التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
٥٠
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٥١
ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ
٥٢
وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥٣
وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ
٥٤
قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
٥٥
وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٦
وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٥٧
-يوسف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فقوله - سبحانه - { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ... } حكاية لما طلبه الملك فى ذلك الوقت من معاونيه فى شأن يوسف - عليه السلام -، وفى الكلام حذف يفهم من المقام، والتقدير:
وقال الملك بعد أن سمع من ساقيه ما قاله يوسف فى تفسير الرؤيا أحضروا لى يوسف هذا لأراه وأسمع منه، وأستفيد من علمه.
وهذا يدل - كما يقول الإِمام الرازى - على فضيلة العلم، فإنه - سبحانه - جعل ما علمه ليوسف سببا لخلاصه من المحنة الدنيوية، فكيف لا يكون العلم سببا للخلاص من المحن الأخروية.
وقوله - سبحانه - { فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } بيان لما قاله يوسف - عليه السلام - لرسول الملك...
أى: فلما جاء رسول الملك إلى يوسف بأناة وإباء: ارجع إلى ربك، أى إلى سيدك الملك "فاسأله" قبل خروجى من السجن وذهابى إليه { مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أى: ما حالهن، وما حقيقة أمرهن معى، لأن الجميع أننى برئ، وأننى نقى العرض طاهر الذيل.
والمراد بالسؤال فى قوله { ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ } الحث والتحريض على معرفة حقيقة أمر النسوة اللائى قطعن أيديهن...
ولم يكشف له يوسف عن حقيقة أمرهن معه لزيادة تهييجه على البحث والتقصى إذ من شأن الإِنسان - خصوصا إذا كان - حاكما - أن يأنف من أن يسأل عن شئ مهم، ثم لا يهتم بالإِجابة عنه.
وقد آثر يوسف - عليه السلام - أن يكون هذا السؤال وهو فى السجن لتظهر الحقيقة خالصة ناصعة، دون تدخل منه فى شأنها.
وجعل السؤال عن النسوة اللائى قطعن أيديهن دون امرأة العزيز، وفاء لحق زوجها، واحترازا من مكرها، ولأنهن كن شواهد على إقرارها بأنها قد راودته عن نفسه، فقد قالت أمامهن بكل تبجح وتكشف
{ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } واكتفى بالسؤال عن تقطيع أيديهن، دون التعرض لكيدهن له، سترا لهن، وتنزها منه - عليه السلام - عن ذكرهن بما يسؤوهن.
ولذا فقد اكتفى بالإِشارة الإِجمالية إلى كيدهن، وفوض أمرهن إلى الله - تعالى - فقال: { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }.
أى إن ربى وحده هو العليم بمكرهن بى، وكيدهن لى، وهو - سبحانه - هو الذى يتولى حسابهن على ذلك.
ولا شك فى امتناع يوسف - عليه السلام - عن الذهاب إلى الملك إلا بعد التحقيق فى قضيته، يدل دلالة واضحة على صبره، وسمو نفسه، وعلو همته...
ولقد أجاد صاحب الكشاف فى تعليله لامتناع يوسف عن الخروج من السجن للقاء الملك إلا بعد أن تثبت براءته فقال:
"إنما تأنى وتثبت يوسف فى إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة، ليظهر براءة ساحته عما قذف به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده. ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا: ما خلد فى السجن إلا لأمر عظيم، وجرم كبير، حق به أن يسجن ويعذب، ويستكف شره.
وفيه دليل على أن الاجتهاد فى نفى التهم، واجب وجوب اتقاء الوقوف فى مواقفها"
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث فى فضل يوسف - عليه السلام - فقال ما ملخصه:
وقد وردت السنة بمدحه على ذلك - أى على امتناعه من الخروج من السجن حتى يتحقق الملك ورعيته من براءة ساحته ونزاهة عرضه - ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: رب أرنى كيف تحيى الموتى؟ قال: أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبى، ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوى إلى ركن شديد، ولو لبثت فى السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعى" .
وروى الإِمام أحمد عن أبى هريرة فى قوله - تعالى - { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ... } أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: "لو كنت أنا لأسرعت الإِجابة، وما ابتغيت العذر".
وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -:
"لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه؛ والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترط أن يخرجونى.
ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له، حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه لبادرتهم إلى الباب، ولكنه أراد أن يكون له العذر"
.
هذا، وقوله - سبحانه - { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } حكاية لما فعله الملك بعد أن بلغه الرسول بما طلبه يوسف منه.
وفى الكلام حذف يفهم من السياق، والتقدير: وبعد أن رجع رسول الملك إليه وأخبره بما قاله يوسف، استجاب الملك لما طلبه يوسف منه، فأحضر النسوة وقال لهن: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه.
والخطب: مصدر خطب يخطب، ويطلق - غالبا - على الأمر المهم الذى يجعل الناس يتحدثون فيه كثيراً، وجمعه خطوب.
والمعنى: بعد أن جمع الملك النسوة قال لهن: ما الأمر الهام الذى حملكن فى الماضى على أن تراودن يوسف عن نفسه؟ وهل وجدتن فيه ميلا إلى الاستجابة لكنَّ.."
قال صاحب الظلال ما ملخصه: "والخطب الأمر الجلل... فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن، وهو المعتاد فى مثل هذه الأحوال، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه، فهو يواجههن مقررا الاتهام، ومشيرا إلى أمر لهن جلل..
ومن هذا نعلم شيئاً بما دار فى حفل الاستقبال فى بيت الوزير، وما قالته النسوة ليوسف، وما لمحن به وأشرن إليه، من الإِغراء الذى بلغ حد المراودة.
ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى فى ذلك العهد الموغل فى التاريخ، فالجاهلية هى الجاهلية دائماً، وِأنه حيثما كان الترف، وكانت القصور والحاشية، كان التحلل والتميع والفجور الناعم الذى يرتدى ثياب الأرستقراطية".
وأمام هذه المواجهة التى واجههن بها الملك، لم يملكن الإِنكار، بل قلن بلسان واحد: { حَاشَ للَّهِ } أى: معاذ الله.
{ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ } قط، وإنما الذى علمناه منه هو الاستعصام عن كل سوء.
وهنا { قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ } ويبدو أنها كانت حاضرة، معهم عند الملك.
{ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ } أى: الآن ظهر الحق وانكشف انكشافا تاما بعد أن كان خافيا والفعل حصحص أصله حص، كما قيل، كبكب فى كب، وهو مأخوذ من الحص بمعنى الاستئصال والإِزالة، تقول: فلان حص شعره إذا استأصله وأزاله فظهر ما كان خافيا من تحته...
ثم أضافت إلى ذلك قولها { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ } أى: أنا التى طلبت منه ما طلبت { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } فى قوله
{ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } وهكذا يشاء الله - تعالى - أن تثبت براءة يوسف على رءوس الأشهاد، بتلك الطريقة التى يراها الملك، وتنطق بها امرأة العزيز، والنسوة اللائى قطعن أيديهن.
قال صاحب الكشاف: "ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة، واعترافهن على أنفسهن بأنه لم يتعلق بشئ مما قذفنه به لأنهن خصومة، وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل لم يبق لأحد مقال" - إذ الفضل ما شهدت به الأعداء -.
ثم وصلت امرأة العزيز حديثها فقالت: { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ }.
أى: ذلك الذى قلته واعترفت به على نفسى من أنى راودته عن نفسه، إنما قلته ليلعم يوسف أنى لم أخنه فى غيبته، ولم أقل فيه شيئاً يسوؤه بعد أن فارقنى، ولبث بعيدا عنى فى السجن بضع سنين، وإنما أنا أقرر أمام الملك وحاشيته بأنه من الصادقين...
وإنما قررت ذلك لأن الله - تعالى - لا يهدى كيد الخائنين، أى: لا ينفذ كيدهم ولا يسدده، بل يفضحه ويزهقه ولو بعد حين من الزمان.
لذا فأنا التزمت الأمانة فى الحديث عنه، وابتعدت عن الخيانة، لأن الله - تعالى - لا يرضاها ولا يقبلها.
فأنت ترى أن هذه المرأة التى شهدت على نفسها شهادة لا تبالى بما يترتب عليها بشأنها، قد عللت شهادتها هذه بعلتين:
إحداهما: كراهتها أن تخونه فى غيبته بعد أن فقد الدفاع عن نفسه وهو فى السجن..
وثانيتهما: علمها بأن الله - تعالى - لا يهدى كيد الخائنين ولا يسدده، وإنما يبطله ويزهقه...
ثم أضافت إلى كل ذلك قولها: { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
أى: ومع أنى أعترف بأنه من الصادقين، وأعترف بأنى لم أخنه بالغيب، إلا أنى مع كل ذلك لا أبرئ نفسى ولا أنزهها عن الميل إلى الهوى، وعن محاولة وصفه بما هو برئ منه، فأنا التى قلت لزوجى فى حالة دهشتى وانفعالى الشديد،
{ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وما حملنى على هذا القول إلا هواى وشهواتى، ونفسى؛ إن النفس البشرية لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء إلا نفسا رحمها الله وعصمها من الزلل والانحراف، كنفس يوسف - عليه السلام -.
وجملة { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تعليل لما قبلها، أى: إن ربى كثير الغفران وكثير الرحمة، لمن يشاء أن يغفر له ويرحمه من عباده.
والذى يتأمل هذا الكلام الذى حكاه القرآن عن امرأة العزيز، يراه زاخرا بالصراحة التى ليس بعدها صراحة، وبالمشاعر والانفعالات الدالة على احترامها ليوسف الذى خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، رغم الإِغراءات المصحوبة بالترغيب والترهيب، ويبدو لنا - والله أعلم - أن هذا الكلام ما قالته امرأة العزيز، إلا بعد أن استقرت عقيدة الإِيمان التى آمن بها يوسف فى قلبها، وبعد أن رأت فيه إنسانا يختلف فى استعصامه بالله وفى سمو نفسه، عن غيره من الناس الذين رأتهم.
هذا، ويرى كثير من المفسرين أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله - تعالى - { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } وأن قوله - تعالى - بعد ذلك { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ... } إلى قوله - تعالى - { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هو من كلام يوسف - عليه السلام -، فيكون المعنى:
وذلك ليعلم "أى العزيز" أنى لم أخنه، فى أهله { بالغيب } أى في غيبته { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِين } من النساء والرجال، بل يبطل هذا الكيد ويفضحه.
{ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ } أى: ولا أنزهها عن السوء، وهذا من باب التواضع منه - عليه السلام - { إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } أى: إن هذا الجنس من الأنفس البشرية، شأنه الأمر بالسوء والميل إلى الشهوات.
{ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء.
{ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من خلقه.
والذى نراه أن الرأى الأول الذى سرنا عليه هو الجدير بالقبول، لأنه هو المناسب لسياق الآيات من غير تكلف، ولأنه لا يؤدى إلى تفكك الكلام وانقطاع بعضه عن بعض، بخلاف الرأى الثانى الذى يرى أصحابه أن كلام امرأة العزيز قد انتهى عند قوله - تعالى - { وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } فإنه يؤدى إلى تفكك الكلام، وعدم ارتباط بعضه ببعض، فضلا عن أن وقائع التاريخ لا تؤيده، لأن يوسف - عليه السلام - كان فى السجن عندما أحضر الملك النسوة وقال لهن: { مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ... } وعندما قالت امرأة العزيز أمام الملك وأمامهن: { ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ.. } إلى قوله - تعالى - { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
ومن المفسرين الذين أيدوا الرأى الأول الإِمام ابن كثير فقد قال ما ملخصه: { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ.. } نقول: إنما اعترفت بهذا على نفسى، بأنى راودت هذا الشاب فامتنع، { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ... } تقول المرأة: ولست أبرئ نفسى، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء.
{ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } أى: من عصمه الله - تعالى - ...
ثم قال: "وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصه ومعانى الكلام. لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف - عليه السلام - عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك".
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن القسم الأول من حياة يوسف - عليه السلام - القسم الذى تعرض خلاله لألوان من المحن والآلام، بعضها من إخوته، وبعضها من امرأة العزيز، وبعضها من السجن ومرارته...
