التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ
١
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة الإِسراء بتنزيه الله - تعالى - عن كل ما لا يليق بجلاله، كما يدل على ذلك لفظ "سبحان" الذى من أحسن وجوه إعرابه، أنه اسم مصدر منصوب - على أنه مفعول مطلق - بفعل محذوف، والتقدير: سبحت الله - تعالى - سبحانا أى تسبيحا، بمعنى نزهته تنزيها عن كل سوء.
قال القرطبى:
"وقد روى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة - أى المبشرين بالجنة - أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ فقال: تنزيه الله من كل سوء" .
وقوله { أسرى } من الإِسراء، وهو السير بالليل خاصة.
قال الجمل: يقال أسرى وسرى، بمعنى سار فى الليل، وهما لازمان، لكن مصدر الأول الإِسراء ومصدر الثانى السرى - بضم السين كالهدى - فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول، وإنما جاءت التعدية هنا من الباء. ومعنى أسرى به، صيره ساريا فى الليل.
والمراد { بعبده } خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، والإِضافة للتشريف والتكريم.
وأوثر التعبير بلفظ العبد، للدلالة على أن مقام العبودية لله - تعالى - هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها، إذ لو كان هناك وصف أعظم منه فى هذا المقام لعبر به، وللإِشارة - أيضا - إلى تقرير هذه العبودية لله - تعالى - وتأكيدها، حتى لا يلتبس مقام العبودية بمقام الألوهية، كما التبسا فى العقائد المسيحية، حيث أَلهوا عيسى - عليه السلام -، وأَلهوا أمه مريم، مع أنهما بريئان من ذلك ..
قال الشيخ القاسمى نقلا عن الإِمام ابن القيم فى كتاب "طريق الهجرتين": أكمل الخلق أكملهم عبودية لله - تعالى -، ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم أقرب الخلق إلى الله - تعالى - وأعظمهم عنده جاها، وأرفعهم عنده منزلة، لكماله فى مقام العبودية. وكان صلى الله عليه وسلم يقول:
"أيها الناس ما أحب أن ترفعونى فوق منزلتى. إنما أنا عبد" . وكان يقول: "لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" .
وذكره - سبحانه - بسمة العبودية فى أشرف مقاماته: فى مقام الإِسراء حيث قال: { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ }.
وفى مقام الدعوة حيث قال:
{ { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ } }... وفى مقام التحدى حيث قال: { { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } }. وقوله: { ليلا } ظرف زمان لأسرى.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: الإِسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل؟.
قلت: أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير، تقليل مدة الإِسراء، وأنه أسرى به بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ...".
وقوله: { مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى } بيان لابتداء الإِسراء وانتهائه.
أى: جل شأن الله - عز وجل - وتنزه عن كل نقص، حيث أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم فى جزء من الليل، من المسجد الحرام الذى بمكة إلى المسجد الأقصى الذى بفلسطين.
ووصف مسجد مكة بالحرام، لأنه لا يحل انتهاكه بقتال فيه، ولا بصيد صيده، ولا بقطع شجره.
ووصف مسجد فلسطين بالأقصى، لبعده عن المسجد الحرام، إذ المسافة بينهما كان يقطعها الراكب للإِبل فى مدة شهر أو أكثر.
قال الآلوسى: ووصفه بالأقصى - أى الأبعد - بالنسبة إلى من بالحجاز. وقال غير واحد: إنه سمى به لأنه أبعد المساجد التى تزار من المسجد الحرام وبينهما زهاء أربعين ليلة. وقيل - وصف بذلك -: لأنه ليس وراءه موضع عبادة فهو أبعد مواضعها ...
