التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَٰهِهِمْ وَقَالُوۤاْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ
٩
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
١٠
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١١
وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ
١٢
-إبراهيم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ... } يرى بعض المفسرين أنه من تتمة كلام موسى - عليه السلام - فيكون المعنى: أن موسى - عليه السلام - بعد أن ذكر بأيام الله - تعالى -، وبنعمه عليهم، وبسننه - سبحانه - فى خلقه...
بعد كل ذلك شرع فى تذكيرهم وتخويفهم عن طريق ما حل بالمكذبين من قبلهم، فقال لهم - كما حكى القرآن عنه -: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ.. }
ومنهم من يرى أن الآية الكريمة كلام مستأنف، والخطاب فيه لأمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيكون المعنى: أن الله - تعالى - بعد أن بين للناس أنه قد أنزل كتابه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - لإِخراجهم من الظلمات إلى النور، وبين - سبحانه - أن له ما فى السماوات وما فى الأرض، وهدد الكافرين بالعذاب الشديد، وحكى ما قاله موسى لقومه.
بعد كل ذلك وجه - سبحانه - الخطاب إلى مشركى مكة وإلى كل من كان على شاكلتهم فقال: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ... }.
قال الفخر الرازى ما ملخصه: " يحتمل أن يكون هذا خطابا من موسى لقومه، والمقصود منه أنه - عليه السلام - كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم.
ويجوز أن يكون مخاطبة من الله - تعالى - على لسان موسى لقومه، يذكرهم أمر القرون الأولى. والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين، وهذا المقصود حاصل على التقديرين، إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ومع أننا نؤيد الإِمام الرازى فى أن المقصود إنما حصول العبرة بأحوال المتقدمين إلا أننا نميل مع الأكثرين إلى الرأى الثانى، لأن قوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم المقصودون قصدا أوليا بالخطاب القرآنى، ولأن الإِمام ابن كثير - يرى أنه لم يرد ذكر فى التوراة لقوم عاد وثمود، فقد قال:
قال ابن جرير: "هذا من تمام قول موسى لقومه... وفيما قال ابن جرير نظر والظاهر أنه خبر مستأنف من الله - تعالى - لهذه الأمة، فإنه قد قيل إن قصة عاد وثمود ليست فى التوراة، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصه عليهم، فلا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان فى التوراة.
والاستفهام فى قوله { أَلَمْ يَأْتِكُمْ... } للتقرير لأنهم قد بلغتهم أخبارهم، فقوم نوح بلغتهم أخبارهم بسبب خبر الطوفان الذى كان مشهورا بينهم، وقوم عاد وثمود بلغتهم أخبارهم لأنهم من العرب، ومساكنهم فى بلادهم، وهم يمرون على ديار قوم صالح فى أسفارهم إلى بلاد الشام للتجارة. والمراد بالذين من بعدهم: أولئك الأقوام الذين جاءوا من بعد قوم نوح وعاد وثمود، كقوم إبراهيم وقوم لوط وغيرهم.
وقوله: { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ } أى: لا يعلم عدد الأقوام الذين جاءوا بعد قوم نوح وعاد وثمود ولا يعلم ذواتهم وأحوالهم إلا الله تعالى.
وقوله { وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } مبتدأ، وقوله { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ ٱللَّهُ } خبره، والجملة اعتراض بن المفسر - بفتح السين - وهو { نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } وتفسيره وهو { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ }.
والمعنى: لقد علمتم يا أهل مكة ما حل بقوم نوح وعاد وثمود، كما علمتم ما حل بالمكذبين من بعدهم كقوم لوط وقوم شعيب، وكغيرهم ممن لا يعلم أحوالهم وعددهم إلا الله - تعالى - وما دام الأمر كذلك فاعتبروا واتعظوا واتبعوا هذا الرسول الكريم الذى جاء لسعادتكم، لكى تنجوا من العذاب الأليم الذى حل بالظالمين من قبلكم.
