التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ
٣٦
وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ
٣٧
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ
٣٨
يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ
٣٩
وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ
٤٠
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٤١
وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ
٤٢
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ
٤٣
-الرعد

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه - : { وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } ثناء منه - سبحانه - على الذين عرفوا الحق من أهل الكتاب فاتبعوه.
والمراد بالكتاب هنا: التوراة والإِنجيل.
والمعنى: والذين أعطيناهم التوراة والإِنجيل، فآمنوا بما فيهما من بشارات تتعلق بك - أيها الرسول الكريم -، ثم آمنوا بك عند إرسالك رحمة للعالمين.
هؤلاء الذين تلك صفاتهم، يفرحون بما أنزل إليك من قرآن، لأن ما فيه من هدايات وبراهين على صدقك، يزيدهم إيمانا على إيمانهم، ويقينا على يقينهم.
وقيل: المراد بالكتاب القرآن الكريم، وبالموصول أتباع النبى صلى الله عليه وسلم من المسلمين.
فيكون المعنى: والذين آتيناهم الكتاب - وهو القرآن - فآمنوا بك وصدقوك يفرحون بكل ما ينزل عليك منه، لأنه يزيدهم هداية على هدايتهم.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح، لأن الآية الكريمة سيقت بعد الحديث عن عاقبة الذين اتقوا وهم المؤمنون الصادقون، وعاقبة الكافرين. ولأن فرح المؤمنين بنزول القرآن أمر مسلم به فلا يحتاج إلى الحديث عنه.
ومن المفسرين الذين اقتصروا فى تفسيرهم للآية على الرأى الأول الإِمام ابن كثير فقد قال: يقول الله - تعالى - : { وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ } وهم قائمون بمقتضاه { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } أى: من القرآن، لما فى كتبهم من الشواهد على صدقه صلى الله عليه وسلم والبشارة به، كما قال تعالى:
{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } وقوله: { وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } بيان لمن بقى على كفره من أهل الكتاب وغيرهم. والأحزاب: جمع حزب ويطلق على مجموعة من الناس اجتمعوا من أجل غاية معينة أى: ومن أحزاب الكفر والضلال من ينكر بعض ما أنزل إليك لأنه يخالف أهواءهم وأطماعهم وشهواتهم.. ولم يذكر القرآن هذا البعض الذى ينكرونه، إهمالا لشأنهم، ولأنه لا يتعلق بذكره غرض.
وقوله - سبحانه -: { قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } أمر منه - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما يأمره دون تردد أو وجل.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لكل من خالفك فيما تدعو إليه { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ } وحده { وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ } بوجه من الوجوه إليه وحده "أدعو" الناس لكى يخلصوا له العبادة والطاعة { وَإِلَيْهِ مَآبِ } أى وإليه وحده إيابى ومرجعى لا إلى أحد غيره.
فالآية تضمنت المدح لمن عرف الحق ففرح بوجوده. والذم لمن أنكره جحوداً وعنادا، والأمر للنبى صلى الله عليه وسلم بالسير فى طريقه بدون خشية من أحد.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك بعض الفضائل التى امتاز بها القرآن الكريم فقال - تعالى -: { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً... }.
والكاف للتشبيه، واسم الإِشارة يعود إلى الإِنزال المأخوذ من { أنزلناه } وضمير الغائب فى أنزلناه يعود إلى { مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } فى قوله فى الآية السابقة { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ... } وقوله { حُكْماً عَرَبِيّاً } حالان من ضمير الغائب.
والمعنى: ومثل ذلك الإِنزال البديع الجامع لألوان الهداية والإِعجاز، أنزلنا عليك القرآن يا محمد { حكما } أى: حاكما بين الناس { عربيا } أى: بلسان عربى مبين هو لسانك ولسان قومك.
ومنهم من يرى أن اسم الإِشارة يعود إلى الكتب السماوية السابقة، فيكون المعنى:
وكما أنزلنا الكتب السماوية على بعض رسلنا بلغاتهم وبلغات أقوامهم أنزلنا عليك القرآن حاكما بين الناس بلغتك وبلغة قومك، وهى اللغة العربية ليسهل عليهم فهمه وحفظه.
وعلى كلا القولين فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة قد اشتملت على فضيلتين للقرآن الكريم: فضيلة من جهة معانيه ومقاصده وهداياته وحكمه وأحكامه وتشريعاته، وهو المعبر عنها بكونه "حكما".
وفضيلة من جهة ألفاظه ومفرداته وتراكيبه، وهى المعبر عنها بكونه "عربيا".