وظاهر الآية يفيد أن الإِسراء كان من المسجد الحرام، فقد أخرج الشيخان والترمذى والنسائى من حديث أنس بن مالك - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" بينا أنا فى الحجر - وفى رواية - فى الحطيم، بين النائم واليقظان، إذ أتانى آت فشق ما بين هذه إلى هذه، فاستخرج قلبى فغسله ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يقال له البراق فحملت عليه"
... وقيل أُسرِى به من بيت أم هانئ بنت أبى طالب، فيكون المراد بالمسجد الحرام: الحرم لإِحاطته بالمسجد والتباسه به. فعن ابن عباس - رضى الله عنهما -: الحرم كله مسجد.
ويمكن الجمع بين هذه الروايات، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بقى فى بيت أم هانئ لفترة من الليل، ثم ترك فراشه عندها وذهب إلى المسجد، فلما كان فى الحِجْر أو فى الحطيم بين النائم واليقظان، أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماوات العلا. ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد - كما جاء فى بعض الروايات.
وبذلك يترجح لدينا أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم فى تلك الليلة فى بيت أم هانئ، لا ينفى أن الإِسراء بدأ من المسجد الحرام، كما تقرر الآية الكريمة.
وقوله { ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } صفة مدح للمسجد الأقصى.
أى: جل شأن الله الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، الذى أحطنا جوانبه بالبركات الدينية والدنيوية.
أما البركات الدينية فمن مظاهرها: أن هذه الأرض التى حوله، جعلها الله - تَعالى - مقرا لكثير من الأنبياء، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وداود وسليمان، وزكريا ويحيى وعيسى.
قال - تعالى -:
{ { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا .. } }. وقال - سبحانه - فى شأن إبراهيم: { { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } }. والمقصود بهذه الأرض: أرض الشام، التى منها فلسطين.
وأما البركات الدنيوية فمن مظاهرها: كثرة الأنهار والأشجار والثمار والزروع فى تلك الأماكن.
قال بعض العلماء: وقد قيل فى خصائص المسجد الأقصى: أنه متعبد الأنبياء السابقين، ومسرى خاتم النبيين، ومعراجه إلى السماوات العلا .. وأولى القبلتين وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه.
وقوله - سبحانه -: { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } إشارة الى الحكمة التى من أجلها أسرى الله - تعالى - بنبيه صلى الله عليه وسلم فقوله { لنريه } متعلق بأسرى.
و"من" للتبعيض لأن ما رآه النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان عظيما إلا أنه مع عظمته بعض آيات الله بالنسبة لما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب.
أى: أسرينا بعبدنا محمد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله، ثم عرجنا به إلى السماوات العلا، لنطلعه على آياتنا، وعلى عجائب قدرتنا، والتى من بينها: مشاهدته لأنبيائنا الكرام، ورؤيته لما نريد أن يراه من عجائب وغرائب هذا الكون.
ولقد وردت أحاديث متعددة فى بيان ما أراه الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم فى تلك الليلة المباركة، ومن ذلك ما رواه البخارى عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"... ووجدت فى السماء الدنيا آدم فقال لى جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه ورد على آدم السلام فقال: مرحبا وأهلا بابنى، فنعم الابن أنت .."
. وفى رواية للإِمام أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بى ربى - عز وجل - مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون فى أعراضهم .." .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على سعة علمه، ومزيد فضله فقال - تعالى -: { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }.
أى: إنه - سبحانه - هو السميع لأقوال عباده: مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم ومكذبهم. بصير بما يسرونه ويعلنونه، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب، بدون ظلم أو محاباة.
هذا وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية جملة من المسائل منها:
1- أن هذه الآية دلت على ثبوت الإِسراء للنبى صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأما العروج به صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلا فقد استدل عليه بعضهم بآيات سورة النجم، وهى قوله - تعالى -:
{ { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } }. وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية أحاديث كثيرة بأسانيدها ومتونها، وقال فى أعقاب ذكر بعضها:
قال البيهقى: وفى هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسرى به - عليه الصلاة والسلام - من مكة إلى بيت المقدس، وهذا الذى قاله هو الحق الذى لا شك فيه ولا مرية.
