التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُواْ يٰأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
٦٣
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٦٤
وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يٰأَبَانَا مَا نَبْغِي هَـٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ
٦٥
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
٦٦
وَقَالَ يٰبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ
٦٧
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٦٨
-يوسف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُواْ يٰأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ... } حكاية لما قاله إخوة يوسف لأبيهم فور التقائهم به.
والمراد بالكيل: الطعام المكيل الذى هم فى حاجة إليه.
والمراد بمنعه: الحيلولة بينهم وبينه فى المستقبل، لأن رجوعهم بالطعام قرينة على ذلك.
والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف، يدرك من السياق والتقدير: ترك إخوة يوسف مصر، وعادوا إلى بلادهم، بعد أن وعدوه بتنفيذ ما طلبه منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم، ودخلوا على أبيهم قالوا له بدون تمهل.
{ يٰأَبَانَا } لقد حكم عزيز مصر بعدم بيع أى طعام لنا بعد هذه المرة إذا لم نأخذ معنا أخانا "بنيامين" ليراه عند عودتنا إليه؛ فقد قال لنا مهدداً عند مغادرتنا له: { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ }.
وأنت تعلم أننا لا بد من عودتنا إليه، لجلب احتياجاتنا من الطعام وغيره، فنرجوك أن توافقنا على اصطحاب "بنيامين" معنا { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } حفظاً تاماً من أن يصيبه مكروه.
والآية الكريمة واضحة الدلالة على أن قولهم هذا لأبيهم، كان بمجرد رجوعهم إليه، وكان قبل أن يفتحوا متاعهم ليعرفوا ما بداخله...
وكأنهم فعلوا ذلك ليشعروه بأن إرسال بنيامين معهم عند سفرهم إلى مصر، أمر على أكبر جانب من الأهمية، وأن عدم إرساله سيترتب عليه منع الطعام عنهم.
وقرأ حمزة والكسائى: { فأرسل معنا أخانا يكتل } - بالياء - أى: فأرسله معنا ليأخذ نصيبه من الطعام المكال، لأن عزيز مصر طعاماً لمن كان غائباً.
وعلى كلا القراءتين فالفعل مجزوم فى جواب الطلب.
وقالوا له { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } بالجملة الإِسمية، لتأكيد حفظهم له: وأن ذلك أمر ثابت عندهم ثبوتاً لا مناص منه.
ولكن يبدو أن قولهم هذا قد حرك كوامن الأحزان والآلام فى نفس يعقوب، فهم الذين سبق أن قالوا له فى شأن يوسف - أيضاً -
{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } لذا نجده يرد عليهم فى استنكار وألم بقوله: { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ... }.
أى: قال يعقوب لأولاده بعد أن طلبوا منه بإلحاح إرسال أخيهم معهم، وبعد أن تعهدوا بحفظه: أتريدون أن أأتمنكم على ابنى "بنيامين" كما أئتمنتكم على شقيقه يوسف من قبل هذا الوقت، فكانت النتيجة التى تعرفونها جمعاً، وهى فراق يوسف لى فراقاً لا يعلم مداه إلا الله - تعالى -؟!! لا، إننى لا أثق بوعودكم بعد الذى حدث منكم معى فى شأن يوسف. فالاستفهام فى قوله { هَلْ آمَنُكُمْ... } للإِنكار والنفى.
وقوله { فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } تفريع على استنكاره لطلبهم إرسال "بنيامين" معهم، وتصريح منه لهم بأن حفظ الله - تعالى - خير من حفظهم.
أى: إننى لا أثق بوعودكم لى بعد الذى حدث منكم بالنسبة ليوسف، وإنما أثق بحفظ الله ورعايته { فَٱللَّهُ } - تعالى - { خَيْرٌ حَافِظاً } لمن يشاء حفظه، فمن حفظه سلم، ومن لم يحفظه لم يسلم، كما لم يسلم أخوه يوسف من قبل حين ائتمنتكم عليه "وهو" - سبحانه - { أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } لخلقه، فأرجو أن يشملنى برحمته، ولا يفجعنى فى "بنيامين"، كما فجعت فى شقيقه يوسف من قبل.