وجملة { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } مستأنفة فى جواب سؤال مقدر، كأنه قيل ما قصة هؤلاء الأقوام وما خبرهم؟
فكان الجواب: جاء كل رسول إلى قومه بالحجج الواضحات، وبالمعجزات الظاهرات، الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه.
وقوله { فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوۤاْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ... }.
بيان لموقف الأقوام المكذبين من رسلهم الذين أرسلهم الله لهدايتهم.
والضمائر فى "ردوا" و"أيديهم" و"أفواههم" تعود على الأقوام الذين جاءتهم رسلهم بالبينات. وهذه الجملة الكريمة ذكر المفسرون فى معناها وجوها متعددة أوصلها بعضهم إلى عشرة أقوال:
منها: أن الكفار وضعوا أناملهم فى أفواههم فعضوها غيظا وبغضا مما جاء به الرسل، وقالوا لهم بغضب وضجر: إنا كفرنا بما أرسلتم به وبما جئتمونا به من معجزات، فاغربوا عن وجوهنا، واتركونا وشأننا.
ومن المفسرين الذين رجحوا هذا الوجه الإِمام ابن جرير، فقد قال: "وقوله: { فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَاهِهِمْ... } اختلف أهل التأويل فى تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك، فعضوا على أصابعهم تغيظا عليهم فى دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه.. روى ذلك عن ابن مسعود وغيره.
ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال الأخرى: وأشبه هذه الأقوال عندى الصواب فى تأويل هذه الآية، القول الذى ذكرناه عن عبد الله بن مسعود أنهم ردوا أيديهم فى أفواههم، فعضوا عليها غيظا على الرسل، كما وصف الله عز وجل به إخوانهم من المنافقين فقال: { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ } فهذا هو الكلام المعروف، والمعنى المفهوم من رد الأيدى إلى الأفواه.
ومنها: أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواههم إشارة منهم إلى أنفسهم وإلى ما يصدر عنها، وقالوا للرسل على سبيل التحدى والتكذيب. { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أى: لا جواب لكم عندنا سوى ما قلناه لكم بألسنتنا هذه.
ومن المفسرين الذين رجحوا هذا القول الإِمام الآلوسى، فقد صدر الأقوال التى ذكرها به، فقال ما ملخصه: قوله { فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَاهِهِمْ } أى: أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به، وقالوا لهم { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أى: على زعمكم، وهى البينات التى أظهرها حجة على صحة رسالتهم، ومرادهم بالكفر بها: الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم...
ثم قال بعد أن ساق عددا من الأقوال: والذى يطابق المقام، وتشهد له البلاغة: هو الوجه الأول، ونص غير واحد على أنه الوجه القوى، لأنهم حاولوا الإِنكار على الرسل كل الإِنكار، حيث جمعوا فى الإِنكارين: الفعل والقول، ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يتمهلوا، بل عقدوا دعوتهم بالتكذيب...".
ومنها: أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم، وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجبا.
وقد رجح هذا الوجه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فقال: "وهذا التركيب لا أعهد مثله فى كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن: ومعنى { فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَاهِهِمْ }.
يحتمل عدة وجو أنهاها فى الكشاف إلى سبعة، وفى بعضها بعد، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى: أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل، كراهية أن تظهر دواخل أفواههم، وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل.
ومنها: أن الكفار لما سمعوا أقوال الرسل لهم، لم يردوا عليهم، بل تركوهم إهمالا لشأنهم.
وقد رجح الشوكانى هذا الاتجاه فقال ما ملخصه: "وقال أبو عبيدة - ونعم ما قال - هو ضرب مثل. أى: لم يؤمنوا ولم يجيبوا. والعرب تقول الرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت: قد رد يده فى فيه. وهكذا قال الأخفش، واعترض على ذلك القتيبى فقال: لم يسمع أحد من العرب يقول: رد يده فى فيه، إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى عضوا على الأيدى حنقا وغيظا..
فإن صح ما ذكره أبو عبيدة والأخفش فتفسير الآية به أقرب...
وهذه الأقوال جميعها وإن كانت تتفق فى أن الآية الكريمة، قد أخبرت بأبلغ عبارة عما قابل به الأقوام المكذبون رسلهم من سوء أدب.
إلا أننا نميل إلى ما ذهب إليه الإِمام ابن جرير، لأنه أظهر الأقوال فى معناها، وقد استشهد له بعضهم بأشعار العرب، ومنها قول الشاعر:

ترون فى فيه غش الحسود حتى يعض على الأكفا

يعنى أنهم يغيظون الحسود حتى على أصابعه وكفيه.
وقوله - سبحانه - { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } معطوف على قوله { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ }.
ومريب: اسم فاعل من أراب. تقول: أربت فلانا فأنا أريبه، إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة، فمعنى مريب: موقع فى الريبة أى: فى القلق والاضطراب.
أى: قال المكذبون لرسلهم إنا كفرنا بما جئتم به من المعجزات والبينات.
وإنا لفى شك كبير موقع فى الريبة مما تدعوننا إليه من الإِيمان بوحدانية الله، وبإخلاص العبادة له..
قال الجمل ما ملخصه: "فإن قيل: إنهم أكدوا كفرهم بما أرسل به الرسل.
ثم ذكروا بعد ذلك أنهم شاكون مرتابون فى صحة قولهم فكيف ذلك؟
فالجواب: كأنهم قالوا أنا كفرنا بما أرسلتم به أيها الرسل فإن لم نكن كذلك، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين فى صحة نبوتكم.
أو يقال: المراد بقولهم { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أى بالمعجزات والبينات، وبقولهم: { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } وهو الإِيمان والتوحيد.
أو يقال: إنهم كانوا فرقتين إحداهما جزمت بالكفر، والأخرى شكت...
ثم بين - سبحانه - ما رد به الرسل على المكذبين من أقوامهم فقال: { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى.. }
والاستفهام فى قوله { أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ } للتوبيخ والإِنكار، ومحل الانكار هو وقوع الشك فى وجود الله - تعالى - وفى وحدانيته.
وقوله { فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } من الفطر بمعنى الخلق والإبداع من غير سبق مثال وأصله: الشق وفصل شئ عن شئ، ومنه فطر ناب البعير أى: طلع وظهر، واستعمل فى الإِيجاد والإبداع والخلق لاقتضائه التركيب الذى سبيله الشق والتأليف، أو لما فيه من الإِخراج من العدم إلى الوجود.
والمعنى: قال الرسل لأقوامهم على سبيل الإِنكار والتعجب من أقوالهم الباطلة: أفى وجود الله - تعالى - وفى وجوب إخلاص العبادة له شك، مع أنه - سبحانه - هو { فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى خالقهما ومبدعهما ومبدع ما فيهما على أحكم نظام، وعلى غير مثال سابق.. وهو - سبحانه - فضلا منه وكرما "يدعوكم" إلى الإِيمان بما جئناكم به من لدنه { لِيَغْفِرَ لَكُمْ } سبب هذا الإِيمان { مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ } فى هذه الدنيا { إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى } أى: إلى وقت معلوم عنده تنتهى بانتهائه أعماركم، دون أن يعاجلكم خلال حياتكم بعذاب الاستئصال "رحمة بكم" وأملا فى هدايتكم.
فأنت ترى أن الرسل الكرام قد أنكروا على أقوامهم أن يصل بهم انطماس البصيرة إلى الدرجة التى تجعلهم ينكرون وجود الله مع أن الفطرة شاهدة بوجوده، وينكرون وحدانيته مع أنه وحده الخالق لكل شئ، ويشركون معه فى العبادة آلهة أخرى، مع أن هذه الآلهة لا تضر ولا تنفع.
وجملة { فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } جئ بها كدليل على نفى الشك فى وجوده - سبحانه - وفى وجوب إخلاص العبادة له، لأن وجودهما على هذا النسق البديع يدل دلالة قاطعة على أن لهما خالقا قادرا حكيما، لاستحالة صدور تلك المخلوقات من غير فاعل مختار.
وجملة { يدعوكم... } حال من اسم الجلالة، واللام فى قوله { لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } متعلقة بالدعاء.
أى: يدعوكم إلى الإِيمان بنا لكى يغفر لكم.
قال الشوكانى ما ملخصه: "ومن" فى قوله { من ذنوبكم } قال أبو عبيدة: إنها زائدة، ووجه ذلك قوله - تعالى - فى موضع آخر:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } وقال سيبويه: هى للتبعيض، ويجوز أن يذكر البعض ويراد منه الجميع، وقيل التبعيض على حقيقته ولا يلزم من غفران الذنوب لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - غفران جميعها لغيرهم..
وقيل هى للبدل، أى: لتكون المغفرة بدلا من الذنوب...
وقال الجمل: "ويحتمل أن يضمن "ويغفر" معنى يخلص أى: يخلصكم من ذنوبكم، ويكون مقتضاه غفران جميع الذنوب، وهو أولى من دعوى زيادتها".
وقوله - سبحانه - { قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } حكاية لرد آخر من الردود السيئة التى قابل بها المكذبون رسلهم.
أى: قال الظالمون لرسلهم الذين جاءوا لهدايتهم، ما أنتم إلا بشر مثلنا فى الهيئة والصورة والمأكل والمشرب، تريدون بما جئتمونا به أن تصرفونا وتمنعونا عن عبادة الآلهة التى ورثنا عبادتها عن آبائنا.. فإن كنتم صادقين فى دعواكم هذه { فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أى بحجة ظاهرة تدل على صدقكم وتتسلط هذه الحجة بقوتها على نفوسنا وتجذبها إلى اليقين، من السلاطة وهى التمكن من القهر.
وكأن هؤلاء الظالمين بقولهم هذا، يرون أن الرسل لا يصح أن يكونوا من البشر، وإنما يكونون من الملائكة.
وكأن ما أتاهم به الرسل من حجج باهرة تدل على صدقهم، ليس كافيا فى زعم هؤلاء المكذبين للإِيمان بهم، بل عليهم أن يأتوهم بحجج محسوسة أخرى، وهكذا الجحود العقلى، والانطماس النفسى يحمل أصحابه على قلب الحقائق، وإيثار طريق الضلالة على طريق الهداية.
وهنا يحكى القرآن أن الرسل - عليهم السلام - قد قابلوا هذا السفه من أقوالهم بالمنطق الحكيم، وبالأسلوب المهذب فيقول: { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ.. }.
أى: قال الرسل لمكذبيهم على سبيل الإِرشاد والتنبيه: نحن نوافقكم كل الموافقة على أننا بشر مثلكم كما قلتم، ولكن هذه المماثلة بيننا وبينكم فى البشرية، لا تمنع من أن يتفضل الله على من يشاء التفضل عليه من عباده، بأن يمنحه النبوة أو غيرها من نعمه التى لا تحصى.
فأنت ترى أن الرسل - عليهم السلام - قد سلموا للمكذبين دعواهم المماثلة فى البشرية، فى أول الأمر، ثم بعد ذلك بينوا لهم جهلهم وسوء تفكيرهم، بأن أفهومهم بطريق الاستدراك، أن المشاركة فى الجنس لا تمنع التفاضل، فالبشر كلهم عباد الله، ولكنه - سبحانه - يمن على بعضهم بنعم لم يعطها لسواهم..
فالمقصود بالاستدارك دفع ما توهمه المكذبون، من كون المماثلة فى البشرية تمنع اختصاص بعض البشر بالنبوة.
قال الآلوسى: قوله - تعالى -: { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ } مجاراة لأول مقالتهم { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } كما تقولون، وهذا كالقول بالموجب، لأن فيه إطماعا فى الموافقة، ثم كروا على قولهم بالإِبطال فقالوا: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ }.
أى: إنما اختصنا الله - تعالى - بالرسالة بفضل منه وامتنان، والبشرية غير مانعة لمشيئته - جل وعلا -. وفيه دليل على أن الرسالة عطائية، وأن ترجيح بعض الجائز على بعض بمشيئته - تعالى - ولا يخفى ما فى العدول عن { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ }، إلى ما فى النظم الجليل منهم - عليهم السلام -.
وقوله - سبحانه -: { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } حكاية لرد الرسل على قول المكذبين { فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }.
أى: وقال الرسل للمكذبين من أقوامهم - أيضا -: وما صح وما استقام لنا نحن الرسل أن نأتيكم - أيها الضالون - بحجة من الحجج، أو بخارق من الخوارق التى تقترحونها علينا، إلا بإذن الله وإرادته وأمره لنا بالإِتيان بما اقترحتم، فنحن عباده ولا نتصرف إلا بإذنه.
ثم أكد الرسل تمسكهم بالمضى فى دعوتهم فقالوا - كما حكى القرآن عنهم - { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ }.
والتوكل على الله معناه: الاعتماد عليه، وتفويض الأمور إليه، مع مباشرة الأسباب التى أمر - سبحانه - بمباشرتها.
أى: وعلى الله وحده دون أحد سواه، فيتوكل المؤمنون، الصادقون، دون أن يعبأوا بعنادكم ولجاجكم، ونحن الرسل على رأس هؤلاء المؤمنين الصادقين.
فالجملة الكريمة أمر من الرسل لمن آمن من قومهم بالتوكل على الله وحده، وقد قصدوا بهذا الأمر أنفسهم قصدا أوليا، بدليل قولهم بعد ذلك - كما حكى القرآن عنهم - { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا }.
أى: وما عذرنا إن تركنا التوكل على الله - تعالى - والحال أنه - عز وجل - قد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، فقد هدانا لأقوم الطريق وأوضحها وأبينها، وهى طريق إخلاص العبادة له والاعتماد عليه وحده فى كل شئوننا.
فالجملة الكريمة تدل على اطمئنانهم إلى سلامة مواقفهم فى تفويض أمورهم إلى الله، وإلى رعاية الله - تعالى - حيث هداهم إلى طريق النجاة والسعادة.
ثم أضافوا إلى ذلك تيئيس أعدائهم من التأثر بأذاهم، فقالوا { وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ آذَيْتُمُونَا }.
أى: والله لنصبرن صبرا جميلا فى حاضرنا ومستقبلنا - كما صبرنا فى ماضينا - على إيذائكم لنا. والذى من مظاهره: عصيانكم لأقوالنا، ونفوركم من نصحنا، واستهزاؤكم بنا، ومحاربتكم لنا..
ثم ختموا أقوالهم بتأكيد تصميمهم على الثبات فى وجه الباطل فقالوا { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ }.
أى: وعلى الله وحده دون أحد سواه، فليثبت المتوكلون على توكلهم. وليفوضوا أمورهم إلى خالقهم، فهو القاهر فوق عباده، وهو الذى لا يعجزه شئ.
وتقديم الجار والمجرور فى الجملة الكريمة وفيما يشبهها مؤذن بالحصر، وأن هؤلاء الرسل الكرام لا يرجون نصرا من غير الله - تعالى - .
وبهذا نرى أن الآيات الكريمة، قد حكت لنا بأسلوب مؤثر حكيم، جانبا من المحاورات التى دارت بين الرسل وبين مكذبيهم، وبينت لنا كيف دافع الرسل عن عقيدتهم، وكيف ردوا على الأقوال السيئة، والأفعال القبيحة، التى واجههم بها المكذبون، وكيف أعلنوا فى قوة وعزم وإصرار ثباتهم فى وجوه أعدائهم، ومقابلتهم الأذى بالصبر الذى لا جزع معه، مهما صنع الأعداء فى طريقهم من عقبات، ومهما أثاروا من أباطيل وشبهات..
ثم حكت السورة بعد ذلك جانبا آخر من تلك المحاورات التى دارت بين الرسل وبين أعدائهم، وجانبا مما وعد الله به رسله - عليهم السلام - وجانبا من العذاب الذى أعده للظالمين فقال - تعالى - :
{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ... }