التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ
٤٢
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ
٤٣
وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ
٤٤
وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ
٤٥
وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ
٤٦
فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٤٧
يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
٤٨
وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ
٤٩
سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ
٥٠
لِيَجْزِىَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٥١
هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٥٢
-إبراهيم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام القرطبى: "قوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ... } هذا تسلية للنبى - صلى الله عليه وسلم - بعد أن عجبه من أفعال المشركين، ومخالفتهم دين إبراهيم، أى: اصبر كما صبر إبراهيم، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. قال ميمون بن مهران: هذا وعيد للظالم. وتعزية للمظلوم".
والخطاب { وَلاَ تَحْسَبَنَّ }، يجوز أن يكون للنبى - صلى الله عليه وسلم - لقصد زيادة تثبيته على الحق، ودوامه على ذلك، ويجوز أن يكون لكل من يصلح للخطاب.
والغفلة: سهر يعترى الإِنسان بسبب قلة تيقظه وانتباهه، ولا شك أن ذلك محال فى حق الله - تعالى -، لذا وجب حمل المعنى على أن المراد بالغفلة هنا: ترك عقاب المجرمين.
والمراد بالظالمين: كل من انحرفوا عن طريق الحق، واتبعوا طريق الباطل، ويدخل فيهم دخولا أوليا مشركو مكة، الذين أبوا الدخول فى الإِسلام الذى جاءهم به النبى - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } استئناف وقع تعليلا للنهى السابق.
وقوله { تشخيص } من الشخوص بمعنى رفع البصر بدون تحرك يقال شخص بصر فلان - من باب خضع - فهو شاخص، إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف من شدة الخوف والفزع.
والمعنى: ولا تحسبن - أيها الرسول الكريم - أن الله تعالى - تارك عقاب هؤلاء الظالمين، الذين كذبوك فى دعوتك، كلا لن يترك الله - تعالى - عقابهم، وإنما يؤخره ليوم هائل شديد، هو يوم القيامة الذى ترتفع فيه أبصار أهل الموقف، فلا تطرف أجفانهم من هول ما يرونه.
ثم بين - سبحانه - بعض أحوال هؤلاء الظالمين فى هذا اليوم العظيم فقال - تعالى -: { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ }.
والإِهطاع السير السريع. يقال: أهطع فلان فى مشيه فهو يهطع إهطاعا إذا أسرع فى سيره بذلة واضطراب.
و { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } أى رافعيها، يقال: أهطع فلان رأسه، إذا نصبه ورفعه دون أن يلتفت يمينا أو شمالا. وقيل، إقناع الرءوس طأطأتها وانتكاسها.
الأفئدة: جمع فؤاد، والمراد بها القلوب.
والمعنى: أن هؤلاء الظالمين يخرجون من قبورهم فى هذا اليوم مسرعين إلى الداعى بذلة واستكانة، كإسراع الأسير الخائف، رافعى رءوسهم إلى السماء مع إدامة النظر بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شئ.
{ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أى: لا تتحرك أجفان عيونهم، بل تبقى مفتوحة بدون حراك لهول ما يشاهدونه فى هذا اليوم العصيب.
{ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } أى: وقلوبهم فارغة خالية عن الفهم، بحيث لا تعى شيئا من شدة الفزع والدهشة، ومنه قولهم فى شأن الأحمق والجبان قلبهما هواء، أى لا رأى فيه ولا قوة.
وأفرد هواء وإن كان خبرا عن جمع لأنه فى معنى فارغة أو خالية.
قال - تعالى -
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً... } أى خاليا من كل شئ إلا من التفكير فى شأن مصير ابنها موسى - عليه السلام -.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هؤلاء الظالمين فى هاتين الآيتين بجملة من الصفات الدالة على فزعهم وحيرتهم.
وصفهم أولا بشخوص الأبصار، ووصفهم ثانيا بالإِسراع إلى الداعى فى ذلة وانكسار، ووصفهم ثالثا برفع رءوسهم فى حيرة واضطراب، ووصفهم رابعا: بانفتاح عيونهم دون أن تطرف من شدة الوجل، ووصفهم خامسا بخلو قلوبهم من إدراك أى شئ بسبب ما اعتراهم من دهشة ورعب.
وقوله - سبحانه -: { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } من باب التشبيه البليغ الذى حذفت فيه الأداة، والتقدير: وقلوبهم كالهواء فى الخلو من الإدراك من شدة الهول.
ثم أمر الله تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحذر الناس من أهوال هذا اليوم، وأن يقدموا العمل الصالح الذى ينفعهم فقال - تعالى - { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ.. }
والإِنذار: التخويف من ارتكاب شئ تسوء عاقبته.