أى: نزل بلغة العرب التى هى أفصح اللغات وأغناها وأجملها.
ثم فى كونه "عربيا" امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء، حيث إنه نزل بلغتهم، فكان من الواجب عليهم أن يقابلوه بالفرح والتسليم لأوامره ونواهيه، فهو الكتاب الذى فيه شرفهم وعزهم، قال - تعالى -:
{ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أى: فيه بقاء شرفكم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } وقال - تعالى -: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } وفى ذلك تعريض بغباء مشركى العرب، حيث لم يشكروا الله - تعالى - على هذه النعمة، بل قابلوا من أنزل عليه هذا القرآن بالعناد والعصيان.
ثم ساق - سبحانه - تحذيرا للأمة كلها فى شخص نبيها صلى الله عليه وسلم من اتباع أهواء كل كافر أو فاسق: فقال - تعالى -: { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ }.
واللام فى قوله { ولئن } موطئة للقسم لتأكيد ما تضمنته من عقاب شديد لمتبع أهواء الكافرين.
والأهواء: جمع هوى، والمراد بها آراؤهم المنحرفة عن الحق، ومطالبهم المتعنتة، والمراد بما جاءه من العلم: ما بلغه وعلمه من الدين عن طريق الوحى الصادق.
والولى: الناصر والمعين والقريب والحليف. والواقى: المدافع عن غيره.
والمعنى: "ولئن اتبعت" - يا محمد - على سبيل الفرض والتقدير أهواء هؤلاء الكافرين فيما يطلبونه منك، "من بعد ما جاءك من العلم" اليقينى بأن الإِسلام هو الدين الحق، "مالك من الله" أى من عقباه "من ولى" يلى أمرك وينصرك "ولا واق" يقيك من حسابه. وسيق هذا التحذير فى صورة الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم للتأكيد من مضمونه.
فكأنه - سبحانه يقول: لو اتبع أهواءهم - على سبيل الفرض - أكرم الناس عندى لعاقبته، وأحق بهذا العقاب من كان دونه فى الفضل والمنزلة، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } ثم بين - سبحانه - أن اعتراض المشركين على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ليس إلا من قبيل التعنت والجحود، لأن الرسل جميعا كانوا من البشر، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً... }
أى: "ولقد أرسلنا رسلا" كثيرين "من قبلك" يا محمد "وجعلنا لهم" أى لهؤلاء الرسل "أزواجا" يسكنون إليهن "وذرية" أى: وأولادا تقرُّ بهم أعينهم.
قال الشوكانى: "وفى هذا الرد على من كان ينكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجه بالنساء.
أى: هذا شأن رسل الله المرسلين قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه ما كانوا عليه".
وقوله - سبحانه -: { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ... } رد على ما طلبوه منه صلى الله عليه وسلم من معجزات.
أى: وما صح وما استقام لرسول من الرسل أن يأتى لمن أرسل إليهم بمعجزة كائنة ما كانت إلا بإذن الله وإرادته المبنية على الحكم والمصالح التى عليها يدور أمر الكائنات.
وقوله - سبحانه - { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } تهديد للمشركين الذين كانوا يتعجلون حصول المقترحات التى طلبوها منه صلى الله عليه وسلم.
أى: لكل وقت من الأوقات "كتاب" أى: حكم معين يكتب على الناس حسبما تقتضيه مشيئته - سبحانه -.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك مظهرا من مظاهر شمول قدرته، وسعة علمه، وعظيم حكمته فقال: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ }.
وقوله: { يَمْحُواْ } من المحو وهو إذهاب أثر الشئ بعد وجوده.
وقوله: { ويثبت } من الإِثبات وهو جعل الشئ ثابتا قارا فى مكان ما.
وأم الكتاب: أصل الكتاب والمراد بأم الكتاب: اللوح المحفوظ، أو علمه - سبحانه - المحيط بكل شئ.
قال الفخر الرازى: "والعرب تسمى كل ما يجرى مجرى الأصل للشئ أمٍّا له ومنه أمُّ الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكل مدينة فهى أُم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذى يكون أصلا لجميع الكتب".
والمعنى: يمحو الله - تعالى - ما يشاء محوه، ويثبت ما يريد إثباته من الخير أو الشر ومن السعادة أو الشقاوة، ومن الصحة أو المرض، ومن الغنى أو الفقر، ومن غير ذلك مما يتعلق بأحوال خلقه.
وعنده - سبحانه - الأصل الجامع لكل ما يتعلق بأحوال هذا الكون.
قال - تعالى -:
{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ... } وقال - تعالى -: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّ ذٰلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } وللمفسرين فى معنى هذه الآية كلام طويل، لخصه الإِمام الشوكانى تلخيصا حسنا فقال:
قوله - سبحانه -: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } أى يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه، وظاهر النظم القرآنى العموم فى كل شئ مما فى الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر.. ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وقتادة وغيرهم.
وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة. وقيل يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب.
وقيل "يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه، ويثبت ما لا يشاء فلا ينسخه.. والأول أولى كما تفيده "ما" فى قوله "ما يشاء" من العموم مع تقدم ذكر الكتاب فى قوله "لكل أجل كتاب" ومع قوله "وعنده أم الكتاب" أى أصله وهو اللوح المحفوظ.
فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما فى اللوح المحفوظ فيكون كالعدم، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجرى فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته.
وهذا لا ينافى ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله "جفَّ القلم"، وذلك لأن المحو والإِثبات هو من جملة ما قضاه - سبحانه -.
وقيل: إن أم الكتاب هو علم الله - تعالى -: بما خلق وبما هو خالق.
وقوله - سبحانه - { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } حض له صلى الله عليه وسلم على المضى فى دعوته بدون تسويف أو تأجيل.
و "ما" فى قوله "وإما نرنيك" مزيدة لتأكيد معنى الشرط، والأصل: وإن نرك، والإِراءة هنا بصرية، والكاف مفعول أول، وبعض الذى نعدهم: مفعول ثان، وجاب الشرط، محذوف.
والمعنى: وإما نرينك - يا محمد - بعض الذى توعدنا به أعداءك من العذاب الدنيوى، فذاك شفاء لصدرك وصدور أتباعك.
وقوله "أو نتوفينك" شرط آخر لعطفه على الشرط السابق، وجوابه - أيضا - محذوف والتقدير: أو نتوفينك قبل ذلك فلا تهتم، واترك الأمر لنا.
وقوله: { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ } تعليل لهذا الجواب المحذوف، أى: سواء أرأيت عذابهم أم لم تره، فإنما عليك فقط تبليغ ما أمرناك بتبليغه للناس.
{ وعلينا } وحدنا { الحساب } أى: محاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم السيئة.
وقوله - سبحانه -: { بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ } للإِشارة إلى أن ما يصيبهم من عذاب دنيوى هو بعض العذاب المعد لهم، أما البعض الآخر وهو عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى.
ولقد صدق الله - تعالى - وعده لنبيه صلى الله عليه وسلم فأراه قبل أن يفارق هذه الدنيا، جانبا من العذاب الذى أنزله بأعدائه، فسلط على مشركى مكة الجدب والقحط الذى جعلهم يأكلون العظام والميتة والجلود.
كما سلط عليهم المؤمنين فهزموهم فى غزوة بدر وفى غزوة الفتح وفى غيرهما. ثم وبخ - سبحانه - المشركين لعدم تفكرهم وتدبرهم واتعاظهم بآثار من قبلهم، فقال - تعالى -: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا... }
والهمزة للاستفهام الإِنكارى، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام.
والخطاب لمشركى مكة ومن كان على شاكلتهم فى الكفر والضلال.
والمراد بالأرض هنا: أرض الكفرة والظالمين.
والأطراف جمع طرف وهو جانب الشئ.
والمعنى: أعمى هؤلاء الكافرون عن التفكير والاعتبار، ولم يروا كيف أن قدرة الله القاهرة، قد أتت على الأمم القوية الغنية - حين كفرت بنعمه - سبحانه -، فصيرت قوتها ضعفا وغناها فقرا، وعزها ذلا، وأمنها خوفا.. وحصرتها فى رقعة ضيقة من الأرض، بعد أن كانت تملك الأراضى الفسيحة، والأماكن المترامية الأطراف.
فالآية الكريمة بشارة للمؤمنين، وإنذار للكافرين.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } قال الآلوسى ما ملخصه: "وروى عن ابن عباس أن المراد بانتقاص الأرض: موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها. وعليه يكون المراد بالأرض جنسها وبالأطراف الأشراف والعلماء، وشاهده قول الفرزدق:

واسأل بنا وبكم، إذا وردت منىأطراف كل قبيلة، من يتبع؟

يريد أشراف كل قبيلة.
وتقرير الآية عليه: أو لم يروا أنا نحدث فى الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة، وموتا بعد حياة، وذلا بعد عز.. فما الذى يؤمنهم أن يقلب الله - تعالى - الأمر عليهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة..