ويبدو أن الأبناء قد اقتنعوا برد أبيهم عليهم، واشتموا من هذا الرد إمكان إرساله معهم، لذا لم يراجعوه مرة أخرى.
قال الآلوسى ما ملخصه: "وهذا - أى رد يعقوب عليهم - ميل منه - عليه السلام - إلى الإِذن والإِرسال لما رأى فيه من المصلحة، وفيه أيضاً من التوكل على الله - تعالى - ما لا يخفى، ولذا روى أن الله - تعالى - قال:
"وعزتى وجلالى لأردهما عليك إذ توكلت على..." وقرأ أكثر السبعة { فالله خير حفظا... } وقرأ حمزة والكسائى وحفص { حَافِظاً... } وعلى القراءتين فهو منصوب على أنه تمييز..."
ثم اتجه الأبناء بعد هذه المحاورة مع أبيهم إلى أمتعتهم ليفتحوها ويخرجوا ما بها من زاد حضروا به من مصر، فكانت المفاجأة التى حكاها القرآن فى قوله:
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ... }
أى: وحين فتحوا أوعيتهم التى بداخلها الطعام الذى اشتروه من عزيز مصر. فوجئوا بوجود أثمان هذا الطعام قد رد إليهم معه، ولم يأخذها عزيز مصر، بل دسها داخل أوعيتهم دون أن يشعروا، فدهشوا وقالوا لأبيهم متعجبين:
{ يٰأَبَانَا مَا نَبْغِي هَـٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } أى: يا أبانا ماذا نطلب من الإِحسان والكرم أكثر من هذا الذى فعله معنا عزيز مصر؟ لقد أعطانا الطعام الذى نريده، ثم رد إلينا ثمنه الذى دفعناه له دون أن يخبرنا بذلك.
فما فى قوله { مَا نَبْغِي } استفهامية، والاستفهام للتعجب من كرم عزيز مصر، وهى مفعول نبغى، ونبغى من البُغَاء - بضم الباء - وهو الطلب.
والمراد ببضاعتهم: الثمن الذى دفعوه للعزيز فى مقابل ما أخذوه منه من زاد.
وجملة { هَـٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } مستأنفة لتوضيح ما دل عليه الاستفهام من التعجب، بسبب ما فعله معهم عزيز مصر من مروءة وسخاء.
فكأنهم قالوا لأبيهم: كيف لا نعجب وندهش، وهذه بضاعتنا ردت إلينا من حيث لا ندرى ومعها الأحمال التى اشتريناها من عزيز مصر لم ينقص منها شئ؟
وقوله { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } معطوف على مقدر يفهم من الكلام، أى: { هَـٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } فننتفع بها فى معاشنا، ونمير أهلنا، أى: نجلب لهم الميرة - بكسر الميم وسكون الياء - وهى الزاد الذى يؤتى به من مكان إلى آخر.
{ وَنَحْفَظُ أَخَانَا } عند سفره معنا من أى مكروه.
{ وَنَزْدَادُ } بوجوده معنا عند الدخول على عزيز مصر.
{ كَيْلَ بَعِيرٍ } أى: ويعطينا العزيز حمل بعير من الزاد، زيادة على هذه المرة نظراً لوجود أخينا معنا.
ولعل قولهم هذا كان سببه أن يوسف - عليه السلام - كان يعطى من الطعام على عدد الرءوس، حتى يستطيع أن يوفر القوت للجميع فى تلك السنوات الشداد.
واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { ذٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } يعود إلى الزاد الذى أحضروه من مصر أى: ذلك الطعام الذى أعطانا إياه عزيز مصر طعام يسير، لا يكفينا إلا لمدة قليلة من الزمان، ويجب أن نعود إلى مصر لنأتى بطعام آخر.
