التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٠١
وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٢
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٣
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

المعنى: وحين جاء اليهود وأحبارهم رسول من عند الله، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة، طرح فريق كبير منهم تعاليم التوراة التى تشهد بصدقه، وراء ظهورهم، حتى لكأنهم يجهلون أنها من عند الله، واتبعوا ما قصته واختلقته الشياطين من السحر والأوهام والمفتريات على عهد سليمان - عليه السلام - ومن هذه المفتريات والأكاذيب زعمهم أن سليمان - عليه السلام - كان ساحراً، وما تم له ملكه العريض، ولا ظهرت على يديه المعجزات الباهرة من تسخير الجن والريح إلا بهذا.
وقد أكذبهم الله - تعالى - فى هذه الزعم بقوله: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أى: بتعلم السحر والعمل به، كما يزعم هؤلاء { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ } هم الذين { كَفَرُواْ } بتعلم السحر وتعليمه للناس، وتعليمهم - أيضاً - ضرباً آخر منه وهو { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } من وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال به، ولقد كان الملكان لا يعلمان أحدا من الناس السحر حتى ينصحاه بقولهما: إن السحر الذى نعلمك إياه. القصد منه التمييز بين المطيع والعاصى، وبين السحر والمعجزة، فحذار أن تستعمله فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين، بخلاف الشياطين فإنهم تعلموه وعلموه لغيرهم لاستعماله فى الشرور والآثام، ولإِحداث التفرقة بين الزوجين، ولكن هذا السحر الذى يتعاطاه الشياطين وأتباعهم لن يضر أحداً بذاته، وإنما ضرره يتأتى إذا أراد الله تعالى - ذلك وشاءه، ولقد علم أولئك النابذون لكتاب الله المؤثرون عليه اتباع السحر، أن من استبدل السحر بكتاب الله، فليس له نصيب من نعيم الجنة، { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } علماً نافعاً. { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أرشدتهم إليه التوراة، { وٱتَّقَوْا } المعاصى والآثام لأثيبوا مثوبة من عند الله هى خير لهم مما آثروه واختاروه على كتاب الله { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }.
وقوله تعالى: { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ }.. إلخ الآية.
بيان لما صدر عن اليهود من تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم وطرح لتعاليم كتابهم التى أمرتهم باتباعه.
أخرج ابن جرير عن السدى قال فى قوله تعالى: { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ }. أى لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها.
فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة والقرآن وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت، فذلك قول الله { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أى كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود، فنقضوا عهد الله، لا يعلمون ما فى التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه.
وفى وصف الرسول بأنه آت من عند الله تعظيم له، ومبالغة فى انكار عدم إيمانهم به، وإغراء للناس جميعاً بالدخول فى دعوته، لأنه ليس رسولا من تلقاء نفسه، وإنما هو رسول من عند الله - تعالى -:
والمراد { لِّمَا مَعَهُمْ } التوراة. وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم لها، معناه أن ما جاء به من تعاليم موافق لها فى أصول الدين، وأن ما جاءت به من صفات للرسول المنتظر بعد عيسى - عليه السلام - لا تنطبق إلا عليه صلى الله عليه وسلم.
وعبر - سبحانه - عن تركهم العمل بالكتاب الذى نزل لهدايتهم بالنبذ، مبالغة فى عدم اعتدادهم، وتناسبهم إياه، لأن أصل النبذ طرح وإلقاء ما لا يعتد به.
وفى إسناد النبذ إلى فريق من الذين أوتوا الكتاب، سخرية بهم، واستجهال لهم، لأن الذين أوتوه هم الذين نبذوه، ولو كان النابذون من المشركين لكان لهم بعض العذر لجهلهم، ولكن أن يكون التاركون للنور هم الذين أوتوه وأكرموا به، فذلك هو الضلال المبين.
والمراد من { كِتَابَ ٱللَّهِ } الذى نبذوه لما جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التوراة، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها حقاً، لاتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم الذى ذكرت صفاته فيها، والذى وجب عليهم بمقتضى كتابهم التوراة الإِيمان به، فهم بجحودهم لنبوته، يكونون جاحدين لتوراتهم التى شهدت له بالصدق.
وقيل المراد بكتاب الله الذى نبذوه القرآن، لأنهم لم يؤمنوا به، بل تركوه بعد سماعه، وتناسوا ما اشتمل عليه من هداية وإرشاد، مع أنه كان من المتحتم عليهم أن يتلقوه بالقبول.
والذى نراه أن الرأى الأول أرجح، لأن النبذ يقتضى سابقة الأخذ، فى الجملة. وهو متحقق بالنسبة للتوراة، بخلاف القرآن الكريم فإنهم لم يسبق لهم أن تمسكوا به، ولأن مذمتهم تكون أشد وجحودهم أكثر، إذا كان المراد بالكتاب الذى نبذوه، هو عين الكتاب الذى نزل لهدايتهم وآمنوا به وهو التوراة.
وقوله تعالى: { وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } كناية عن إعراضهم الشديد عنه، وتوليهم عن تعاليمه.
تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره، أى تولى عنه معرضاً، لأن ما يجعل وراء الظهر لا ينظر إليه، ففى هذه الجملة الكريمة تصوير صادق لإِعراضهم عن كتاب الله - تعالى - حيث شبه - سبحانه - تركهم لكتابه، بحالة شىء يرمى به وراء الظهر استهانة به. وفى إضافة الوراء إلى الظهر، تأكيد لنبذ ما ترك بحيث لا يؤخذ بعد ذلك.
قال الأستاذ الإِمام: ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته، وتركوا التصديق به فى جملته وتفصيله. وإنما المراد أنهم طرحوا أجزاء منه وهو ما يبشر بالنبى صلى الله عليه وسلم ويبين صفاته ويأمرهم بالإِيمان به واتباعه. فهو تشبيه لتركهم إياه وإنكاره، بمن يلقى الشىء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره، وترك الجزء منه كتركه كله، لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحى من النفس، ويجرئ على ترك الباقى...
وقوله تعالى: { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جملة حالية، أى طرحوه، وراء ظهورهم مشبهين بحال من لا يعلم منه شيئاً، ومن لا يعرف أنه كتاب الله.
وشبههم بمن لا يعلمون مع أنهم فى الواقع يعلمون أنه من عند الله - حق العلم - لأنهم نبذوه مكابرة وعناداً، ولأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم ومن كان هذا شأنه فهو والجاهل سواء، فى جحود الحق والانغماس فى الآثام.
وقال - سبحانه -: { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } بنفى الحال والاستقبال للإِشعار بأنهم قوم لا أمل فى توبتهم وإنابتهم، بل هم تمر بهم الأيام، وتتوالى عليهم العظات، ومع ذلك لا يتوبون ولا يرجعون إلى الحق، فهم مستمرون على طرح كتاب الله فى كل وقت وآن، ومصممون على ذلك.
ثم حكى - سبحانه - لوناً آخر من زيغهم وضلالهم واتباعهم للأباطيل بعد أن وبخهم على نبذهم لكتابه فقال تعالى: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ }.
اتبعوا: من الاتباع وهو الاقتداء، والضمير فيه يعود على اليهود المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم.
وتتلو: من التلاوة بمعنى الاتباع أو القراءة، وقال الراغب: تلا عليه كذب عليه.
والشياطين: جمع شيطان، وهو كائن حى خلق من النار، ويطلق على الممتلئ شراً من الأنس.
والمعنى: إن هؤلاء اليهود نبذوا كتاب الله، واتبعوا الذى كانت تتلوه وتقصه الشياطين على عهد ملك سليمان، وفى زمانه، من الأكاذيب والكفر ومن ذلك زعمهم أن ملكه قام على أساس السحر، وأنه ارتد فى أواخر حياته، وعبد الأصنام إرضاء لنسائه الوثنيات إلى غير ذلك من الأكاذيب التى ألصقوها به - عليه السلام - وهو برئ منها.