والمراد بالناس: جميعهم، وقيل المراد بهم الكفار. ويبدوا أن الأول أرجح لأن الإنذار يكون للمؤمن كما يكون للكافر، إلا أن المؤمن يستجيب للنصح فينجو من العقاب، والكافر لا يستجيب فيحل عليه العذاب.
والمعنى: وخوف - أيها الرسول الكريم - الناس من أهوال يوم القيامة، ومرهم بأن يستعدوا له بالإِيمان والعمل الصالح، من قبل أن يحل عذابه بالظالمين منهم فيقولون: يا ربنا أعدنا إلى الحياة مرة أخرى، وأخر أعمارنا وحسابنا إلى وقت قريب، حتى نستطيع فيه أن نستجيب لدعوتك التى تأمرنا بإخلاص العبادة لك، وأن نتبع رسلك فى كل ما أمرونا به ونتدارك ما فرطنا فيه من أعمال الدنيا.
قال الجمل "وقوله: { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ... } مفعول ثان لأنذر على حذف المضاف، أى: أنذرهم أهواله وعظائمه، فهو مفعول به لا مفعول فيه، إذ لا إنذار فى ذلك اليوم، وإنما الإنذار يقع فى الدنيا.."
وإنما اقتصر - سبحانه - على ذكر إتيان العذاب فى هذا اليوم. مع كون الثواب يحصل فيه - أيضا - لأن المقام مقام تهديد وزجر، فكان من المناسب ذكر أهواله وشدائده.
وجمع لفظ الرسل فقال: { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } للإِشارة إلى أن الرسل جميعا قد جاءوا برسالة واحدة فى جوهرها وأصولها، وهى إخلاص العبادة لله - تعالى -، والدعوة إلى مكارم الأخلاق.
وفى معنى هذه الآية الكريمة جاءت آيات كثيرة ومنها قوله - تعالى -
{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ. لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وقوله - تعالى -: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } وجملة { أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } مقول لقول محذوف.
والزوال: الانتقال من مكان إلى آخر، أو من حال إلى حال، والمراد به هنا: انتقالهم من قبورهم إلى الحساب يوم القيامة.
والمعنى: أن هؤلاء الظالمين عندما يقولون يا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل.
يقال لهم من قبل الله والملائكة على سبيل التوبيخ والتبكيت: أو لم تكونوا - أيها الظالمون - تقسمون بالأيمان المغلظة فى الدنيا، بأنكم بعد موتكم ستبقون فى قبوركم إلى أن تبلى أجسادكم، وأنه ليس بعد ذلك من بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب.
قال - تعالى -
{ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ... } فالجملة الكريمة تحكى رفض مطالبهم بأبلغ أسلوب، حتى يزدادوا حزنا على حزنهم، وحسرة على حسرتهم.
وجملة { مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } جواب القسم.
وقوله - سبحانه -: { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ... } معطوف على "أقسمتم..".
والمراد بالسكنى: الحلول فى أماكن الظالمين لوقت يكفى للاتعاظ والاعتبار وكفار قريش كانوا يمرون بديار قوم ثمود فى رحلتهم إلى الشام، وكانوا يحطون رحالهم هناك، كما كانوا يمرون على ديار قوم عاد فى رحلتهم إلى اليمن.
والمعنى: لقد أقسمتم - أيها الضالون - بأنكم مالكم من انتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة، وحللتم فى مساكن القوم الظالمين.
{ وتبين لكم } عن طريق المشاهدة وتواتر الأخبار.
{ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } من الإِهلاك والتدمير بسبب كفرهم وفسوقهم.
{ وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } بما فعلوه وبما فعلناه بهم، عن طريق كتابنا، وعلى لسان رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وكان من الواجب عليكم بعد كل ذلك أن تعتبروا وتتعظوا وتثوبوا إلى رشدكم، وتدخلوا فى الإِسلام، ولكنكم كنتم قوما فاسقين، سائرين على نهج هؤلاء المهلكين فى الكفر والفجور، فاليوم ذوقوا العذاب بسبب جحودكم للحق فى الدنيا.
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "أى: قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر، ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر لكم.
قال - تعالى -
{ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك لونا آخر من ألوان عراقتهم فى الكفر والجحود فقال: { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ }.
والمكر: تبييت فعل السوء بالغير وإضماره، مع إظهار ما يخالف ذلك. وانتصب "مكرهم" الأول على أنه مفعول مطلق لمكروا، لبيان النوع، والإِضافة فيه من إضافة المصدر لفاعله.
أى: أن هؤلاء الظالمين جاءتهم العبر فلم يعتبروا، بل أضافوا إلى ذلك أنهم مكروا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مكرهم العظيم الذى استفرغوا فيه جهدهم لإِبطال الحق، وإحقاق الباطل، والذى كان من مظاهره محاولتهم قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } أى: وفى علم الله - تعالى - الذى لا يغيب عنه شئ مكرهم، وسيجازيهم عليه بما يستحقونه من عذاب مهين.
