التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً
٤١
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً
٤٢
يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً
٤٣
يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً
٤٤
يٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً
٤٥
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يٰإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً
٤٦
قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً
٤٧
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً
٤٨
فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً
٤٩
وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً
٥٠
-مريم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإمام الرازى ما ملخصه: "اعلم أن الغرض من هذه السورة، بيان التوحيد والنبوة والحشر، والمنكرون للتوحيد فريقان: فريق أثبت معبوداً غير الله حيا عاقلاً وهم النصارى ومن على شاكلتهم، وفريق أثبت معبودا من الجماد ليس بحى ولا عاقل، وهم عبدة الأوثان. والفريقان وإن اشتركا فى الضلال إلا أن ضلال الفريق الثانى أعظم. ولما بين - سبحانه - ضلال الفريق الأول - وهم النصارى -، أتبعه بذكر الفريق الثانى، وهم عبدة الأوثان قوم إبراهيم - عليه السلام -".
وإبراهيم - عليه السلام - هو من أولى العزم من الرسل، وهو الذى جعل الله فى ذريته النبوة والكتاب، وهو الذى وصفه الله - تعالى - بجملة من الصفات الكريمة، منها قوله - تعالى -:
{ { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } }. أى: واذكر - أيها الرسول الكريم - للناس فى هذا القرآن قصة أبيهم إبراهيم - عليه السلام -، لكى يعتبروا ويتعظوا ويقتدوا بهذا النبى الكريم فى قوة إيمانه، وصفاء يقينه وجميل أخلاقه.
وقوله: { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فى قوله: { وَٱذْكُرْ }.
والصديق: صيغة مبالغة من الصدق. أى: إنه كان ملازماً للصدق فى كل أقواله وأفعاله وأحواله، كما كان نبياً من أولى العزم، الذين فضلهم الله على غيرهم من الرسل الكرام.
ثم بين - سبحانه - مظاهر صدقه وإخلاصه لدعوة الحق فقال: { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً }.
والظرف { إِذْ } بدل اشتمال من { إِبْرَاهِيمَ } وجملة { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } معترضة بين البدل والمبدل منه لتعظيم شأنه - عليه السلام -.
والتاء فى قوله { يٰأَبَتِ } عوض عن ياء المتكلم، إذ الأصل يا أبى، وناداه بهذا الوصف دون أن يذكر اسمه: زيادة فى احترامه واستمالة قلبه للحق.
أى: واذكر خبر إبراهيم وقت أن قال لأبيه آزر مستعطفاً إياه: يا أبت لماذا تعبد شيئاً لا يسمع من يناديه. ولا يبصر من يقف أمامه، ولا يغنى عنك شيئاً من الإغناء، لأنه لا يملك لنفسه - فضلاً عن غيره - نفعاً ولا ضراً.
ثم دعاه إلى اتباع الحق بألطف أسلوب فقال: { يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ } النافع الذى علمنى الله - تعالى - إياه { مَا لَمْ يَأْتِكَ } أنت، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، { فَٱتَّبِعْنِيۤ } فيما أدعوك إليه { أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } أى: أهدك إلى الطريق المستقيم الذى لا عوج فيه ولا اضطراب.
ثم نهاه عن عبادة الشيطان، لأنها جهل وانحطاط فى التفكير فقال: { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } فإن عبادتك لهذه الاصنام هى عبادة وطاعة للشيطان الذى هو عدو الإنسان.
ثم علل له هذا النهى بقوله: { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً } أى: إن الشيطان الذى أغراك بعبادة هذه الاصنام كان للرحمن عصيا، أى: كثير العصيان، لا يهدى الناس إلى طاعة الله، وإنما يهديهم إلى مخالفته ومعصيته وموجبات غضبه.
ثم ختم هذا النداء بما يدل على حبه، وشفقته عليه فقال: { يٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً }.
أى: يا أبت إنى أشفق عليك من أن ينزل بك عذاب من الرحمن بسبب إصرارك على عبادة غيره، وبذلك تصبح قريناً للشيطان فى العذاب بالنار، لأنك انقدت له، وخالفت طريق الحق.
بهذا الأسلوب الحكيم الهادىء الرقيق... خاطب إبراهيم أباه، وهو يدعوه إلى عبادته - تعالى - وحده.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال ما ملخصه: انظر كيف رتب إبراهيم الكلام مع أبيه فى أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعماله المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن.
وذلك أنه طلب منه - أولاً - العلة فى خطئه. طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه... حيث عبد ما ليس به حس ولا شعور.
ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً، فلم يصف اباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق. ولكنه قال: إن معى طائفة من العلم وشيئاً منه ليس معك.. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل.. ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة، وما يجره ما هم فيه من الوبال.
ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لاصق به، ولكنه قال: { إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ... }.
وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله: { يٰأَبَتِ } توسلا واستعطافاً...
ولكن هذه النصيحة الحكيمة الغالية من إبراهيم لأبيه، لم تصادف أذناً واعية ولم تحظ من أبيه بالقبول بل قوبلت بالاستنكار والتهديد فقد قال الأب الكافر لابنه المؤمن: { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يٰإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً }.
والاستفهام فى قوله { أَرَاغِبٌ } للإنكار والتهديد والرغبة عن الشىء: تركه عمداً زهدا فيه لعدم الحاجة إليه.
ولفظ { أَرَاغِبٌ } مبتدأ، { أَنتَ } فاعل سد مسد الخبر، و { مَلِيّاً } أى: زمنا طويلا، مأخوذ من الملاوة، وهى الفترة الطويلة من الزمان، ويقال الليل والنهار: الملوان.
والمعنى: قال والد إبراهيم له على سبيل التهديد والوعيد، أتارك أنت يا إبراهيم عبادة آلهتى، وكاره لتقرب الناس إليها، ومنفرهم منها لئن لم تنته عن هذا المسلك، { لأَرْجُمَنَّكَ } بالحجارة وبالكلام القبيح { وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } بأن تغرب عن وجهى زمنا طويلا لا أحب أن أراك فيه.
وهكذا قابل الأب الكافر أدب ابنه المؤمن، بالفظاظة والغلظة والتهديد والعناد والجهالة.. شأن القلب الذى أفسده الكفر.
ولكن إبراهيم - عليه السلام - لم يقابل فظاظة أبيه وتهديده بالغضب والضيق، بل قابل ذلك بسعة الصدر. وجميل المنطق، حيث قال له: { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً }.
أى: لك منى - يا أبت - السلام الذى لا يخالطه جدال أو أذى، والوداع الذى أقابل فيه إساءتك إلى بالإحسان إليك. وفضلاً عن ذلك فإنى { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } أى: بارًّا بى، كثير الإحسان إلى.
يقال: فلان حفى بفلان حفاوة، إذا بالغ فى إكرامه، واهتم بشأنه.
وقد وفى إبارهيم بوعده، حيث استمر على استغفاره لأبيه إلى أن تبين له أنه عدو لله - تعالى - فتبرأ منه كما قال - تعالى -:
{ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك أن إبراهيم - عليه السلام - عندما رأى تصميم أبيه وقومه على الكفر والضلال، قرر اعتزالهم والابتعاد عنهم فقال - تعالى -: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً }.
أى: وقال إبراهيم - أيضاً - لأبيه: إنى بجانب استغفارى لك، ودعوتى لك بالهداية، فإنى سأعتزلك وأعتزل قومك، وأعتزل عبادة أصنامكم التى تعبدونها من دون الله وأرتحل عنكم جميعاً إلى أرض الله الواسعة، وأخص ربى وخالقى بالعبادة والطاعة والدعاء، فقد عودنى - سبحانه - أن لا يخيب دعائى وتضرعى إليه.
وفى تصدير كلامه بلفظ { عَسَىۤ } دليل على تواضعه، وعلى أدبه مع خالقه - تعالى-.
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على اعتزال إبراهيم للشرك والمشركين فقال: { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً }.
أى: فحين اعتزل إبراهيم - عليه السلام - أباه وقومه وآلهتهم الباطلة. لم نضيعه، وإنما أكرمناه وتفضلنا عليه بأن وهبنا له إسحاق ويعقوب ليأنس بهما بعد أن فارق أباه وقومه من أجل إعلاء كلمتنا { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } أى: وكل واحد منهما جعلناه نبياً { وَوَهَبْنَا لَهْمْ } أى: لإبراهيم وإسحاق ويعقوب { مِّن رَّحْمَتِنَا } بأن جعلناهم أنبياء ومنحناهم الكثير من فضلنا وإحسانا ورزقنا.
وجعلنا لهم لسان صدق عليا، بأن صيرنا الناس يثنون عليهم ويمدحونهم ويذكرونهم بالذكر الجميل، لخصالهم الحميدة، وأخلاقهم الكريمة.
وهكذا نرى أن اعتزال الشرك والمشركين، والفسق والفاسقين، يؤدى إلى السعادة الدينية والدنيوية، وما أصدق قوله - تعالى -: { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً }.
وخص - سبحانه - هنا اسحق ويعقوب بالذكر دون إسماعيل لأن إسماعيل سيذكر فضله بعد قليل.
ثم مدح الله - تعالى - موسى - عليه السلام - وهو واحد من أولى العزم من الرسل، وينتهى نسبه إلى إبراهيم - عليه السلام - فقال - تعالى -: { وَٱذْكُرْ... }.