قال صاحب الكشاف: وقوله تعالى: { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أى على عهد ملكه وفى زمانه، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها فى كتب يقرءونها ويعلمونها للناس، وفشا ذلك فى زمان سليمان - عليه السلام - حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون: ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الإِنس والجن والريح التى تجرى بأمره.
وقوله تعالى: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } معناه: وما كفر سليمان ولكن الشياطين هم الذين كفروا إذ تعلموا السحر وعلموه لغيرهم بقصد إضلالهم، وصرفهم عن عبادة - الله - تعالى - إلى عبادة غيره من المخلوقات.
ففى الجملة الكريمة تنزيه لسليمان - عليه السلام - عن الردة والشرك وتبرئة له من عمل السحر الذى كان يتعاطاه أولئك الشياطين وينسبونه إليه زورا وبهتاناً، ودلالة على أن ذلك السحر الذى نسبوه إليه وباشرته الشياطين نوع من الكفر.
وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان، وأنه ارتد فى آخر عمره، وعبد الأصنام وبنى لها المعابد، وكانوا عندما يذكر النبى صلى الله عليه وسلم سليمان بين الأنبياء يقولون: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحراً يركب الريح.
فإن قال قائل: ما الحكمة فى نفى الكفر عن سليمان مع أن صدر الآية لا يفيد أن أحداً نسب إليه ذلك.
فالجواب: أن اليهود الذين نبذوا كتاب الله، واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر أضافوا هذا السحر إلى سليمان، وقالوا إنه كان يسخر به الجن والإِنس والريح، فأكذبهم الله - تعالى - بقوله: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } كما بينا.
والضمير فى قوله تعالى: { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } يعود على الشياطين الذين افتروا الأكاذيب على سليمان - عليه السلام -.
ويجوز أن يعود على اليهود الذين نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تلته الشياطين على سليمان.
قال الأستاذ الإِمام: فى قوله تعالى { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ }: وجهان:
أحدهما: أنه متصل بقوله تعالى: { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } أى: أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر.
والثانى: وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وأن الكلام فى الشياطين قد انتهى عند قوله تعالى { كَفَرُواْ } وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهوراً فى زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم، أى أن فريقاً من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وها هنا يقول القائل: بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان فى رميه بالكفر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التى كانت تحت كرسيه؟ فأجاب على طريق الاستئناف البيانى { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ }.
ونفى الكفر عن سليمان والصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض، فعلم - أيضاً - أنهم اتبعوا الشياطين بهذه القرية، وإنما كان القصد إلى وصف اليهود بتعلم السحر، لأنه من السيئات التى كانوا متلبسين بها، ويضرون بها الناس خداعاً وتمويها وتلبساً.
وإنما أضاف الله - تعالى - إلى اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان خاصة مع أنه كان معروفاً قبل سليمان - عليه السلام - كما أخبر به القرآن عن سحرة فرعون، وإنما أضاف ذلك إليهم، لأن هذا كان هو الواقع منهم، ولأن سحر هؤلاء الشياطين الذين كانوا على عهد سليمان، كان مدوناً فى صحف اليهود من قديم، وتوارثه خلفهم عن سلفهم إلى أن وصل إلى من عاصر النبى صلى الله عليه وسلم منهم ولأن سليمان - عليه السلام - أعطاه الله تعالى ملكاً واسعاً، وسخر له الإِنس والجن والريح، فعزت الشياطين ذلك كله إلى تعلمه السحر.
و{ مَآ } فى قوله تعالى: { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } موصولة، وهى معطوفة على السحر فى قوله تعالى: { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } أى يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم الذى أنزل على الملكين.