وقال القرطبى: ثبت الإِسراء فى جميع مصنفات الحديث، وروى عن الصحابة فى كل أقطار الإِسلام، فهو من المتواتر بهذا الوجه، وذكر النقاش ممن رواه عشرين صحابيا.
2- قال بعض العلماء ما ملخصه: ذهب الاكثرون إلى أن الإِسراء كان بعد المبعث، وأنه قبل الهجرة بسنة. قاله الزهرى وابن سعد وغيرهما. وبه جزم النووى، وبالغ ابن حزم فنقل الإِجماع فيه. وقال: كان فى رجب سنة اثنتى عشرة من النبوة.
وإختار الحافظ المقدسى أنه كان فى ليلة السابع والعشرين من شهر رجب.
والذى تطمئن إليه النفس أن حادث الإِسراء والمعراج، كان بعد وفاة أبى طالب والسيدة خديجة - رضى الله عنها -.
ووفاتهما كانت قبل الهجرة بسنتين أو ثلاثة. وفى هذه الفترات التى أعقبت وفاتهما اشتد أذى المشركين بالنبى صلى الله عليه وسلم فكان هذا الحادث لتسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم، ولتشريفه وتكريمه ..
3- من المسائل التى ثار الجدل حولها، مسألة: أكان الإِسراء والمعراج فى اليقظة أم فى المنام؟ وبالروح والجسد أم بالروح فقط؟.
وقد لخص بعض المفسرين أقوال العلماء فى هذه المسألة فقال: اعلم أن هذا الإِسراء به صلى الله عليه وسلم المذكور فى هذه الآية الكريمة زعم بعض أهل العلم أنه بروحه دون جسده، زاعما أنه فى المنام لا فى اليقظة، لأن رؤيا الأنبياء وحى.
وزعم بعضهم أن الإِسراء بالجسد، والمعراج بالروح دون الجسد.
ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما، لأنه قال: { بعبده } والعبد مجموع الروح والجسد.
ولأنه قال: { سبحان } والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناما لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه.
ولأنه لو كان رؤيا منام لما كان فتنة، ولا سببا لتكذيب قريش له صلى الله عليه وسلم لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح.
ولأنه - سبحانه - قال { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } والظاهر أن ما أراه الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم إنما كان رؤيا عن طريق العين ويؤيده قوله - تعالى -: { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } ولأنه ثبت فى الأحاديث الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل فى رحلته البراق، واستعماله البراق يدل على أن هذا الحادث كان بالروح والجسد وفى اليقظة لا فى المنام.
وما ثبت فى الصحيحين عن طريق شريك عن أنس - رضى الله عنه - أن الإِسراء المذكور وقع مناما، لا ينافى ما ذكرنا مما عليه أهل السنة والجماعة، ودلت عليه نصوص الكتاب والسنة من أنه كان يقظة وبالروح والجسد، لإِمكان أنه صلى الله عليه وسلم رأى الإِسراء المذكور مناما، ثم جاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح، فأسرى به يقظة تصديقا لتلك الرؤيا المنامية.
هذا، ومن العلماء الذين فصلوا القول فى تلك المسألة تفصيلا محققا، القاضى عياض فى كتابه "الشفا" فقد قال -رحمه الله - بعد أن ساق الآراء فى ذلك:
والحق فى هذا والصحيح - إن شاء الله - أنه إسراء بالروح والجسد فى القصة كلها، وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار. ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس فى الإِسراء بجسده وروحه حال يقظته استحالة ....
وما قاله القاضى عياض -رحمه الله - فى هذه المسألة هو الذى نعتقده، ونلقى الله - تعالى - عليه.
وبعد أن بين الله - سبحانه - جانبا من مظاهر تكريمه وتشريفه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق إسرائه به. أتبع ذلك بالحديث عما أكرم به نبيه موسى - عليه السلام - فقال: { وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ... }.