وقوله - تعالى { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } قرأ الجمهور { لتزول } - بكسر اللام على أنها لام الجحود والفعل منصوب بعدها. بأن مضمرة وجوبا، و "إن" فى قوله { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } نافية بمعنى ما.
والمعنى: ولقد مكر هؤلاء الكافرون مكرهم الشديد الذى اشتهروا به، وفى علم الله - تعالى - مكرهم، وما كان مكرهم - مهما عظم واشتد - لتنتقل منه الجبال من أماكنها، لأنه لم يتجاوز أمثالهم ممن دمرناهم تدميرا.
وعلى هذه القراءة يكون المقصود بهذه الجملة الكريمة، الاستخفاف بهم وبمكرهم، وبيان أن ما يضمرونه من سوء ليس خافيا على الله - تعالى - ولن يزلزل المؤمنين فى عقيدتهم، لأن إيمانهم كالجبال الرواسى فى ثباته ورسوخه.
وقرأ "السكائى" { لِتَزُولَ } - بفتح اللام على أنها لام الابتداء، ورفع الفعل بعدها - و "إن" مخففة من الثقيلة.
فيكون المعنى: وقد مكروا مكرهم، وعند الله مكرهم، وإن مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع من أماكنها، لو كان لها أن تزول أو تنقلع.
وعلى هذه القراءة يكون المراد بهذه الجملة الكريمة التعظيم والتهويل من شأن مكرهم، وأنه أمر شنيع أو شديد فى بابه، كما فى قوله - تعالى -:
{ وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً. لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً. تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً.. } وقوله - سبحانه -: { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ... } تفريع على ما تقدم من قوله - تعالى - { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ.. } وتأكيد لتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولتثبيت يقينه.
وقوله { مخلف } اسم فاعل من الأخلاف، بمعنى عدم الوفاء بالوعد وهو مفعول ثان لتحسب والمراد بالوعد هنا: ما وعد الله - تعالى - به أنبياءه ورسله من نصره إياهم، ومن جعل العاقبة لهم.
قال - تعالى -
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ } وقال - تعالى - { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } والمعنى: لقد وعدناك - أيها الرسول الكريم - بعذاب الظالمين، وأخبرناك بجانب من العذاب الذى سيحل بهم يوم القيامة، وما دام الأمر كذلك فاثبت على الحق أنت وأتباعك، وثق بأن الله - تعالى - لن يخلف ما وعدك به من نصر على أعدائك.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل: مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثانى لمخلف - وهو: وعده - على المفعول الأول - وهو رسله -؟
قلت: قدم الوعد ليعلم أنه - سبحانه - لا يخلف الوعد أصلا، كقوله - تعالى -
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } ثم قال { رسله } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، فكيف يخلفه مع رسله الذين هم خيرته وصفوته من خلقه.."
ويرى صاحب الانتصاف أن تقدم المفعول الثانى هنا، إنما هو للإِيذان بالعناية به، لأن الآية فى سياق الإِنذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله - تعالى - به على ألسنة رسله، فكان المهم فى هذه الحال تقديم ذكر الوعيد على غيره.
وقوله - سبحانه - { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } تعليل للنهى عن الحسبان المذكور.
والعزيز: الغالب على كل شئ.
أى: إن الله - تعالى - غالب على كل شئ، وذو انتقام شديد من أعدائه لأنهم تحت قدرته، وما دام الأمر كذلك فإخلاف الوعد منتف فى حقه - تعالى -.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك بعض العلامات التى تدل على قرب قيام الساعة فقال - تعالى -: { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }.
والظرف { يوم } متعلق بمحذوف تقديره اذكر.
وقوله { تبدل } من التبديل بمعنى التغيير، وهذا التغيير والتبديل لهما قد يكون فى ذواتهما كما فى قوله - تعالى -
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ.. } وقد يكون فى صفاتهما كقولك "بدلت الحلقة خاتما" وقد يكون فيهما معا وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فقال: "وقال الإمام أحمد، حدثنا محمد بن عدى، عن داود، عن الشعبى، عن مسروق، "عن عائشة أنها قالت: أنا أول الناس سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ.. } قالت: قلت: أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: على الصراط" .
وفى رواية "أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: لقد سألتنى عن شئ ما سألنى عنه أحد من أمتى، ذاك أن الناس - يومئذ يكونون - على جسر جهنم" .
والمعنى: اذكر - أيها العاقل، لتتعظ وتعتبر يوم يتغير هذا العالم المعهود بعالم آخر جديد، يأتى به الله - تعالى - على حسب إرادته ومشيئته ويوم يخرج الخلائق جميعا من قبورهم ليستوفوا جزاءهم، وليجازوا على أعمالهم. من الله - تعالى - الواحد الأحد، الذى قهر كل شئ وغلبه، ودانت له الرقاب، وخضعت له الألباب.