والذى أنزل عليهما هو وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال به. ليعرفاه الناس فيجتنبوه، على حد قول الشاعر:

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه

فالشياطين عرفوه فعملوا به، وعلموه للناس ليستعملوه فى الشرور والمآثم بينما المؤمنون عرفوه واستفادوا من الاطلاع عليه فتجنبوه.
هذا، واختصت بابل بالإِنزال، لأنها كانت أكثر البلاد عملا بالسحر، وكان سحرتها قد اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم فى أبدانهم وعقولهم وأموالهم، ثم جروهم إلى عبادة الأصنام والكواكب فحدث فساد عظيم، وعمت الأباطيل فألهم الله - تعالى - هاروت وماروت أن يكشفا للناس حقيقة السحر ودقائقه، حتى يعلموا أن السحرة الذين صرفوهم عن عبادة الله إلى عبادة الكواكب وغيرها قد خدعوهم وأضلوهم، وبذلك يعودون إلى الصراط المستقيم.
واللام فى { ٱلْمَلَكَيْنِ } مفتوحة فى القراءات العشر المتواترة، وقرئ شاذاً { ٱلْمَلَكَيْنِ } بكسر اللام.
قال بعض المفسرين: المراد بالملكين - بفتح اللام - رجلان صالحان اطلعا على أسرار السحر التى كانت تفعلها السحرة، فعلماها للناس ليحذراهم من الانقياد لتلبيسات الشياطين، وسميا ملكين مع أنهما من البشر لصلاحهما وتقواهما، ويؤيد هذا الرأى قراءة الملكين - بكسر اللام - وإن كانت شاذة:
وقال جمهور المفسرين: إنهما ملكان على الحقيقة أنزلهما الله - تعالى - ليعلما الناس السحر ابتلاء لهم، ليفضحا مزاعم السحرة الذين كانوا يدعون النبوة كذبا، ويسخرون العامة لهم ويخرجونهم إلى عبادة غير الله، (وهاروت وماروت) اسمان للملكين الذين أنزل عليهما السحر، وهما بدل أو عطف بيان للملكين.
وقوله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } بيان لما كان ينصح به الملكان من يريد تعلم السحر منهما. والجملة حالية من هاروت وماروت.
والفتنة، المراد هنا الابتلاء والاختبار، تقول: فتنت الذهب فى النار، أى: اختبرته لتعرف جودته ورداءته.
والمعنى: أن الملكين لا يعلمان أحداً من الناس السحر إلا وينصحانه بقولهما إن ما نعلمك إياه من فنون السحر الغرض منه الابتلاء والاختبار لتمييز المطيع من العاصى. فمن عمل به ضل وقوى، ومن تركه فهو على هدى ونور من الله، ولإِظهار الفرق بين المعجزة والسحر. فحذار أن تستعمل ما تعلمته فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين. كما كفر السحرة بنسبتهم التأثيرات إلى الكواكب وغيرها من المخلوقات.
فالمقصود من تعليم الملكين للناس السحر، فضح أمر السحرة الذين كثروا فى تلك الأيام، وادعوا ما لم يأذن به الله، وإظهار الفرق بين المعجزة والسحر حتى يعلم الناس أن هؤلاء السحرة الذين قد يزعمون بمرور الأيام أنهم أنبياء ليسوا كذلك، وإنما هم أفاكون، وأخبروا على أنفسهم بطريق القصر بأنهم فتنة للمبالغة فى الإقرار بأنهما لا يملكان نفعاً ولا ضراً لأحد، وإنما هما فتنة محضة، وابتلاء من الله لعباده لتمييز المطيع من العاصى.
ثم بين - سبحانه - لوناً من السحر البغيض الذى استعمله أولئك السحرة فى الأذى فقال تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } أى فيتعلم بعض الناس من الملكين ما يحصل به الفراق بين المرء وزوجه.
فالجملة الكريمة تفريع عما دل عليه قوله تعالى قبل ذلك: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } لأنه يقتضى أن التعليم حاصل، وأن بعض المتعلمين قد استعملوه فى التفريق بين الزوجين.
وخصص سبحانه ها اللون من السحر بالنص عليه للتنبيه على شدة فساده. وعلى شناعة ذنب من يقوم به. لأنه تسبب عنه التفريق بين الزوجين اللذين جمعت بينهما أواصر المودة والرحمة.
والضمير فى قوله تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ } راجع لأحد، وصح عود ضمير الجمع عليه مع أنه مفرد، لوقوعه فى سياق النفى، والنكرة إذا وردت بعد نفى كانت فى معنى أفراد كثيرة، فصح أن يعود ضمير الجمع إليه كذلك.
ثم نفى - سبحانه - أن يكون السحر مؤثراً بذاته فقال تعالى: { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أى: أن أولئك السحرة لن يضروا أو ينفعوا أحداً بسحرهم إلا بإذن الله وقدرته، فالسحر سبب عادى لما ينشأ عنه من الأضرار ويجوز أن يتخلف عنه مسببه إذا أذن الله بذلك.
والجملة الكريمة معترضة لدفع توهم أن يكون السحر مضراً بذاته، بحيث لا يتخلف عنه الضرر متى تعاطاه الساحر.
والمراد { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } هنا. تخليته - سبحانه - بين المسحور وضرر السحر، أى: إن شاء حصل الضرر بسبب السحر، وإن شاء منعه فلا يصيب المسحور منه شىء من الأذى.
وعبر - سبحانه - عن هذا المعنى بطريق القصر، مبالغة فى نفى أى تـأثير للسحر بذاته، وإغراء للناس بتكذيب ما يزعمه السحرة من أن لهم قوى غيبية سوى الأسباب التى ربط الله بها المسببات، وإرشاداً لهم إلى حسن الاعتقاد، وسلامة اليقين.
ثم بين - سبحانه - أن أولئك المتعلمين السحر للأذى وللتفرقة بين المتحابين يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، فقال تعالى: { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } أى: أن أولئك الذين تعلموا السحر ليضروا به غيرهم، ولم يتعلموه ليفرقوا به بين الحق والباطل، أو ليدفعوا به الشر عن أنفسهم، قد سلكوا بهذا التعليم الطريق الذى يضرهم ولا ينفعهم، وأصبحوا بذلك عاصين لما نصحهم به الملكان عند تعليم السحر.
وفى هذه الجملة الكريمة زيادة تنبيه على تفاهة عقول المشتغلين بالسحر للأذى ومبالغة فى تجهيل المصدقين لهم، لأن الساحر - مهما بلغت براعته - فلن يستطيع أن يمنع شيئاً أراده الله، ولا أن يأتى بشىء منعه الله ما دام الأمر كذلك فالمشتغل به، والمصدق له كلاهما وقع فى ضلال مبين.
وقد أفادت الجملة الكريمة يجمعها بين إثبات الضر ونفى النفع مفاد الحصر فكأنه - سبحانه - يقول: ويتعلمون ما ليس إلا ضرراً بحتاً.
ثم بين - سبحانه - مآل أولئك اليهود التاركين للحق، والمتبعين للباطل فقال تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أى: ولقد علم أولئك اليهود الذين نبذوا تعاليم كتابهم واتبعوا السحر، أن من استبدل السحر بكتاب الله بكتاب الله ليس له من حظ فى الجنة، لأنه قد اختار الضلال وترك الهدى، وعلمهم مرجعه إلى أن التوراة قد حرمت عليهم تعلم السحر أو تعليمه للأذى والضرر، وشددت العقوبة على مرتكبه، وعلى متبع الجن والشياطين والكهان.
فالضمير فى { عَلِمُواْ } يعود إلى أولئك اليهود الذى تركوا كتاب الله واستبدلوا به السحر.
والاشتراء هو اكتساب شىء ببذل غيره، والمراد أنهم اكتسبوا السحر الذى تتلوه الشياطين بعد أن بذلوا فى سبيل ذلك إيمانهم ونصيبهم من الجنة، وغدوا مفلسين من حظوظ الآخرة، لإقبالهم على التمويه والكذب، واستبدالهم الذى هو أدنى بالذى هو خير.
وأكد - سبحانه - علمهم بضرر السحر بقوله { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } للإِشارة إلى أن اختيارهم للسحر لم ينشأ عن جهلهم بضرره، وإنما هم الذين اختاروه ومالوا إليه متعمدين وعالمين بعاقبته السيئة.
ثم قال تعالى: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }.
شروا: بمعنى باعوا، وبيع الأنفس هنا معناه بيع نصيبها من الجنة. ونعيمها.
والمعنى: ولبئس شيئا باع به أولئك السحرة حظوظ أنفسهم تعلم ما يضر من السحر والعمل به، ولو كانوا ممن ينتفعون بعلمهم لما فعلوا ذلك.
وأثبت لهم العلم فى قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ } ثم نفاه عنهم فى قوله تعالى: { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جرياً على الأسلوب المعروف فى فنون البلاغة من أن العالم بالشىء إذا لم يعمل بموجب علمه نزل منزلة الجاهل ونفى عنه العلم كما ينفى عن الجاهلين.
وإلى هذا المعنى الذى قررناه أشار صاحب الكشاف بقوله.
فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولا فى قوله: { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ } على سبيل التوكيد القسمى، ثم نفاه عنهم فى قوله: { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }.
قلت: معناه لو كانوا يعملون بعلمهم. جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه.
ثم بين - سبحانه - المنافع التى تعود عليهم لو اتبعوا الحق، بعد أن بين الأضرار التى ترتبت على اتباعهم للباطل فقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أى: لو أن أولئك اليهود النابذين لكتاب الله المتبعين للأوهام والأباطيل، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بالتوارة إيماناً حقاً، واتقوا الله، فاجتنبوا ما يؤثمهم ومنه السحر والتمويه، لكانت لهم مثوبة من عند الله، هى خير لهم من السحر وغيره، ولو كانوا من أولى العلم النافع لفهموا ذلك، واستبدلوا بالسحر الإِيمان والتقوى، ولكنهم قوم لا يعقلون.
فقوله تعالى: { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ } جواب للو الشرطية، وأصل التركيب، لأثيبوا مثوبة من عند الله خيراً مما شروا به أنفسهم، فحذف الفعل، وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم، للدلالة على ثبوت المثوبة لهم والجزم بخيريتها.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: (فإن قلت: كيف أو ثرت الجملة الاسمية على الفعلية فى جواب لو؟ قلت: لما فى ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع فى سلام عليكم لذلك.
وقال الإِمام الآلوسى: (المثوبة: اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب، والثواب الجزاء الذى يعطى للغير. ولم يقل - سبحانه - لمثوبة الله مع أنه أخصر، ليشعر التنكير بالتقليل فيفيد أن شيئاً قليلا من ثواب الله - تعالى - فى الآخرة الدائمة، خير من متاع كثير فى الدنيا الفانية، فكيف وثواب الله - تعالى - كثير دائم، وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى.
وقوله تعالى: { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } شرط آخر محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه، وحذف مفعول { يَعْلَمُونَ } لدلالة { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ } عليه. أى: لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر بالإِيمان.
وبذلك تكون الآيات الكريمة التى سقناها فى هذا المبحث قد دمغت بنى إسرائيل بجحود الحق، ونبذهم لتعاليم كتابهم وإيثارهم عليها الأكاذيب والأباطيل، وسيرهم فى طريق الشر عن تعمد وإصرار، وعدم عملهم بما يعلمون لانحراف طباعهم، وحماقة تفكيرهم وسوء تدبيرهم. واستحواذ الشيطان عليهم..
{ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِين } هذا، ويحسن بنا قبل أن نختم هذا البحث، أن نذكر كلمة موجزة عن السحر فنقول: السحر: فى أصل اللغة معناه: الصرف، ومنه قوله تعالى { فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ } أى: فكيف تصرفون عن الحق إلى الباطل.
وقد ذكر السحر فى القرآن والسنة، واتفق علماء المسلمين على أن هناك شيئاً يسمى سحراً، إلا أنهم اختلفوا فى تصويره.
فجمهور أهل السنة ذهب إلى أن للسحر آثارا حقيقية، وأن الساحر قد يأتى بأشياء غير عادية، إلا أن الفاعل الحقيقى فى كل ذلك هو الله - تعالى - واستدلوا على ذلك بأدلة منها.
أولا: أن الله - تعالى - قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يستعيذ به
{ وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ في ٱلْعُقَدِ } وهم السحرة - على أرجح الأقوال.
قال الإِمام ابن كثير: قوله تعالى
{ وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فى ٱلْعُقَدِ } قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك، يعنى السواحر قال مجاهد "إذا رقين ونفثن فى العقد".
فالآية الكريمة تدل على أن للسحر آثارا حقيقية، وإلا لما أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرور السحرة.
ثانياً: قال الإِمام البخارى: - فى باب هل يستخرج السحر -: حدثنى عبد الله بن محمد، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: أول من حدثنا به ابن جريج يقول: حدثنى آل عروة عن عروة، فسألت هشاماً عنه فحدثنا عن أبيه
"عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن، قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك. فقال: يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتانى فيما استفتيته فيه؟ أتانى رجلان فقعد أحدهما عند رأسى والآخر عند رجلى، فقال الذى عند رأسى للآخر، ما بال الرجل: مطبوب، قال ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم - رجل من بنى زريق حليف اليهود كان منافقاً - قال. وفيم: قال: فى مشط ومشاطه، قال: وأين؟ قال فى جف طلعة ذكر تحت راعوفة فى بئر ذروان. قالت: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال: هذه البئر التى أريتها وكأن نخلها رءوس الشياطين قال فاستخرج - أى السحر - قالت: فقلت أفلا - أى - تنشرت؟ فقالت: إن الله قد شفانى وأكره أن أثير على أحد من الناس شراً" .
فهذا الحديث الصحيح يفيد أن السحر قد أثر فى جسم الرسول صلى الله عليه وسلم بنوع من المرض أو الثقل، دون أن يكون لذلك أدنى تأثير فى عقله.
قال الإِمام ابن القيم: هذا هو الحديث الذى رواه البخارى، وهو ثابت عند أهل العلم بالحديث لا يختلفون فى صحته، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقه، وهؤلاء أعلم بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأيامه.
وقال الإِمام القرطبى "الأدلة متوفرة على أن للسحر حقيقة، فهو مقطوع به بإخبار الله - تعالى - ورسوله على وجوده ووقوعه، وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإِجماع ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق، ولقد شاع السحر وذاع فى سابق الزمان، وتكلم الناس فيه، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله.
وقال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقى. قال المازرى: "مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة. خلافا لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها. وقد ذكره الله - تعالى - فى كتابه وذكر أنه مما يتعلم. وذكر فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به. وأنه يفرق بين المرء وزوجه. وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له، وهذا الحديث أيضاً مصرح بإثباته. وأنه أشياء دفنت وأخرجت ولا يستنكر فى العقل أن الله - سبحانه - يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام، أو المزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر. قال: وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث لسبب آخر. فزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع وهذا الذى ادعاه بعض المبتدعة باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك. قال القاضى عياض: وقد جاءت روايات مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على قوله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله فى الحديث: "حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن" أن يظهر من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذه السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور.