ثم قال: وهو كما ترى:
والأول - وهو أن يكون المراد بالأرض: أرض الكفر، وبالأطراف الجوانب - أوفق بالمقام، ولا يخفى ما فى التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة، وجملة "ننقصها" فى موضع الحال من فاعل نأتى..".
وقوله - سبحانه -: { وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } بيان لعلو شأن حكمه - تعالى - ونفاذ أمره.
والمعقب: هو الذى يتعقب فعل غيره، أو قوله فيبطله أو يصححه.
أى: والله - تعالى - يحكم ما يشاء أن يحكم به فى خلقه، لا راد لحكمه، ولا دافع لقضائه، ولا يتعقب أحد ما حكم به بتغيير أو تبديل، وقد حكم - سبحانه - بعزة الإِسلام، وعلو شأنه وشأن أتباعه على سائر الأمم والأديان..
وقوله { وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أى: وهو - سبحانه - سريع المحاسبة والمجازاة، لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من الإِحصاء والعد، إذ هو - سبحانه - محيط بكل شئ، فلا تستبطئ. عقابهم - أيها الرسول الكريم - فإن ما وعدناك به واقع لا محالة.
ثم زاد - سبحانه - فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم وفى تثبيت فؤاده فقال: { وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً... }.
والمكر: صرف الغير عما يريده بحيلة، أو إيصال المكروه للممكور به خفية، والمراد بمكر الذين من قبلهم: إضمارهم السوء لرسلهم.
والمراد بمكر الله - تعالى - هنا: علمه - سبحانه - بما بيتوه، وِإحباطه لمكرهم، وإنجاؤه لرسله - عليهم الصلاة والسلام -.
أى: وقد مكر الكفار الذين سبقوا قومك - يا محمد - برسلهم وحاولوا إيقاع المكروه بهم، ولكن ربك - سبحانه - نصر رسله لأنه - عز وجل - له المكر جميعا، ولا اعتداد بمكر غيره لأنه معلوم له.
وقال الجمل ما ملخصه: "وقوله { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } تعليل لمحذوف تقديره فلا عبرة بمكرهم، ولا تأثير له، فحذف هذا اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله بقوله { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } أى: لا تأثير لمكرهم أصلا لأنه معلوم لله - تعالى - وتحت قدرته..
وجملة "يعلم ما تكسب كل نفس" بمنزلة التعليل لجملة { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً }.
أى: هو - سبحانه - له المكر جميعا، لأنه لا تخفى عليه خافية من أحوال كل نفس، وسيجازيها بما تستحقه من خير أو شر.
وقوله: { وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ } تهديد للكافرين بالحق الذى جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أى: وسيعلم الكافرون عندما ينزل بهم العذاب، لمن تكون العاقبة الحميدة أهى لهم - كما يزعمون - أم للمؤمنين؟ لا شك أنها للمؤمنين.
فالجملة الكريمة تحذير للكافرين من التمادى فى كفرهم، وتبشير للمؤمنين بأن العاقبة لهم.
وفى قراءة سبعية "وسيعلم الكافر". فيكون المراد به جنس الكافر.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فى رسالته فقال: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً }.
أى: لست مرسلا من عند الله - تعالى -، وقد حكى - سبحانه - قولهم الباطل هذا بصيغة الفعل المضارع، للإِشارة إلى تكرار هذا القول منهم، ولاستحضار أحوالهم العجيبة الدالة على إصرارهم على العناد والجحود.
وقوله: { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } أمر من الله - تعالى - لرسوله بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم.
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذى هو فاعل { كفى } فى المعنى، مزيدة للتأكيد، وقوله { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } معطوف على اسم الجلالة، والمراد بالموصول وبالكتاب الجنس.
والمعنى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - تكفى شهادة الله بينى وبينكم، فهو يعلم صدق دعوتى، ويعلم كذبكم، ويعلم ذلك - أيضا - كل من كان على علم بالكتب السماوية السابقة فإنها قد بشرت برسالتى، وجاءت أوصافى فيها...
وممن شهد لى بالنبوة ورقة بن نوفل، فأنتم تعلمون أنه قال لى عندما أخبرته بما حدث لى فى غار حراء: "هذا هو الناموس - أى الوحى - الذى أنزله الله على موسى"...
وقيل المراد بمن عنده علم الكتاب: المسلمون، وبالكتاب: القرآن، والأول أرجح لشموله لكل من كان عنده بالكتب السماوية السابقة، إذ هذا الشمول أكثر دلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه.
وبعد: فهذه هى سورة الرعد. وهذا تفسير وسيط لآياتها..