التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
١١
أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ
١٢
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ
١٣
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الفساد: خروج الشىء عن حالة الاعتدال والاستقامة، وعن كونه منتفعاً به، وضده الصلاح، يقال: فسد الشىء فساداً، وأفسده إفساداً.
والمراد به هنا كفرهم، ومعاصيهم، ومن كفر بالله وانتهك محارمه فقد أفسد فى الأرض، لأن الأرض لا تصلح إلا بالتوحيد والطاعة.
ومن أبرز معاصى هؤلاء المنافقين، ما كانوا يدعون إليه فى السر من تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشبه فى طريق دعوته، والتحالف مع المشركين ضد المسلمين كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
وسلك القرآن هذا الأسلوب فقال: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } بالبناء للمفعول دون أن يسند الفعل إلى فاعله، لأن مصدر القول المعبر عن النهى عن الإِفساد ليس مصدراً واحداً، فقد يصل آذانهم هذا النهى مرة من صريح القول. وأخرى مما كانوا يقابلون به من ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من تجهم وإعراض.
وعلق بالفعل الذى هو الإِفساد قوله: { فِي ٱلأَرْضِ } إيذاناً بأن الإِفساد مهما ضاقت حدوده، فإنه لابد يوماً أن يتعدى الحدود إلى ما وراء ذلك فقد يعم ويشمل إذا لم يشتد فى الاحتياط له، لذلك جعل ظرف إفسادهم الأرض كلها مع أنهم موجودون فى بقعة محصورة هى المدينة المنورة.
ولقد حكى القرآن جوابهم على نصيحة الناصحين وما فيه من تبجح وادعاء فقال:
{ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }.
فقد بالغوا فى الرد فحصروا أنفسهم أولاً فى الإِصلاح مبالغة المفجوع الذى أذهلته المفاجأة بكشف أستار حقيقته، فتراهم لم يقتصروا على أن يقولوا: { إِنّا مُصْلِحُونَ } بل قالوا "إنما" ثم أكدوا الجملة بكونها اسمية ليدلوا بذلك على أن شأنهم فى الإِصلاح ثابت لازم.
قال الراغب: صوروا إفسادهم بصورة الإِصلاح لما فى قلوبهم من المرض، كما فى قوله - تعالى -:
{ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } وقوله: { وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } وقوله: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } ولقد كذبهم الله - تعالى - تكذيباً مؤكداً فى دعواهم أنهم مصلحون فقال:
{ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }.
فأنت ترى أن القرآن الكريم قد وضع فى الرد عليهم جملة صدرها بأداة الاستفتاح إيذاناً بأن ما قالوه يجب أن يهمل إهمالاً، بل يجب أن يكون وصفهم بالإِفساد قضية مبتدأة مقررة حتى يتلقاها السامع وهو منتبه النفس، حاصر الذهن.
ثم أكد الجملة بعدة تأكيدات منها: وصل "ألا"بإن" الدالة على تأكيد الخبر وتحقيقه، ومنها تأكيد الضمير بضمير منفصل حتى يتم التصاق الخبر بالمبتدأ، ومنها اسمية الجملة، ومنها إفادة قصرهم على الإِفساد فى مقابل تأكيدهم أنهم هم المصلحون.
ولما كان هذا الرد المؤكد عليهم يستدعى عجباً، لأنهم زعموا أنهم لا حال لهم إلا الاصلاح، مع أنهم فى الحقيقة لا حال لهم إلا الإفساد، لما كان الأمر كذلك، فقد أزال القرآن هذا العجب بقوله:
{ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }.
أى: أنهم ما قالوه إلا عن غباء استولى على إحساسهم، ونفى عنهم الشعور بما يصدر عنهم من الفساد، فأمسوا لا يدركون من شأن أنفسهم شيئاً، ومن أسوأ ألوان الجهل أن يكون الإِنسان مفسداً ولا يشعر بذلك، مع أن أثر فساده ظاهر فى العيان، مرئى لكل ذى حس. فعدم شعورهم بالفساد الواقع منهم منبئ باختلاف آلات إدراكهم، حتى صاروا يحسبون الفساد صلاحا، والشر خيراً.
وليس عدم شعورهم رافعاً العقاب عنهم، لأن الجاهل لا يعذر بجهله خصوصاً إذا كان جهله يزول بأدنى تأمل لوضوح الأدلة، وسطوع البراهين.
ثم بين القرآن أن الناصحين قد أمروهم بالمعروف بعد أن نهوهم عن المنكر فقال:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ }.
المراد من الناس: المؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم الصادقون فى إيمانهم.
السفهاء: جمع سفيه، وأصل السفه: الخفة والرقة والتحرك والاضطراب يقال: ثوب سفيه، إذا كان ردىء النسج خفيفه، أو كان باليا رقيقاً. وتسفهت الريح الشجر. أى: مالت به. وزمام سفيه: كثير الاضطراب، لمنازعة الناقة إياه، وشاع فى خفة العقل وضعف الرأى. وهو المعنى المقصود بالسفهاء فى الآية. فقد كان المنافقون يصفون المسلمين بذلك فيما بينهم.
وروى أنهم كانوا يقولون: أنؤمن كما آمن سفيه بنى فلان، وسفيه بنى فلان؟! فأوحى الله للنبى صلى الله عليه وسلم بهذا الذى كانوا يقولونه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم وصفوهم بالسفه وهم العقلاء المراجيح؟ قلت لأن المنافقين لجهلهم وإخلالهم بالنظر، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق، وأن ما عداه باطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً، ولأنهم كانوا فى رياسة من قومهم ويسار، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم اهـ ملخصا.
وقد رد الله عليهم بما يكبتهم ويفضحهم فقال:
{ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } لأنهم أعرضوا عن النظر فى الدليل وباعوا آخرتهم بدنياهم، وهذا أقصى ما يبلغه الإِنسان من سفه العقل.
وقد تضمن هذا الرد تسفيههم وتكذيبهم فى دعوى سفه الصادقين فى إيمانهم، فإن قوله - تعالى - { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } يفيد أن السفه مقصور عليهم فلا يتجاوزهم إلى المؤمنين، وقد تضمنت هذه الجملة من المؤكدات ما تضمنته الجملة السابقة فى قوله تعالى - { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ }.
وإنما قال فى الآية السابقة "ولكن لا يشعرون" وقال فى هذه الآية { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } لأن الآية السابقة وصفتهم بالإِفساد، وهو من المحسوسات التى تدرك بأدنى نظر فيناسبه نفى الشعور الذى هو الإِدراك بالمشاعر: الحواس، أما هذه الآية فقد وصفتهم بالسفه، وهو ضعف الرأى والجهل بالأمور، وهذا لا يدركه الشخص فى نفسه إلا يعد نظر وإمعان فكر. فيناسبه نفى العلم.
ثم بين القرآن ماهم عليه من سلوك ذميم، وأنهم يقابلون الناس بوجوه مختلفة فقال:
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ...فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }.