التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ
٢٨
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ
٢٩
وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ
٣٠
قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ
٣١
ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ
٣٢
وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ
٣٣
وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
٣٤
-إبراهيم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه - { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً.. } الخطاب فيه للنبى - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح للخطاب.
والاستفهام للتعجيب من أحوالهم الذميمة.
وبدلوا من التبديل بمعنى التغيير والتحويل، والمراد به: وضع الشئ فى غير وضعه ومقابلة نعم الله بالجحود وعدم الشكر.
ونعمة الله التى بدلوها، تشمل كفرهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى أرسله الله - تعالى - لإِخراجهم من الظلمات إلى النور، كما تشمل إكرام الله لهم - أى أهل مكة - بأن جعلهم فى حرم آمن، وجعلهم سدنة بيته.. ولكنهم لم يشكروا الله على هذه النعم، بل أشركوا معه فى العبادة آلهة أخرى.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: "قوله: { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ } لأن شكرها الذى وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلا.
وهم أهل مكة أسكنهم الله حرمه، وجعلهم قوام بيته، وأكرمهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فكفروا نعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم، أو أصابهم الله بالنعمة فى الرخاء والسعة لإِيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، وكذلك حين أسروا وقتلوا يوم بدر، قد ذهبت النعمة عنهم، وبقى الكفر طوقا فى أعناقهم.."
وقال الإِمام ابن كثير ما ملخصه: "قال البخارى قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً.. } حدثنا على بن عبد الله حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، سمع ابن عباس قال: هم كفار أهل مكة.
ثم قال ابن كثير: وهذا هو الصحيح، وإن كان المعنى يعم جميع الكفار، فإن الله - تعالى - "بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، ونعمة للناس؛ فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة، ومن ردها وكفرها دخل النار..".
وما ذهب إليه صاحب الكشاف وابن كثير - رحمهما الله - هو الذى تطمئن إليه النفس، لأن مشركى مكة ومن سار على شاكلتهم تنطبق عليهم هذه الآية الكريمة.
وقد أورد بعض المفسرين هنا روايات فى أن المراد بهؤلاء الذين بدلوا نعمة الله كفراً، بنو أمية وبنو مخزوم.. ولكن هذه الروايات بعيدة عن الصواب، ولا سند لها من النقل الصحيح".
وقوله { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ } معطوف على { بدلوا } لبيان رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة والمراد بقومهم: أتباعهم وشركاؤهم فى الكفر والعناد حتى ماتوا على ذلك.
والبوار: الهلاك والخسران، ويطلق أيضا على الكساد. يقال: بار المتاع بوارا، إذا كسد، إذ الكاسد فى حكم الهالك.
والمعنى: ألم تر - أيها العاقل - إلى حال هؤلاء المشركين، الذين قابلوا نعم الله عليهم بالكفر والجحود، وكانوا سببا فى إنزال قومهم دار الهلاك والخسران.
وقوله - سبحانه - { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } بيان لدار بوارهم وهلاكهم أى: جهنم يصلون حرها وسعيرها، وبئس القرار قرارهم فيها.
فقوله { جَهَنَّمَ } عطف بيان لدار البوار، وقوله { يَصْلَوْنَهَا } فى محل نصب حال من { جَهَنَّمَ } يقال: صلى فلان النار - من باب تعب - إذا ذاق حرها، وتقول: صليت اللحم أصليه - من باب رمى - إذا شويته.
والمخصوص بالذم محذوف. أى: بئس القرار هى أى: جهنم.
وفيه إشارة إلى أن حلولهم فيها كائن على وجه الدوام والاستمرار.
ثم بين - سبحانه - لونا ثالثا من ألوان أعمالهم القبيحة، وعقائدهم الباطلة فقال { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ.. }.
والأنداد: جمع ند وهو مثل الشئ الذى يضاده وينافره ويتباعد عنه.
وأصله من ند البعير يند - بكسر النون - ندا - بالفتح - إذا نفر وذهب على وجهه شاردا.
وقوله { ليضلوا } قرأ الجمهور - بضم الياء - من أضل غيره إذا جعله ضلالا.
أى: أن هؤلاء الخاسرين لم يكتفوا بمقابلة نعمة الله بالجحود، وإحلال قومهم دار البوار، بل أضافوا إلى ذلك أنهم جعلوا لله - تعالى - أمثالا ونظراء، ليصرفوا غيرهم عن الطريق الحق، والصراط المستقيم، الذى هو إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ليضلوا } - بفتح الياء - أى: ليستمروا فى ضلالهم، فإنهم حين جعلهم الأنداد لله - تعالى - كانوا ضالين، وجهلوا ذلك فاستمروا فى ضلالهم توهما منهم أنهم على صواب.
قال صاحب الكشاف: قرئ { ليضلوا } بفتح الياء وضمها. فإن قلت: الضلال لم يكن غرضهم فى اتخاذ الأنداد فما معنى اللام؟
قلت: لما كان الضلال والإِضلال نتيجة اتخاذا الأنداد، كما كان الإِكرام فى قولك، جئتك لتكرمنى نتيجة المجئ، دخلته اللام، وإن لم يكن غرضاً، على طريق التشبيه والتقريب.
وقوله - سبحانه - { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } أمر منه - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يهددهم بهذا المصير الأليم.
والتمتع بالشئ: الانتفاع به مع التلذذ والميل إليه.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الخاسرين، تمتعوا بما شئتم التمتع به من شهوات ولذائذ، فإن مصيركم إلى النار لا محالة.
قال صاحب فتح القدير ما ملخصه: قوله { قُلْ تَمَتَّعُواْ } بما أنتم فيه من الشهوات، وبما زينته لكم أنفسكم من كفران للنعم { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } أى: مرجعكم إليها ليس إلا.
ولما كان هذا حالهم، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه لا يقلعون عنه. جعل - سبحانه - الأمر بمباشرته مكان النهى عن قربانه، إيضاحا لما تكون عليه عاقبتهم، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار.
فجعله { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } تعليل للأمر بالتمتع، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره.
ويجوز أن تكون هذه الجملة جوابا لمحذوف دل عليه السياق كأنه قيل: قل تمتعوا فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار.
والأول أولى والنظم القرآنى عليه أدل، وذلك كما يقال لمن يسعى فى مخالفة السلطان: "اصنع ما شئت من المخالفة فإن مصيرك إلى السيف".
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } }. وقوله - تعالى -: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ } وقوله - تعالى - { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } وبعد هذا الأمر من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بتهديد الكافرين، وجه - سبحانه - أمرا آخر له - صلى الله عليه وسلم - طلب منه فيه، مواصلة دعوة المؤمنين إلى الاستمرار فى التزود من العمل الصالح فقال - تعالى -: { قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ }.
قال الجمل: "قوله { قُل لِّعِبَادِيَ... إلخ } مفعول قل محذوف يدل عليه جوابه، أى: قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا - وقوله: يقيموا وينفقوا مجزومان فى جواب الأمر، أى: إن قلت لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا.. يقيموا وينفقوا.
ويجوز أن يكون قوله "يقيموا وينفقوا" مجزومين بلام الأمر المقدرة.
أى: ليقيموا الصلاة ولينفقوا...".
والمراد بإقامة الصلاة: المواظبة على أدائها فى أوقاتها المحددة لها، مع استيفائها لأركانها وسننها وآدابها وخشوعها، ومع إخلاص النية عند أدائها الله - تعالى -.
والمراد بالإِنفاق: ما يشمل جميع وجوه الإِنفاق الواجبة والمستحبة.
والمراد بقوله { سِرّاً وَعَلانِيَةً } ما يتناول عموم الأحوال فى الحرص على بذل المال فى وجوهه المشروعة.
والمعنى: قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المخلصين، الذين آمنوا إيمانا حقا، قل لهم: ليستزيدوا من المواظبة على أداء الصلاة، وعلى الإِنفاق مما رزقناهم فى جميع الأحوال، بأن يجعلوا نفقتهم فى السر إذا كانت آداب الدين وتعاليمه تقتضى ذلك، وأن يجعلوها فى العلن إذا كانت المنفعة فى ذلك.
والإِضافة فى قوله { لعبادى } للتشريف والتكريم لهؤلاء العباد المخلصين.
ولم تعطف هذه الآية الكريمة على ما قبلها وهو قوله { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ } للإِيذان بتباين حال الفريقين، واختلاف شأنهما.
ومفعول { ينفقوا } محذوف والتقدير ينفقوا شيئا مما رزقناهم.
وعبر - سبحانه - بمن المفيدة للتبعيض فى قوله { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } للاشعار بأنهم قوم عقلاء يبتعدون فى إنفاقهم عن الإِسراف والتبذير، عملا بقوله - تعالى -:
{ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } وهذا التعبير - أيضا - يشعر بأن هذا المال الذى بين أيدى عباده - سبحانه - ما هو إلا رزق رزقهم الله إياه، ونعمة أنعم بها عليهم، فعليهم أن يقابلوا هذه النعمة بالشكر، بأن ينفقوا جزءا منها فى وجوه الخير.
وقوله { سِرّاً وَعَلانِيَةً } منصوبان على الحال أى: مسرين ومعلنين، أو على المصدر أى: إنفاق سر وإنفاق علانية.
وقدم - سبحانه - إنفاق السر على العلانية للتنبيه على أنه أولى الأمرين فى معظم الأحوال لبعده عن خواطر الرياء، ولأنه استر للمتصدق عليه.
وقوله - سبحانه - { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } مؤكد لمضمون ما قبله من الأمر بإقامة الصلاة وبالإِنفاق فى وجوه الخير بدون تردد أو إبطاء.
ولفظ "خلال" مصدر خاللت بمعنى صاحبت وصادقت، أو جمع خليل بمعنى صديق، أو جمع خلة بمعنى الصداقة كقلة وقلال.
أى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - بأن من الواجب عليهم أن يكثروا ويداوموا على إقامة الصلاة وعلى الإِنفاق مما رزقهم - سبحانه -، من قبل أن يفاجئهم يوم القيامة، ذلك اليوم الذى لا تقبل فيه المعاوضات، ولا تنفع فيه شفاعة الصديق لصديقه، وإنما الذى يقبل وينفع فى هذا اليوم هو العمل الصالح الذى قدمه المسلم فى دنياه.
فالجملة الكريمة تفيد حضا آخر على إقامة الصلاة وعلى الإِنفاق عن طريق التذكير للناس بهذا اليوم الذى تنتهى فيه الأعمال، ولا يمكن فيه استدراك ما فاتهم، ولا تعويض ما فقدوه من طاعات.
كما تفيد أن المواظبة على أداء هاتين الشعيرتين، من أعظم القربات التى يتقرب بها المسلم إلى خالقه - سبحانه - والتى تكون سببا فى رفع الدرجات يوم القيامة.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من نعمه التى تستوجب شكره وطاعته وإخلاص العبادة له والتى تدل على كمال قدرته وعلمه ووحدانيته فقال - تعالى - { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ.. }.
أى: الله - تعالى - وحده هو الذى أوجد السماوات والأرض وما فيهما من أجرام علوية وسفلية بدون مثال سابق.
وافتتحت الآية الكريمة بلفظ الجلالة، لما فى ذلك من تربية المهابة، ومن لفت أنظار المشركين إلى ما هم فيه من ضلال حتى يقلعوا عنه.
وجاء الخبر بصيغة الموصول، لأن الصلة معلومة الثبوت له - سبحانه - والمشركون لا ينازعون فى ذلك، كما قال - تعالى -
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } وقوله { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ.. } بيان للون آخر من ألوان نعمه على خلقه.
والمراد بالسماء هنا: السحاب، أو جهة العلو.
أى: وأنزل - سبحانه - من المزن أو السحاب { ماء } كثيرا هو المطر، { فَأَخْرَجَ بِهِ } أى بذلك الماء { مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ } المتعددة الأنواع والأصناف { رِزْقاً لَّكُمْ } تنتفعون به، وتتمتعون بجمال منظره وطيب مطعمه.
ثم حكى - سبحانه - ألوانا أخرى من نعمه فقال: { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ. وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ }
وقوله "سخر" من التسخير بمعنى التذليل والتطويع والقدرة على التصرف فى الشئ والانتفاع به.
والفلك: ما عظم من السفن. ويستعمل لفظه فى الواحد والجمع، والظاهر أن المراد به هنا الجمع لقوله - سبحانه - "لتجرى" بتاء التأنيث.
أى: { وَسَخَّرَ لَكُمُ } - سبحانه - السفن الضخمة العظيمة، بأن ألهمكم صنعها، وأقدركم على استعمالها { لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ } إلى حيث تريدون "بأمره" وإذنه ومشيئته، لا بإذنكم ومشيئتكم، إذ لو شاء - سبحانه - لقلبها بكم.
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ } بأن جعلها معدة لانتفاعكم، إذ منها تشربون، ومنها تسقون دوابكم وزروعكم، وعليها تسيرون بسفنكم إلى حيث تريدون.
{ وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ } أى: دائمين فى إصلاح ما يصلحان من الأبدان والنبات وغيرهما أو دائمين فى مدارهما المقدر لهما بدون اضطراب أو اختلال. ولا يفتران عن ذلك ما دامت الدنيا.
وأصل الدأب: الدوام والعادة المستمرة على حالة واحدة. يقال: دأب فلان على كذا يدأب دأبا، إذا داوم عليه وجد فيه.
و { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ } بأن جعلهما متعاقبين، يأتى أحدهما فى أعقاب الآخر، فتنتفعون بكل منهما بما يصلح أحوالكم.
فالليل تنتفعون به فى راحتكم ومنامكم.. والنهار تنتفعون به فى معاشكم وطلب رزقكم قال - تعالى -
{ وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً. وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } تم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ.. }
أى: وأعطاكم - فضلا عما تقدم من النعم - بعضا من جميع ما سألتموه إياه من نعم، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته التى لا تعلمونها كما قال - تعالى -
{ وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } قال الجمل ما ملخصه "قوله { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أى: كل نوع أو كل صنف سألتموه أى: شأنكم أن تسألوه لاحتياجكم إليه، وإن لم تسألوه بالفعل.
وفى "من" قولان: أحدهما أنها زائدة فى المفعول الثانى، أى: آتاكم كل ما سألتموه.
والثانى أن تكون تبعيضية أى: وآتاكم بعض جميع ما سألتموه وعلى هذا فالمفعول محذوف تقديره: وآتاكم شيئا من كل ما سألتموه، وهو رأى سيبويه.."
وجملة { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } مؤكدة لمضمون ما قبلها.
أى: وإن تحاولوا عد نعم الله عليكم، وتحاولوا تحديد هذا العدد، لن تستطيعوا ذلك لكثرة هذه النعم، وخفاء بعضه عليكم.
والإِحصاء: ضبط العدد وتحديده، مأخوذ من الحصا وهو صغار الحجارة لأن العرب كانوا يعدون الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للخطأ.
قال ابن كثير: "يخبر - سبحانه - عن عجز العباد من تعداد نعمه فضلا عن القيام بشكرها، كما قال طلق بن حبيب -رحمه الله -: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين".
وفى صحيح البخارى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول:
"لك الحمد غير مكفى - أى لم يكفه غيره بل هو - سبحانه - يكفى غيره - ولا مودع - أى متروك حمده -، ولا مستغنى عنه ربنا - أى هو الذى يحتاج إليه الخلق.." .
والمراد بالإِنسان فى قوله { إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } نوع معين منه وهو الكافر كما فى قوله - تعالى - { وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } أى: إن الإِنسان الكافر الشديد الظلم لنفسه بعبادته لغير الله - تعالى -، ولشديد الجحود والكفران لنعمه - عز وجل.
ويرى بعضهم أن المراد بالإِنسان هنا الجنس.
قال الشوكانى: قوله - سبحانه : { إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ } أى لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه، وظاهره شمول كل إنسان، وقال الزجاج: إن الإِنسان هنا اسم جنس يقصد به الكافر خاصة، كما فى قوله - تعالى -
{ وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } "كفار" أى: شديد كفران نعم الله عليه، جاحد لها، غير شاكر لله عليها كما ينبغى ويجب عليه".
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ابتدأت ببيان سوء عاقبة الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وثنت بأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بأن يحض المؤمنين الصادقين على الاستزادة من إقامة الصلاة ومن الانفاق فى سبيل الله.
ثم ساقت عشر نعم تدل دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وعلمه وقدرته، وهذه النعم هى خلق السماوات والأرض، وإنزال المطر من السماء، وإخراج الثمرات به، وتسخير الفلك فى البحار، وتسخير الأنهار، وتسخير الليل والنهار.
ثم ختمت ببيان أنه - سبحانه - قد أعطى الناس - فضلا عن كل ذلك - جميع ما يحتاجون إليه فى مصالحهم على حسب حكمته ومشيئته ولكن الناس - إلا من عصم الله - لا يقابلون نعمه - سبحانه - بما تستحقه من شكر، لشدة ظلمهم وكثرة جحودهم.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك بعض الدعوات التى تضرع بها إبراهيم - عليه السلام - إلى ربه، وهى دعوات تدل على شكره لخالقه، وحسن صلته به، ورجائه فى فضله.. فقال - تعالى -:
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ... }.