وختمت الآية الكريمة بهذين الوصفين لله - تعالى - للرد على المشركين الذين جعلوا مع الله آلهة أخرى يشركونها معه فى العبادة، ويتوهمون أن هذه الآلهة سوف تدافع عنهم يوم القيامة.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما سيحل بالمجرمين يوم القيامة من عذاب عنيف مهين يناسب إجرامهم وكفرهم فقال: { وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ. سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ }
وقوله { مقرنين } جمع مقرن، وهو من جمع مع غيره فى قرن ووثاق واحد يربطان به.
والأصفاد: جمع صفد - بفتح الفاء - وهو القيد الذى يوضع فى الرجل، أو الغل - بضم الغين - الذى تضم به اليد والرجل إلى العنق.
والسرابيل: جمع سربال وهو القميص.
والقطران: مادة حارة نتنة شديدة الاشتعال تصلى بها جلود الإِبل الجربى، ليزول الجرب منها. أى: وترى - أيها العاقل - المجرمين فى هذا اليوم العسير عليهم { مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } أى: قد قرن بعضهم مع بعض، وضم كل قرين إلى من يشبهه فى الكفر وفى الفسوق وفى العصيان، وقد قيدوا جميعا بالأصفاد والقيود والأغلال.
قال - تعالى -
{ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ.. } أى: وأمثالهم من العصاة، فعابد الصنم يكون مع عابد الصنم، وشارب الخمر مع شارب الخمر. ويصح أن يكون اقترانهم مع الشياطين كما قال - تعالى - { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } هذا عن مشهد المجرمين وهم مقرنون فى الأصفاد، وهو مشهد مهين مذل ولكنه ليس كافيا فى عقابهم، بل يضاف إليه أن ملابسهم من قطران، ليجتمع لهم لذعته، وقبح لونه، ونتن ريحه، وسرعة اشتعاله، وفوق كل ذلك فإن وجوههم تعلوها وتحيط بها النار التى تستعر بأجسادهم المسربلة بالقطران.
وخص - سبحانه الوجوه بغشيان النار لها، لكونها أعز موضع فى البدن وأشرفه.
وقوله - سبحانه - { لِيَجْزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ.. } متعلق بمحذوف، والتقدير: فعل ما فعل - سبحانه - من إثابة المؤمنين، ومعاقبة المجرمين، ليجازى كل نفس بما تستحقه من خير أو شر، دون أن يظلم ربك أحدا.
وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أى: إنه - سبحانه - سريع المحاسبة لعباده، لأنه لا يشغله شأن عن شأن، بل جميع الخلق بالنسبة لقدرته كالنفس الواحدة.
قال - تعالى -
{ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ... } ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله - تعالى - { هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }.
واسم الإشارة "هذا" يعود إلى ما أنزله الله - تعالى - من قرآن فى هذه السورة وفى غيرها. و { بلاغ } مصدر بمعنى التبليغ.
والإنذار: التخويف من سوء عاقبة ارتكاب الشرور والآثام.
والألباب: جمع لب وهو الخالص من كل شئ، والمراد بها العقول.
أى: هذا القرآن الكريم الذى أنزلناه عليك يا محمد، فيه التبليغ الكافى لهداية الناس، وفيه ما يخوفهم من سوء عاقبة الكفر والفسوق والعصيان، وفيه ما يجعلهم يعلمون عن طريق توجيهاته وهداياته ودلائله، أن الله - تعالى - واحد لا شريك له، وفيه ما يجعل أصحاب العقول السليمة يتعظون ويعتبرون، فيترتب على ذلك سعادتهم فى الدنيا والآخرة.
وخص - سبحانه - بالتذكر أولى الألباب، لأنهم هم الذين ينتفعون بهداية القرآن الكريم، أما غيرهم فهم كالأنعام بل هم أضل.
وقد رتب - سبحانه - فى هذه الآية الكريمة، وسائل الدعوة إلى الحق ترتيبا عقليا حكيما، فبدأ بالصفة العامة وهى التبليغ، ثم ثنى بما يعقب ذلك من إنذار وتخويف، ثم ثلث بما ينشأ عنهما من العلم بوحدانية الله - تعالى - ثم ختم الثناء على أصحاب العقول السليمة الذين ينتفعون بما يسمعون وبما يبصرون.
قال الإِمام الرازى: "هذه الآية دالة على أنه لا فضيلة للإِنسان، ولا منقبة له، إلا بسبب عقله، لأنه - تعالى - بين أنه إنما أنزل هذه الكتب، وإنما بعث الرسل، لتذكير أولى الألباب..".