وفى هذه الجمل المتعددة التى حكاها القرآن عنهم، تحريض واضح منهم لأبيهم على أن يسمح لهم باصطحاب "بنيامين" معهم فى رحلتهم القادمة إلى مصر
ومن مظاهر هذا التحريض: مدحهم لعزيز مصر الذى رد لهم أثمان مشترياتهم، وحاجتهم الملحة إلى استجلاب طعام جديد، وتعهدهم بحفظ أخيهم وازدياد الأطعمة بسبب وجوده معهم.
ولكن يعقوب - عليه السلام - مع كل هذا التحريض والإِلحاح، لم يستجب لهم إلا على كره منه، واشترط لهذه الاستجابة ما حكاه القرآن فى قوله:
{ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ }.
والموثق: العهد الموثق باليمين، وجمعه مواثيق.
أى: قال يعقوب - عليه السلام - لهم: والله لن أرسل معكم "بنيامين" إلى مصر، حتى تحلفوا لى بالله، بأن تقولوا: والله لنأتينك به عند عودتنا، ولن نتخلى عن ذلك، { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } أى: إلا أن نهلك جميعاً، أو أن نغلب عليه بما هو فوق طاقتنا.
يقولون: أحيط بفلان إذا هلك أو قارب الهلاك، وأصله من إحاطة العدو بالشخص، واستعمل فى الهلاك، لأن من أحاط به العدو يهلك غالباً.
وسمى الحلف بالله - تعالى - موثقاً، لأنه مما تؤكد به العهود وتقوى وقد أذن الله - تعالى - بذلك عند وجود ما يقتضى الحلف به - سبحانه -.
وقوله: { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ } جواب لقسم محذوف والاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } مفرغ من أعم الأحوال، والتقدير: لن أرسله معكم حتى تحلفوا بالله وتقولوا: والله لنأتينك به معنا عند عودتنا، فى جميع الأحوال والظروف إلا فى حال هلاككم أو فى حال عجزكم التام عن مدافعة أمر حال بينكم وبين الإِتيان به معكم.
وقوله { فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } أى: فلما أعطى الأبناء أباهم العهد الموثق باليمين بأن أقسموا له بأن يأتوا بأخيهم معهم عند عودتهم من مصر.
"قال" لهم على سبيل التأكيد والحض على وجوب الوفاء: الله - تعالى - على ما نقول أنا وأنتم وكيل، أى: مطلع ورقيب، وسيجازى الأوفياء خيراً، وسيجازى الناقضين لعهودهم بما يستحقون من عقاب.
قال ابن كثير: "وإنما فعل ذلك، لأنه لم يجد بداً من بعثهم لأجل الميرة التى لا غنى لهم عنها فبعثه معهم".
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما وصى به يعقوب أبناءه عند سفرهم فقال { وَقَالَ يٰبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ... }.
أى: وقال يعقوب - الأب العطوف - لأبنائه وهو يودعهم: يا بنى إذا وصلتم إلى مصر، فلا تدخلوا كلكم من باب واحد، وأنتم أحد عشر رجلاً بل ادخلوا من أبوابها المتفرقة، بحيث يدخل كل اثنين أو ثلاثة من باب.
قالوا: وكانت أبواب مصر فى ذلك الوقت أربعة أبواب.
وقد ذكر المفسرون أسباباً متعددة لوصية يعقوب هذه لأبنائه، وأحسن هذه الأسباب ما ذكره الآلوسى فى قوله: نهاهم عن الدخول من باب واحد، حذراً من إصابة العين، أى من الحسد، فإنهم كانوا ذوى جمال وشارة حسنة.. فكانوا مظنة لأن يعانوا - أى لأن يحسدوا - إذا ما دخلوا كوكبة واحدة...
ثم قال: والعين حق، كما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصح أيضاً بزيادة
"ولو كان شئ يسبق القدر سبقته العين" .
وقد ورد أيضاً: "إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر" .
وقيل: إن السبب فى وصية يعقوب لأبنائه بهذه الوصية، خوفه عليهم من أن يسترعى عددهم حراس مدينة مصر إذا ما دخلوا من باب واحد، فيترامى فى أذهانهم أنهم جواسيس أو ما شابه ذلك، فربما سجنوهم، أو حالوا بينهم وبين الوصول إلى يوسف - عليه السلام -...
وقوله { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } اعتراف منه - عليه السلام - بأن دخولهم من الأبواب المتفرقة، لن يحول بينهم وبين ما قدره - تعالى - وأراده لهم، وإنما هو أمرهم بذلك من باب الأخذ بالأسباب المشروعة.
أى: وإنى بقولى هذا لكم، لا أدفع عنكم شيئا قدره الله عليكم، ولو كان هذا الشئ قليلا.
{ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } أى: ما الحكم فى كل شئ إلى لله - تعالى - وحده لا ينازعه فى ذلك منازع. ولا يدافعه مدافع.
{ عليه } وحده { توكلت } فى كل أمورى.
{ وعليه } وحده { فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } أى المريدون للتوكل الحق، والاعتماد الصدق الذى لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب التى شرعها الله وأمر بها.
إذ أن كلا من التوكل والأخذ بالأسباب مطلوب من العبد، إلا أن العاقل عندما يأخذ فى الأسباب يجزم بأن الحكم لله وحده فى كل الأمور، وأن الأسباب ما هى إلا أمور عادية، يوجد الله - تعالى - معها ما يريد إيجاده، ويمنع ما يريد منعه، فهو الفعال لما يريد. ويعقوب - عليه السلام - عندما أوصى أبناءه بهذه الوصية، أراد بها تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه، مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدباً مع الله - تعالى - واضع الأسباب ومشرعها...
ثم بين - سبحانه - أن الأبناء قد امتثلوا أمر أبيهم لهم فقال: { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا }.
والمراد بالحاجة هنا: نصيحته لأبنائه بأن يدخلوا من أبواب متفرقة، خوفاً عليهم من الحسد. ومعنى { قضاها } أظهرها ولم يستطع كتمانها يقال: قضى فلان حاجة لنفسه إذا أظهر ما أضمره فيها.
أى: وحين دخل أبناء يعقوب من الأبواب المتفرقة التى أمرهم أبوهم بالدخول منها، { ما كان } هذا الدخول { يُغْنِي عَنْهُمْ } أى يدفع عنهم من قدر { ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } قدره عليهم، ولكن الذى حمل يعقوب على أمرهم بذلك، حاجة أى رغبة خطرت فى نفسه { قضاها } أى: أظهرها ووصاهم بها ولم يستطع إخفاءها لشدة حبه لهم مع اعتقاده بأن كل شئ بقضاء الله وقدره.
وقوله - سبحانه - { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ } ثناء من الله - تعالى - على يعقوب بالعلم وحسن التدبير.
أى: وإن يعقوب - عليه السلام - لذو علم عظيم، للشئ الذى علمناه إياه عن طريق وحينا، فهو لا ينسى منه شيئاً إلا ما شاء الله.
وقوله { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أى: لا يعلمون ما يعلمه يعقوب - عليه السلام - من أن الأخذ بالأسباب لا يتنافى مع التوكل على الله - تعالى - أو: ولكن أكثر الناس لا يعلمون ما أعطاه الله - تعالى - لأنبيائه وأصفيائه من العلم والمعرفة وحسن التأتى للأمور.
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد فصلت الحديث عما دار بين إخوة يوسف وبين أبيهم فى شأن سفر أخيهم معهم... فماذا كان بعد ذلك؟
لقد كان بعد ذلك أن سافر إخوة يوسف إلى مصر، ومعهم "بنيامين" الشقيق الأصغر ليوسف، والتقوا هناك بيوسف، وتكشف هذا اللقاء عن أحداث مثيرة، زاخرة بالانفعالات والمفاجآت والمحاورات... التى حكاها القرآن فى قوله - تعالى -:
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ... }.