ثم بدأت بعد ذلك فى الحديث عن الجانب الثانى من حياته عليه السلام.
وهو جانب الرخاء والعز والتمكين فى حياته، فقال - تعالى -: { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي... }
وفى الكلام إيجاز بالحذف، والتقدير: وبعد أن انكشفت للملك براءة يوسف - عليه السلام - انكشافا تاما، بسبب ما سمعه عنه من النسوة ومن امرأة العزيز، وبعد أن سمع تفسيره للرؤيا وأعجب به، كما أعجب بسمو نفسه وإبائه..
بعد كل ذلك قال الملك لخاصته: ائتونى بيوسف هذا، ليكون خالصا لنفسى، وخاصا بى فى تصويف أمورى، وكتمان أسرارى، وتسيير دفة الحكم فى مملكتى.
والسين والتاء فى قوله "أستخلصه" للمبالغة فى الخلوص له، فهما للطلب كما فى استجاب، والاستخلاص طلب خلوص الشئ من شوائب الشركة.
فكأن الملك قد شبه يوسف - عليه السلام - بالشئ النفيس النادر، الذى يجب أن يستأثر به الملك دون أن يشاركه فيه أحد سواه.
والفاء فى قوله { فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } معطوفة على محذوف يفهم من السياق.
والضمير المنصوب فى "كلَّمه" يعود على الملك - على الراجح -.
والمراد باليوم: الزمان الذى حدث فيه التخاطب بين الملك ويوسف.
و { مكين } صفة مشبهة من الفعل مكن - بضم الكاف -، بمعنى صاحب مكانة ومرتبة عظيمة، يقال: مكن فلان مكانة إذا ارتفعت منزلته، ويقال: مكنت فلانا من هذا الشئ إذا جعلت له عليه سلطانا وقدرة.
{ أمين } بزنة فعيل بمعنى مفعول، أى: مأمون على ما نكلفك به، ومحل ثقتنا.
والمعنى: وقال الملك لجنده ائتونى بيوسف هذا أستخلصه لنفسى فأتوه به إلى مجلسه.
فازداد حب الملك له وتقديره إياه وقال له: إنك منذ اليوم عندنا صاحب الكلمة النافذة، والمنزلة الرفيعة، التى تجعلنا نأتمنك على كل شئ فى هذه المملكة، وتلك المقالة من الملك ليوسف، هى أولى بشائر عاقبة الصبر؛ وعزة النفس، وطهارة القلب، والاستعصام بحبل الله المتين...
وهنا طلب يوسف - عليه السلام - من الملك بعزة وإباء أن يجعله فى الوظيفة التى يحسن القيام بأعبائها { قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } والخزائن جمع خزانة - بكسر الخاء وهى اسم للمكان الذى يخزن فيه الشئ، والمراد بالأرض: أرض مصر.
أى: قال يوسف - عليه السلام - للملك: اجعلنى - أيها الملك - المتصرف الأول فى خزائن أرض مملكتك، المشتملة على ما يحتاج إليه الناس من أموال وأطعمة، لأنى شديد الحفظ لما فيها، عليم بوجوه تصريفها فيما يفيد وينفع...
فأنت ترى أن يوسف - عليه السلام - لم يسأل الملك شيئا لنفسه من أعراض الدنيا، وإنما طلب منه أن يعينه فى منصب يتمكن بواسطته من القيام برعاية مصالح الأمة، وتدبير شئونها... لأنها مقبلة على سنوات عجاف، تحتاج إلى خبرة يوسف وأمانته وكفاءته وعلمه...
قال صاحب الكشاف: "وصف يوسف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى - وإقامة الحق، وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه فى ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله - لا لحب الملك والدنيا"
وقال القرطبى ما ملخصه: "ودلت الآية - أيضاً - على جواز أن يطلب الإِنسان عملاً يكون له أهلاً.
فإن قيل: فإن ذلك يعارضه ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى الأحاديث الصحيحة من نهيه عن طلب الإِمارة...
فالجواب: أولاً: أن يوسف - عليه السلام - إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه فى العدل والإِصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره...
الثانى: أنه لم يقل اجعلنى على خزائن الأرض لأنى حسيب كريم، وإن كان كذلك، ولم يقل إنى جميل مليح... وإنما قال { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فسألها بالحفظ والعلم لا بالنسب والجمال.
الثالث: إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله - تعالى -
{ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ.. } والخلاصة أن يوسف - عليه السلام - إنما قال ما قال للملك، وطلب ما طلب منه، لأنه علم أن هذا المنصب لا يصلح له أحد سواه فى ذلك الوقت وفى تلك الظروف، فهو يريد من ورائه خدمة الأمة لأجل منفعة شخصية لنفسه...
وما قاله إنما هو من باب التحدث بنعمة الله - تعالى - الذى أعطاه هذه الصفات الكريمة، والمناقب العالية، وليس من باب تزكية النفس المحظورة.
هذا، وقوله - سبحانه - { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ... } بيان لسنة الله - تعالى - فى خلقه، من كونه - سبحانه - لا يضيع أجر الصابرين المحسنين أى: ومثل هذا التمكين العظيم. مكنا ليوسف فى أرض مصر، بعد أن مكث فى سجنها بضع سنين، لا لذنب اقترفه، وإنما لاستعصامه بأمر الله.
وقوله { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } تفصيل للتمكين الذى منحه الله - تعالى - ليوسف فى أرض مصر، والتبوأ اتخاذ المكان للنزول به. يقال: بوأ فلان فلانا منزلاً. أى مكنه منه وأنزله به أى: ومثل هذا التمكين العظيم، مكنا ليوسف فى أرض مصر، حيث هيأنا له أن يتنقل فى أماكنها ومنازلها حيث يشاء له التنقل، دون أن يمنعه مانع من الحلول فى أى مكان فيها.
فالجملة الكريمة كناية عن قدرته على التصرف والتنقل فى جميع أرض مصر، كما يتصرف ويتنقل الرجل فى منزله الخاص.
وقوله: { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ... } بيان لكمال قدرته ونفاذ إرادته - سبحانه - أى نصيب برحمتنا وفضلنا وعطائنا من نشاء عطاءه من عبادنا بمقتضى حكمتنا ومشيئتنا.
{ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } الذين يتقنون أداء ما كلفهم الله بأدائه، بل نوفيهم أجورهم على إحسانهم فى الدنيا قبل الآخرة إذا شئنا ذلك.
{ وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ } وأبقى { لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله - إيماناً حقا { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } خالقهم - عز وجل - فى كل ما يأتون وما يذرون، بأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضبه.
وهكذا كافأ الله - تعالى - يوسف على صبره وتقواه وإحسانه، بما يستحقه من خير وسعادة فى الدنيا والآخرة.
ثم تطوى السورة بعد ذلك أحداثاً تكل معرفتها إلى فهم القارئ وفطنته، فهى لم تحدثنا - مثلاً - عن الطريقة التى اتبعها يوسف فى إدراته لخزائن أرض مصر، اكتفاء بقوله { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } للدلالة على كفايته وأمانته.
كذلك لم تحدثنا عن أحوال الناس فى السنوات السبع العجاف، وفى السنوات الخضر لأن هذا مقرر ومعروف فى دنيا الناس.
كذلك لم تحدثنا عن صلة الملك وحاشيته بيوسف، بعد أن صار أميناً على خزائن الأرض، بل أفسحت المجال كله للحديث عن يوسف، إنزالاً للناس منازلهم، إذ هو صاحب التفسير الصحيح لرؤيا الملك، وصاحب الأفكار الحكيمة التى أنقذت الأمة من فقر سبع سنوات شداد، وصاحب الدعوة إلى وحدانية الله - تعالى - وإخلاص العبادة له، بين قوم يشركون مع الله فى العبادة آلهة أخرى.
لم تحدثنا السورة الكريمة عن كل ذلك، فى أعقاب حديثها عن تمكين الله - تعالى - ليوسف فى الأرض، وإنما انتقلت بنا بعد ذلك مباشرة إلى الحديث عن لقاء يوسف بإخوته، وعما دار بينه وبينهم من محاورات، وعن إكرامه لهم...
قال تعالى:
{ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ... }