن عقبة بن عامر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار، أفرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت" والحمو هو قريب الزوج كأخيه وابن عمه.
وسئلت امرأة انحرفت عن طريق العفاف، لماذا كان منك ذلك فقالت: قرب الوساد، وطول السواد.
أى: حملنى على ذلك قربى ممن أحبه وكثرة محادثتى له!
2 - أن هم الإِنسان بالفعل، ثم رجوعه عنه قبل الدخول فى مرحلة التصميم والتنفيذ، لا مؤاخذة فيه.
قال القرطبى ما ملخصه: "الهم الذى هم به يوسف، من نوع ما يخطر فى النفس، ولا يثبت فى الصدر، وهو الذى رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه".
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"قالت الملائكة يا ربنا ذلك عبدك يريد أن يعمل السيئة - وهو أبصر به - فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من أجلى" .
وفى الصحيح: "إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به" .
3 - أن من الواجب على المؤمن إذا ما دعى إلى معصية أن يستعيذ بالله من ذلك، وأن يذكِّر الداعى له بضررها، وبسوء عاقبة المرتكب لها.. كما قال يوسف - عليه السلام - { مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ }.
4 - أن يوسف - عليه السلام - قد خرج من هذه المحنة مشهودا له بالبراءة ونقاء العرض، من الله - تعالى - ومن خلقه الذين سخرهم لهذه الشهادة.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة، يوسف - عليه السلام - وتلك المرأة وزوجها، ورب العالمين.. والكل شهد ببراءة يوسف عن المعصية، أما يوسف - عليه السلام - فقد قال { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } وقال: { قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ }..
وأما امرأة العزيز فقد قالت:
{ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } وأما زوجها فقد قال: { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ.. }
أما شهادة رب العالمين ببراءته ففى قوله - تعالى -: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ }.
فقد شهد الله - تعالى - على طهارته فى هذه الآية أربع مرات، أولها: "لنصرف عنه السوء" وثانيها "الفحشاء" وثالثها "إنه من عبادنا" ورابعها "المخلصين".
5 - أن موقف العزيز من امرأته كان موقفا ضعيفا متراخيا.. وهذا الموقف هو الذى جعل تلك المرأة المتحكمة فى زمام زوجها، تقول بعد ذلك بكل تبجح وتكشف واستهتار:
{ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } 6 - أن القرآن الكريم صور تلك المحنة فى حياة يوسف وامرأة العزيز، تصويرا واقعيا صادقا، ولكن بأسلوب حكيم، بعيد عما يخدش الحياء أو يجرح الشعور.
قال بعض العلماء: "والذى خطر لى أن قوله - تعالى - { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } هو نهاية موقف طويل من الإِغراء، بعدما أبى يوسف فى أول الأمر واستعصم، وهو تصوير واقعى صادق لحالة النفس البشرية الصالحة فى المقاومة والضعف، ثم الاعتصام بالله فى النهاية والنجاة، ولكن السياق القرآنى لم يفصل فى تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة، لأنه المنهج القرآنى لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة فى محيط القصة وفى محيط الحياة البشرية المكتملة كذلك فذكر طرفى الموقف بين الاعتصام فى أوله والاعتصام فى نهايته، مع الإِلمام بلحظة الضعف بينهما، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا.."
ثم حكت السورة الكريمة بعد ذلك ما قالته بعض النساء، بعد ان شاع خبر امرأة العزيز مع فتاها، وما فعلته معهن من أفعال تدل على شدة مكرها ودهائها، وما قاله يوسف - عليه السلام - بعد أن سمع ما سمع من تهديدهن وإغرائهن.. قال - تعالى -:
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ... }.