أما المعتزلة فقد ذهبوا إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تخييل وتمويه كما قال تعالى فى سحرة فرعون
{ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } فأخبر - سبحانه - أن ما ظنوه سعياً منها لم يكن سعياً على الحقيقة إنما كان تخييلا وتمويهاً. وقال تعالى فى سحرة فرعون أيضاً { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } أى فلما ألقوا عصيهم موهوا على الناس حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى، وأرهبوهم بما فعلوه، وجاءوا بسحر عظيم فى فنه.
والذى نراه أن السحر على أضرب منها:
أولا: ضرب يترتب على مزاولته قلب الحقائق كقلب الإِنسان حيواناً وعكسه، وهذا قد منعه المعتزلة بحجة أن الساحر لو أمكنه ذلك لا لتلبس فعله هذا بمعجزات الأنبياء. وأهل السنة أجازوا وقوعه وإن كان لم يقع فعلا. ويفرقون بينه وبين المعجزة إن وقع، بأن المعجزة خارق يظهر على يد من يدعى النبوة على سبيل التحدى والمعارضة، والسحر ليس فيه دعوى نبوة ولا معارضة.
هذا، مع ملاحظة أن السحر يمكن تعلمه وتعليمه، ولا يظهر إلا على يد شرير بخلاف المعجزة.
قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين: وهذا النوع لم يقع لنا دليل فى الشريعة على وقوعه، وربما كانت الحاجة إلى الفرق بين المعجزة والسحر فرقاً واضحاً تقتضى عدم وقوعه، فالساحر لا يبلغ أن يقلب العصا ثعباناً، ولا أن يفلق البحر فتمر بين فرقيه الجيوش ولا أن يجعل الماء ينبع بين الأصابع فتروى منه العطاش، أعنى أنه لا يجزى على يده من خوارق العادات، مثل ما يجرى على أيدى الأنبياء للإِعجاز.
ثانياً: أن يزاول بعض أرباب النفوس الخبيثة أفعالا يترتب عيلها الضرر بدون مماسة ولا ملابسة لمن وقع عليه الضرر، وهذا الضرب قد جوز وقوعه أهل السنة ومنعه المعتزلة، ومن أمثلته ما يفعله السحرة للتفريق بين المرء وزوجه والظاهر فى هذا الضرب قول أهل السنة لأن القرآن الكريم قد حكى عن السحرة أنهم يتعلمون من السحر ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وقد صح الحديث أن لبيد بن الأعصم اليهودى سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه حينما استخرج السحر خف جسمه صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال.
ثالثاً: مزاولة أسباب يترتب عليها آثار ظاهريه لا حقيقية وهذا الضرب واقع باتفاق بين أهل السنة والمعتزلة، وقد حكاه القرآن الكريم عن سحرة فرعون فى قوله تعالى:
{ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ } وفى قوله تعالى: { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } هذا، وقد حذر الإِسلام من تعاطى السحر للأذى، وجاءت تعاليمه بذمة وتحريمه، وتوعدت مرتكبه بالعقوبات الأليمة، ففى الحديث الشريف "حد الساحر ضربه بالسيف" .
وقد أفتى بعض الفقهاء بقتل الساحر لأنه زنديق، وبعضهم أفتى بأن الساحر إذا كان قد أحدث فى المسحور جناية توجب القصاص اقنص منه، وإن كان قد أحدث به ما لا قصاص فيه، حكم عليه بدية مناسبة.
وبعد: فهذه كلمة ذكرناها عن السحر، لم نقصد بها الخوض فى تفصيلاته. وإنما قصدنا بها إعطاء القارئ فكرة مختصرة عنه بمناسبة حديثنا عن رذائل اليهود التى منها نبذهم لكتاب الله واتباعهم للاوهام والأباطيل والأكاذيب.
ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن مخاطبة النبى صلى الله عليه وسلم بألفاظ معينة حتى لا يتخذها اليهود ذريعة للإِساءة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال تعالى:
{ يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ... }