التفاسير

< >
عرض

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ ٱلْجَحِيمِ
١١٩
وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
١٢٠
ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ
١٢١
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً } معناه: إنا أرسلناك يا محمد بالدين الصحيح المشتمل على الأحكام الصادقة، لتبشر بالثواب من آمن وعمل صالحاً، وتنذر بالعقاب من كفر وعصى.
وصدرت الآية الكريمة بحرف التأكيد، لمزيد الاهتمام بهذا الخبر، وللتنويه بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وجىء بالمسند إليه ضمير الجلالة، تشريفاً للنبى صلى الله عليه وسلم فكأن الله - تعالى - يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة، ولذا لم يقل له إن الله أرسلك.
وقوله: { بِٱلْحَقِّ } متعلق بأرسلناك. والحق: مأخوذ من حق الشىء، أى: وجب وثبت، ويطلق الحق على الحكم الصادق المطابق للواقع، ويسمى الدين الصحيح حقاً لاشتماله على الأحكام الصادقة.
وقوله: { بَشِيراً وَنَذِيراً } حالان، والبشير: المبشر، وهو المخبر بالأمر السار للمخبر به الذى لم يسبق له علم به. والنذير: المنذر، وهو المخبر بالأمر المخوف ليحذر منه.
وجملة { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ ٱلْجَحِيمِ } معطوف على جملة { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ }.
والجحيم: المتأجج من النار. وأصحابها: الملازمون لها. والسؤال: كناية عن المؤاخذة واللوم.
والمعنى: لا تذهب نفسك عليهم حسرات يا محمد، فإن وظيفتك أن تبشر وتنذر ولست بعد ذلك مؤاخذاً ببقاء الكافرين على كفرهم، ولست مسئولا عن عدم اهتدائهم
{ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } وفى وصفهم بأنهم أصحاب الجحيم، إشعار بأنهم قد طبع على قلوبهم، فصاروا لا يرجى منها الرجوع عن الكفر.
وفى هذه الجملة مع قوله: { بَشِيراً وَنَذِيراً } تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم حيث لم يؤمن به أولئك الجاحدون المتعنتون.
ثم بين القرآن موقف أهل الكتاب من الدعوة الإِسلامية فقال: { وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ }.
الملة: الطريقة المسلوكة، ثم جعلت اسما لما شرعه الله لعباده على لسان نبيه ليتوصلوا إلى السعادة الدائمة، وقد تطلق على ما ليس حقاً من الأديان المنحرفة أو الباطلة، كما حكى القرآن عن يوسف عليه السلام - أنه قال:
{ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } وأفرد القرآن الملة فقال - تعالى - ملتهم - "مع أن لكل من اليهود والنصارى ملة خاصة، لأن الملتين بالنظر إلى مخالفتهما لدين الإِسلام وما طرأ عليهما من التحريف بمنزلة واحدة، فاتباع إحداهما كاتباع الأخرى فى قلة الانتفاع به.
ومعنى الغاية فى قوله: "حتى تتبع ملتهم الكناية عن اليأس من اتباع أهل الكتاب لشريعة الإِسلام، لأنهم لما كانوا لا يرضون إلا باتباعه صلى الله عليه وسلم ملتهم وكان اتباع النبى صلى الله عليه وسلم لملتهم مستحيلا، فقد صار رضاهم عنه كذلك مستحيلا، فالجملة الكريمة مبالغة فى الإِقناط من إسلامهم، وتنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز وقوعه منه.
ثم لقن الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم الجواب فقال: { قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ }.
وهدى الله: دينه والهدى، بمعنى الهادى إلى طريق الفلاح فى الدنيا والآخرة. أى: ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذى يضعه فى قلب من يشاء هو الهدى الحقيقى لا ما يدعيه هؤلاء من الأهواء.
وإيراد الهدى معرفاً بأل مع اقترانه بضمير الفصل "هو" يفيد قصر الهداية على دين الله، وينفى أن يكون فى دين غير دين الله هدى. وإذا كانت الهداية مقصورة على الدين الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يطمع أهل الكتاب فى أن يتبع ملتهم؟
ثم حذر القرآن من اتباع أهل الكتاب فقال: { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }.
اللام فى قوله: { وَلَئِنِ } تشعر بأن فى الجملة قسماً مقدراً روعى فى صدرها ليفيد تأكيد ما تضمنته من أن متبع أهواء أهل الكتاب لا يجد من الله ولياً ولا نصيراً.
والأهواء: جمع هوى، والمراد بها آراؤهم المنحرفة عن الحق الصادرة من شهوات فى أنفسهم. والعلم: الدين: وسمى علماً لأنه يعلم بالأدلة القاطعة.
والولى: القريب والحليف. والنضير: كل من يعين غيره على من يناوئه ويبسط إليه يده بسوء.
والمعنى: ولئن اتبعت - يا محمد - آراءهم الزائفة، بعد الذى جاءك من العلم بأن دين الله هو الإِسلام، أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة، مالك من الله من ولى يلى أمرك ولا نصير يدفع عنك عقابه.
وإنما أوثر خطابه صلى الله عليه وسلم بذلك ليدخل دخولا أولياً من اتبع أهواءهم بعد الإِسلام من المنافقين تمسكاً بولايتهم، وطمعاً فى نصرتهم.
وبعد أن ذكر القرآن فى الآيات السابقة أحوال الكافرين من أهل الكتاب أخذ فى بيان حال المؤمنين، فقال:
{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ }.
أى: يقرءونه قراءة حقة، مصحوبة بضبط لفظه، وتدبر معانيه، ولا شك أن ضبط لفظه يقتضى عدم تحريف ما لا يوافق أهواء أهل الكتاب، كالجمل الواردة فى نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تدبره يستدعى اتباعه والعمل به.
وجملة: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } حال من الضمير (هم) أو من الكتاب وهذه الحال من قبيل الأحول التى تلابس صاحبها بعد وقوع عاملها، فإنهم إنما يتلون الكتاب بعد أن يؤتوه. وهى التى تسمى بالحال المقدرة أى: مقدراً وقوعها بعد وقوع عاملها.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب، مؤمنو أهل الكتاب. والمراد بالكتاب التوارة والإِنجيل. أو هم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم والكتاب: القرآن.
وأجاز بعضهم أن تكون الآية سيقت مدحاً لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن، فيكون الضمير فى يتلونه القرآن.
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } خبر عن قوله: { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ }.
وفى ذكر الإِشارة ووضعه فى صدر الجملة المخبر بها، زيادة تأكيد لإِثبات إيمانهم.
وفى هذه الجملة تعريض بأولئك المعاندين الذين كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، فكأن الآية التى معنا تقول: { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ } وكان من حالهم أن قرءوه حق قراءته، يؤمنون به إيمانا لا ريبة فيه، بخلاف المعاندين المحرفين للكلم عن مواضعه.
ثم بين - سبحانه - عاقبة الكافرين يكتبه فقال: { وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }.
والكفر بالكتاب يتحقق بتحريفه وانكار بعض ما جاء فيه، أى ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون فى الدنيا حيث لا يعيشون فيها عيش المؤمنين وهم الخاسرون فى الآخرة، إذ سيفوتهم ما أعده الله لعباده من نعيم دائم، ومقام كريم.
وكما بدأ القرآن حديثه مع اليهود بندائهم بأحب أسمائهم إليهم، فقد اختتمه - أيضاً - بهذا النداء فقال:
{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ...وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }.