التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً
١٠١
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُوراً
١٠٢
فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً
١٠٣
وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً
١٠٤
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بالآيات التسع فى قوله - تعالى -: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ... }: العصا، واليد، والسنون، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع؛ والدم. قال ذلك ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.
وقد جاء الحديث عن هذه الآيات فى مواضع أخرى من القرآن الكريم، منها قوله - تعالى -:
{ { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } }. وقوله - تعالى -: { { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ ... } }. وقوله - سبحانه -: { { فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } }. وقوله - عز وجل -: { { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } }. والمعنى: لا تظن - أيها الرسول الكريم - أن إيمان هؤلاء المشركين من قومك، متوقف على إجابة ما طلبوه منك. وما اقترحوه عليك من أن تفجر لهم من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب .. الخ. لا تظن ذلك:
فإن الخوارق مهما عظمت لا تنشئ الإِيمان فى القلوب الجاحدة الحاقدة، بدليل أننا قد أعطينا أخاك موسى تسع معجزات، واضحات الدلالة على صدقه فى نبوته، ولكن هذه المعجزات لم تزد المعاندين من قومه إلا كفراً على كفرهم ورجساً على رجسهم. فاصبر - أيها الرسول - على تعنت قومك وأذاهم، كما صبر أولو العزم من الرسل قبلك.
وتحديد الآيات بالتسع، لا ينفى أن هناك معجزات أخرى أعطاها الله - تعالى - لموسى - عليه السلام - إذ من المعروف عند علماء الأصول، أن تحديد العدد بالذكر، لا يدل على نفى الزائد عنه.
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: وهذا القول - المروى عن ابن عباس وغيره - ظاهر جلى حسن قوى .. فهذه الآيات التسع، التى ذكرها هؤلاء الأئمة، هى المرادة هنا ...
وقد أوتى موسى - عليه السلام - آيات أخرى كثيرة منها: ضربه الحجر بالعصا، وخروج الماء منه .. وغير ذلك مما أوتوه بنوا إسرائيل بعد خروجهم من مصر، ولكن ذكر هنا هذه الآيات التسع التى شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر وكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا.
ثم قال: وقال الإِمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادى قال:
" قال يهودى لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبى حتى نسأله عن هذه الآية: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ... } فسألاه: فقال النبى صلى الله عليه وسلم: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق، ولا تسخروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببرئ إلى ذى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف .. فقبَّلا يديه ورجليه"
... ثم قال: "أما هذا الحديث فهو حديث مشكل. وعبد الله بن سلمة فى حفظه شئ، وتكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات، بالعشر الكلمات، فإنها وصايا فى التوراة، لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون ...".
والحق أن ما رجحه الإِمام ابن كثير من أن المراد بالآيات التسع هنا: ما آتاه الله - تعالى - لنبيه موسى - عليه السلام - من العصا، واليد ... هو االذى تسكن إليه النفس، لأن قوله - تعالى - بعد ذلك { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ ... } يؤيد أن المراد بها ما تقدم من العصا، واليد، والسنين .. ولأنها هى التى فيها الحجج، والبراهين والمعجزات الدالة على صدق موسى - عليه السلام -. أما تلك الوصايا التى وردت فى الحديث فلا علاقة لها بقيام الحجة على فرعون - كما قال الإِمام ابن كثير.
هذا، والخطاب فى قوله - تعالى -: { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ } يرى بعضهم أنه للنبى صلى الله عليه وسلم والمسئولون هم المؤمنون من بنى إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه.
وعلى هذا التفسير يكون قوله: { إذ جاءهم } ظرف لقوله { آتينا } وجملة { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } معترضة بين العامل والمعمول.
والمعنى: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات، وقت أن أرسله الله - تعالى - إلى فرعون وقومه، فاسأل - أيها الرسول الكريم - المؤمنين من بنى إسرائيل عن ذلك، ستجد منهم الجواب عما جرى بين موسى وأعدائه عن طريق ما طالعوه فى التوراة.
والمقصود بسؤالهم: الاستشهاد بهم حتى يزداد المؤمنون إيماناً على إيمانهم، لأن من شأن الأدلة إذا تضافرت وتعددت، أن تكون أقوى وأثبت فى تأييد المدعى.
قال الآلوسى: "والمعنى: فاسأل يا محمد مؤمنى أهل الكتاب عن ذلك، إما لأن تظاهر الأدلة أقوى - فى التثبيت -، وإما من باب التهييج والإِلهاب، وإما للدلالة على أنه أمر محقق عندهم ثابت فى كتابهم. وليس المقصود حقيقة السؤال. بل كونهم - أعنى المسئولين - من أهل علمه، ولهذا يؤمر مثلك بسؤالهم".
ويرى آخرون أن الخطاب لموسى - عليه السلام -، وعليه يكون السؤال إما بمعناه المشهور أو بمعنى الطلب، ويكون قوله { إذ جاءهم } ظرفاً لفعل مقدر.
والمعنى: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات، فقلنا له حين مجيئه إلى بنى إسرائيل: اسألهم عن أحوالهم مع فرعون، أو اطلب منهم أن يؤمنوا بك ويصدقوك، ويخرجوا معك حين تطلب من فرعون ذلك.
والفاء فى قوله: { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً } هى الفصيحة. إذ المعنى: فامتثل موسى أمرنا، وسأل بنى إسرائيل عن أحوالهم، وطلب من فرعون أن يرسلهم معه، بعد أن أظهر له من المعجزات ما يدل على صدقه، فقال فرعون لموسى على سبيل التعالى والتهوين من شأنه - عليه السلام -: يا موسى إنى لأظنك مسحوراً.
أى: سُحرت فخولط عقلك واختل، وصرت تتصرف تصرفاً يتنافى مع العقل السليم، وتدعى دعاوى لا تدل على تفكير قويم.
فقوله { مسحورا } اسم مفعول. يقال: سحر فلان فلاناً يسحره سحراً فهو مسحور، إذا اختلط عقله.
ويجوز أن يكون قوله { مسحوراً } بمعنى ساحر، فيكون المعنى: إنى لأظنك يا موسى ساحراً، عليماً بفنون السحر فقد أتيت بأشياء عجيبة يشير بذلك إلى انقلاب العصا حية بعد أن ألقاها - عليه السلام -.
وهذا شأن الطغاة فى كل زمان ومكان، عندما يرون الحق قد أخذ يحاصرهم، ويكشف عن ضلالهم وكذبهم ... يرمون أهله - زورا وبهتاناً - بكل نقيصة.
وعندما يحكى القرآن الكريم ما رد به موسى على فرعون فيقول: { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ }.
أى: قال موسى لفرعون رداً على كذبه وافترائه: لقد علمت يا فرعون أنه ما أوجد هذه الآيات التسع إلا الله - تعالى - خالق السماوات والأرض، وقد أوجدها - سبحانه - بصورة واضحة جلية، حتى لكأتها البصائر فى كشفها للحقائق وتجليتها.
فقوله { بصائر } حال من { هؤلاء } أى: أنزل هذه الآيات حال كونها بينات واضحات تدلك على صدقى.
وفى هذا الرد توبيخ لفرعون على تجاهله الحقائق، حيث كان يعلم علم اليقين أن موسى - عليه السلام - ليس مسحوراً ولا ساحراً، وأن الآيات التى جاء بها إنما هى من عند الله - تعالى -، كما قال - سبحانه -: مخاطباً موسى:
{ { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } }. وقوله: { وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُوراً } توبيخ آخر لفرعون، وتهديد له لأنه وصف نبياً من أنبياء الله - تعالى - بأنه مسحور.
ومثبوراً بمعنى مهلك مدمر. يقال: ثبر الله - تعالى - الظالم يثبره ثبوراً، إذا أهلكه.
أو بمعنى مصروفاً عن الخير. مطبوعاً على الشر من قولهم: ما ثبرك يا فلان عن هذا الأمر؟ أى: ما الذى صرفك ومنعك عنه.
والظن هنا بمعنى اليقين، والمعنى: وإنى لأعتقد يا فرعون أن مصيرك إلى الهلاك والتدمير، بسبب إصرارك على الكفر والطغيان، من بعد إتيانى بالمعجزات الدالة على صدقى فيما أبلغه عن ربى الذى خلقنى وخلقك وخلق كل شئ.
ثم حكى القرآن بعد ذلك ما هم به فرعون، بعد أن أخرسه موسى - عليه السلام - بقوة حجته، وثبات جنانه فقال: { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلأَرْضِ }..
والاستفزاز: الإِزعاج والاستخفاف، والمراد - به هنا: الطرد والقتل.
والضمير المنصوب فى { يستفزهم } يعود إلى موسى وقومه بنى إسرائيل.
أى: فأراد فرعون بعد أن وبخه موسى وهدده، أن يطرده وقومه من أرض مصر التى يسكنون معه فيها. وأن يقطع دابرهم، كما أشار إلى ذلك - سبحانه - فى قوله:
{ { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } }. ثم حكى - سبحانه - ما ترتب على ما أراده فرعون من استفزاز لموسى وقومه فقال: { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ ... }.
أى: أراد فرعون أن يطرد موسى وقومه من أرض مصر، وأن يهلكهم .. فكانت النتيجة أن عكسنا عليه مكره وبغيه، حيث أهلكناه هو وجنده بالغرق، دون أن نستثنى منهم أحداً.
وقلنا من بعد هلاكه لبنى إسرائيل على لسان نبينا موسى - عليه السلام -: اسكنوا الأرض التى أراد أن يستفزكم منها فرعون وهى أرض مصر.
قال الآلوسى: وهذا ظاهر إن ثبت أنهم دخلوها بعد أن خرجوا منها، وبعد أن أغرق الله فرعون وجنده. وإن لم يثبت فالمراد من بنى إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون استفزازهم، واختار غير واحد أن المراد من الأرض. الأرض المقدسة، وهى أرض الشام.
وعلى أية حال فالآية الكريمة تحكى سنة من سنن الله - تعالى - فى إهلاك الظالمين، وفى توريث المستضعفين الصابرين أرضهم وديارهم.
ورحم الله الإِمام ابن كثير، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية. وفى هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة. مع أن هذه السورة نزلت قبل الهجرة، وكذلك وقع، فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم منها، كما قال - تعالى -:
{ { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ... } ولهذا أورث الله - تعالى - رسوله مكة، فدخلها، وقهر أهلها، ثم أطلقهم حلماً وكرماً، كما أورث الله القوم الذين كانوا مستضعفين من بنى إسرائيل، مشارق الأرض ومغاربها. وأورثهم بلاد فرعون ....
ثم ختم - سبحانه - الآيات الكريمة بقوله: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً }.
أى: فإذا جاء وعد الدار الآخرة، أى: الموعد الذى حدده الله - تعالى - لقيام الساعة، أحييناكم من قبوركم، وجئنا بكم جميعاً أنتم وفرعون وقومه مختلطين أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم بحكمنا العادل.
واللفيف: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومعناه الجماعة التى اجتمعت من قبائل شتى.
يقال: هذا طعام لفيف، إذا كان مخلوطاً من جنسين فصاعدا.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا جانباً مما دار بين موسى - عليه السلام - وبين فرعون من محاورات ومجادلات، وبينت لنا سنة من سنن الله - تعالى - التى لا تتخلف فى نصرة المؤمنين، ودحر الكافرين.
ثم عادت السورة الكريمة إلى التنوية بشأن القرآن الكريم، وأثنت على المؤمنين من أهل الكتاب الذين تأثروا تأثرا بليغاً عند سماعه، فقال - تعالى -: { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً }.