التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
١٢٥
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٢٦
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٢٧
رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٨
رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ
١٢٩
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى -: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنا } معطوف على قوله - تعالى -: { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } وجعلنا: بمعنى صرنا. والبيت: المقصود به الكعبة، إذ غلب استعمال البيت فيها حتى صار اسما لها.
ومثابة للناس: مرجعاً للناس يرجعون إليه من كل جانب، وهو مصدر ميمى من ثاب القوم إلى المكان رجعوا إليه. فهم يثوبون إليه ثواباً وثوبانا، أو معاذا لهم يلجأون إليه أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره.
والأمن: السلامة من الخوف، وأمن المكان: اطمئنان أهله به، وعدم خوفهم من أن ينالهم فيه مكروه فالبيت مأمن، أى موضع أمن. وأخبر - سبحانه - بأنه جعله أمنا ليدل على كثرة ما يقع به من الأمن حتى صار كأنه نفس الأمن.
وكذلك صار البيت الحرام محفوظاً بالأمن من كل ناحية، فقد كان الناس فى الجاهلية يقتتلون ويعتدى بعضهم على بعض من حوله، أما أهله فكانوا فى أمان واطمئنان. قال تعالى
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } وقال - تعالى -: { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وقد أقرت تعاليم الإِسلام هذه الحرمة للبيت الحرام على وجه لا يضيع حقاً ولا يعطل حداً، وزادت فى تكريمه وتشريفه بأن جعلت الحج إليه فريضة على كل قادر عليها.
قال الإِمام ابن كثير: "ومضمون ما فسر به العلماء هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابة للناس. أى: جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضى منه وطراً ولو ترددت إليه فى كل عام استجابة من الله - تعالى - لدعاء خليله إبراهيم فى قوله تعالى:
{ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ } ويصفه - تعالى - بأنه جعله أمنا من دخله أمن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له:
{ وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } الاتخاذ: الجعل، تقوم اتخذت فلاناً صديقاً أى: جعلته صديقاً. والمقام فى اللغة: موضع القدمين من قام يقوم، ومقام إبراهيم: هو الحجر الذى كان إبراهيم يقوم عليه عند بناء الكعبة لما ارتفع الجدار، وهو - على المشهور - تحت المصلى المعروف الآن بهذا الاسم.
ومعنى اتخاذ مصلى منه: القصد إلى الصلاة عنده. فقد ورد فى الحديث الصحيح الذى رواه الإِمام مسلم عن جابر بن عبد الله
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين" .
ومن العلماء من فسر مقام إبراهيم بالمسجد الحرام، ومنهم من أطلقه على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها لعبادة الله تعالى.
قال الإِمام ابن كثير: "وقد كان هذا المقام - أى الحجر الذى يسمى مقام إبراهيم - ملصقاً بجدار الكعبة قديماً، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلى الحجر على يمين الداخل من الباب فى البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل - عليه السلام - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة.. ثم قال: وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر - رضى الله عنه - ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة:
ثم قال - تعالى -: { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ }.
عهدنا: أمرنا وأوحينا، و{ أَن } مفسرة المأمور به أو الموصى به المشار إليه بقوله: { عَهِدْنَآ } أى: أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى.
وأضاف - سبحانه - البيت إليه للتشريف والتكريم ومعنى تطهيره: صيانته من كل ما لا يليق ببيوت الله من الأقذار والأرجاس والأوثان وكل ما كان مظنة للشرك، فالمقصود تطهيره من كل رجس حسى ومعنوى.
والطائفين: جمع طائف من طاف يطوف طوفاً وطوافاً إذا دار حول الشىء والمراد بهم: المتقربون إلى الله بالطواف حول الكعبة.
والعاكفين: جمع عاكف، من عكف على الشىء عكوفاً إذا أقام عليه ملازماً له، والمراد بهم: المقيمون فى الحرم بقصد العبادة، ويدخل فى العبادة مدارسة العلوم الدينية وما يساعد على فهمها.
والركع السجود: الركع جمع راكع، والسجود: جمع ساجد.
والركوع والسجود من هيئات الصلاة وأركانها، فمعنى "والركع السجود" المصلون. فالآية الكريمة جمعت أصناف العابدين فى البيت الحرام: وهم الطائفون وإن لم يكونوا مقيمين، كمن يأتون لحج أو عمرة ثم ينصرفون.
والعاكفون الذين يقيمون فى الحرم بقصد الإِكثار من العبادة فى المسجد الحرام. والمصلون يتقربون إلى الله بالصلوات سواء أكانت فرائض أم نوافل.
ولم يعطف السجود على الركع، لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان.
ثم ساق القرآن بعد ذلك نماذج من الدعوات التى تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } أى: أضرع إليك يا إلهى أن تجعل الموضع الذى فيه بيتك مكانا يأنس إليه الناس، ويأمنون فيه من الخوف، ويجدون فيه كل ما يرجون من أمان واطمئنان.
والمشار إليه بقوله: { هَـٰذَا } مكة المكرمة. والبلد كل قطعة من الأرض عامرة أو غامرة.
والمقصود بالدعاء إنما هو أمن أهله لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد، وإنما يلحقان أهل البلد.

قال الإِمام الرازى: وإنما قال هنا { بَلَداً آمِناً } على التنكير، وقال فى سورة إبراهيم
{ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً } على التعريف لوجهين:
الأول: أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً، كأنه قال: اجعل هذا الوادى بلداً آمناً. والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذى صيرته بلداً ذا أمن وسلامة.
الثانى: أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلداً، فقوله: { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } تقديره: أجعل هذا البلد بلداً آمناً كقولك: كان اليوم يوماً حاراً، وهذا إنما تذكره للمبالغة فى وصفة بالحرارة، لأن التنكير يدل على المبالغة فقوله: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا معناه: اجعله من البلدان الكاملة فى الأمن. وأما قوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة.
أما الدعوة الثانية التى توجه بها إبراهيم إلى ربه من أجل أهل مكة فقد حكاها القرآن فى قوله:
{ وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }.
أى: كما أسألك يا إلهى أن تجعل هذا لبلد بلداً آمنا. أسألك كذلك أن ترزق المؤمنين من أهله من الثمرات ما يسد حاجاتهم، ويغنيهم من الاحتياج إلى غيرك.
وقوله: "ارزق" مأخوذ من رزقه يرزقه إذا أعطاه ما ينتفع به من مأكول وغيره.
والثمرات: جمع ثمرة، وهى ما يحمله شجر أو زرع أو غيره من النبات. وإنما طلب ابراهيم - عليه السلام - من الله أن يجعل مكة بلدا آمناً، وأن يرزق أهلها من الثمرات بما يغنيهم لأن البلد إذا امتدت إليه ظلال الأمن، وكانت مطالب الحياة فيه ميسرة، أقبل أهله على طاعة الله بقلوب مطمئنة وتفرغوا لذلك بنفوس مستقرة.
وقال فى دعائه: { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } لأن أهل مكة قد يكون من بينهم كافرون، فأراد تخصيص المؤمنين منهم بدعائه، لذا أتبع قوله: { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ } بقوله: { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } على وجه البدل فصار المعنى وارزق المؤمنين من أهله على ما تقتضيه القاعدة العربية من أن البدل وهو هنا { مَنْ آمَنَ } هو المقصود بطلب الرزق.
وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصاً على شيوع الإِيمان بين سكان مكة، لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم إنما هى خاصة بالمؤمنين تجنبوا ما يبعدهم عن الإِيمان، أو أنه خص المؤمنين بذلك تأدباً مع الله - تعالى - إذ سأله سؤالا أقرب إلى الإِجابة، ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال:
{ وَمِن ذُرِّيَّتِي } فقال: { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإِجراء رزق الله عليهم.
واقتصر على ذكر الإِيمان بالله واليوم الآخر فى التعبير عن المؤمنين لأن الإِيمان بالله واليوم الآخر لا يقع على الوجه الحق إلا إذا صاحبه الإِيمان بكتب الله ورسله وملائكته.
ثم بين - سبحانه - مصير الكافرين فقال: { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }.
الضمير فى { قَالَ } يعود إلى الله - تعالى - ومن فى قوله { وَمَن كَفَرَ } منصوب بفعل مقدر دل عليه "فأمتعه". والمعنى: قال الله وأرزق من كفر وايراد المتكلم قولا من عنده معطوفاً على قول متكلم آخر مألوف فى اللغة العربية، ويحسن موقعه عندما يقتضى المقام إيجازاً فى القول، ولولا هذا العطف لكان المعنى متطلباً لأن يقال: قال الله أرزق من آمن ومن كفر.
{ فَأُمَتِّعُهُ }: من التمتع وهو إعطاء ما ينتفع به. و{ قَلِيلاً }: وصف لمصدر محذوف فى النظم، والمعنى: أمتعه تمتيعاً قليلا. ووصف التمتع فى الدنيا بالقلة، لأنه صائر إلى نفاد وانقطاع.
و { أَضْطَرُّهُ } أى الجثة وأسوقه بعد متاعه فى الدنيا إلى عذاب لا يمكنه الإِنفكاك عنه وجملة "ثم اضطره إلى عذاب النار" احتراس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم فى الدنيا يؤذن برضا الله فلذلك ذكر العذاب هنا.
{ وَبِئْسَ } فعل يستعمل لذم المرفوع بعده، وهو ما يسميه النحاة بالمخصوص بالذم، ووردت هنا لذم النار المقدرة فى الجملة، والمعنى: بئس المصير النار. أى أنها مصير سىء كما قال تعالى فى آية أخرى.
{ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } وقد أفادت الآية الكريمة أن الله يرزق الكافر فى الدنيا كما يرزق المؤمن وإذا كان إمتاع المؤمن بالرزق لأنه أهل لأن ينعم عليه بكل خير، فإمتاع الكافر بالرزق له حكم منها استدراجه المشار إليه بقوله تعالى: { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ولو خص الله المؤمنين بالتوسعة فى الرزق وحرم منها الكافرين لكان هذا التخصيص سائقا للكافرين إلى الإِيمان على وجه يشبه الإِلجاء. وقد قضت حكمته - تعالى - أن يكون الإِيمان اختيارياً حتى ينساق الإِنسان من طريق النظر فى أدلة عقلية يبصر بها أقوام ولا يبصر بها آخرون.
ثم حكى القرآن دعوة ثالثة تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }.
القواعد: جمع قاعدة، وهى أساس البناء الموالى للأرض، وبها يكون ثبات البناء. ورفعها: إبرازها عن الأرض بالبناء عليها. والمراد بالبيت الكعبة.
والتقبل: القبول، وقبول الله للعمل أن يرضاه أو يثيب عليه.
والمعنى: واذكر يا محمد ما صدر من الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل فقد كانا وهما يقومان يرفع قواعد الكعبة إلى ويقولان: يا ربنا تقبل منا أقوالنا وأعمالنا، إنك أنت السميع العليم.
وتصدير الدعاء بندائه - سبحانه - باسم الرب المضاف إلى ضميرها مظهر من مظاهر خضوعهما، وإجلالهما لمقامه، والخضوع له - سبحانه -، وإجلال مقامه من أسنى الآداب التى تجعل الدعاء بمقربة من الاستجابة.
وعبر بالمضارع فقال: { وَإِذْ يَرْفَعُ } مع أن رفع القواعد كان قبل نزول الآية، وذلك ليخرجه فى صورة الحاضر فى الواقع لأهميته.
وختما دعاءهما بذكر اسمين من أسمائه الحسنى، ليؤكدا أن رجاءهما فى استجابة دعائهما وثيق، وأن ما عملاه ابتغاء مرضاته جدير بالقبول. لأن من كان سميعاً عليماً بنيات الداعين وصدق ضمائرهم، كان تفضله باستجابة دعاء المخلصين فى طاعته غير بعيد.
ثم حكى القرآن جملة من الدعوات الخاشعات، التى توجه بها إبراهيم وإسماعيل إلى الله - تعالى - فقال: { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ }:
مسلمين من الإِسلام، وهو الخضوع والإِذعان، وقد كانا خاضعين لله مذعنين فى كل حال، وإنما طلبا الثبات والدوام على ذلك، والإِسلام الذى هو الخضوع لله بحق إنما يتحقق بعقيدة التوحيد، وتحرى ما رسمه الشارع فى العبادات والمعاملات، والإِخلاص فى أداء ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
وقوله: { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } معناه: واجعل يا ربنا من ذريتنا أمة مخلصة وجهها إليك، مذعنة لأوامرك ونواهيك.
ومن (من) للتبعيض، أو للتعيين كقوله:
{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ } وإنما خص الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع؛ ولأن صلاح الذرية مرغوب فيه طبعاً، والدعاء لهم بالصلاح مرغب فيه شرعاً، وقد حكى القرآن من دعاء الصالحين قوله - تعالى - : { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أى: علمنا شرائع ديننا وأعمال حجنا، كالطواف والسعى والوقوف. أو متعبداتنا التى تقام فيها شرائعنا، كمنى، وعرفات، وتحوهما.
والمناسك: جمع منسك - بفتح السين وكسرها - بمعنى الفعل وبمعنى الموضع من النسك - مثلثة النون وبضمها وضم السين - وهو غاية العبادة والطاعة، وشاعت تسمية أعمال الحج بالمناسك كالطواف والسعى وغيرهما.
{ وَتُبْ عَلَيْنَآ } تسند التوبة إلى العبد فيقال: تاب فلان إلى الله ومعناها الندم على ما لابس من الذنب، والإِقلاع عنه، والعزم على عدم العود إليه، ورد المظالم إن استطاع، أو نية ردها إن لم يستطع وتسند إلى الله فيقال: تاب الله على فلان، ومعناها حينئذ توفيقه إلى التوبة، أو قبولها منه. فمعنى { وَتُبْ عَلَيْنَآ } وفقنا للتوبة أو تقبلها منا.
والتوبة تكون من الكبائر والصغائر، وتكون من ترك ما هو أولى أو من تقصير يؤدى إلى خطأ فى الاجتهاد، وعلى أحد هذين الوجهين، تحمل التوبة التى يسأل الأنبياء والمرسلون ربهم قبولها أو التوفيق لها.
{ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } التواب: كثير القبول لتوبة المنيبين إليه، وقبول توبتهم يقتضى عدم مؤاخذتهم بما يأتونه من سيئات، ثم بعد تخلصهم من عقوبة الخطيئة أو المعاتبة عليها ينتظرون من رحمة الله أن تحفهم بإحسان.
وإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - قد طلبا قبول توبتهما صراحة فى قولهما { وَتُبْ عَلَيْنَآ } ولوحا إلى طلب الرحمة بذكر اسمه الرحيم، إذ الرحمة صفة من أثرها الإِحسان، فكأنهما قالا: تب علينا وارحمنا، وهذا من أكمل آداب الدعاء وأرجاها للقبول عند الله تعالى.
ثم ختم إبراهيم وإسماعيل دعواتهما بتلك الدعوة التى فيها خيرهم فى الدنيا والآخرة، فقالا - كما حكى القرآن عنهما:
{ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ }.
الضمير فى قوله: { مِّنْهُمْ } يعود إلى الذرية أو الأمة المسلمة فى قوله: { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ }.
والرسول: من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه: وتلاوة الشىء: قراءته والمراد بقوله تعالى: { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } يقرؤها عليهم قراءة تذكير وفى هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع.
والآيات: جمع آية، والمراد بها ما يشهد بوحدانية الله، وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه، أو المراد بها آيات القرآن الكريم فهو يتلوها عليهم ليحفظوها بألفاظها كما نزلت، ويتعبدوا بتلاوتها، وليعرفوا من فضل بلاغتها وروعة أساليبها وجهاً مشرقا من وجوه إعجازها.
والكتاب: القرآن، وتعلمه يكون ببيان معانيه وحقائقه، ليعرفوا ما أقامه لهم من دلائل التوحيد وما اشتمل عليه من أحكام وحكم ومواعظ وآداب.
والحكمة: العلم النافع المصحوب بالعمل الواقع موقعه اللائق به. ووضعها بجانب الكتاب يرجح أن المراد بها السنة النبوية المطهرة التى تنتظم أقوال النبى صلى الله عليه وسلم وأفعاله، إذ بالكتاب وبالسنة يعرف الناس أصلح الأعمال، وأعدل الأحكام وأسنى الآداب، وتنفتح لهم طرق التفقه فى أسرار الدين ومقاصده.
ويزكيهم: أى يطهرهم من أرجاس الشرك ومن كل ما لا يليق التلبس به ظاهراً أو باطناً. يقال: زكاة الله، أى طهره وأصلحه، ومنه زكاة المال لتطهره بها، وأصل الزكاة - بالمد - النماء والزيادة، يقال. زكا الزرع زكاء وزكوا، أى نما.
والمعنى: ونسألك يا ربنا أن تبعث فى الأمة المسلمة، أو فى ذريتنا رسولا منهم يقرأ عليهم آياتك الدالة على وحدانيتك، ويعلمهم كتابك بأن يبين لهم معانيه، ويرشدهم إلى ما فيه من حكم ومواعظ وآداب، كما يهديهم إلى الحكمة التى تتمثل فى اتباع سنة نبيك - والتى بها يتم التفقه فى الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده، والتى يكمل بها العلم بالكتاب إنك يا مولانا أنت العزيز الحكيم.
أى القادر الذى لا يغلب على أمره، العالم الذى يدبر الأمور على وفق المصلحة، ومن كان قادراً على كل ما يريد، عليما بوجوه المصالح، كانت استجابته قريبة من دعاء الخير الصادر عن إخلاص وابتهال.
وقد جاءت ترتيب هذه الجمل فى أسمى درجات البلاغة والحكمة؛ لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه، ثم بتعليم العلم النافع الذى تحصل به التزكية والتطهير من كل ما لا يليق التلبس به فى الظاهر، أو الباطن.
وقد سأل إبراهيم وإسماعيل ربهما أن تكون بعثة الرسول فى ذريتهما فيكون أمر الإِيمان قريبا منهم، فإن نشأته بينهم، ومعرفة سيرته قبل الرسالة وشهادتهم له بالصدق والأمانة، وكل ذلك يحمل العقلاء على المبادرة إلى تصديقه فيما يبلغه عن ربه.
ولقد حقق الله تعالى دعوة هذين النبيين الكريمين، فأرسل فى ذريتهما رسولا منهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم أرسله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه دعوة إبراهيم، فقال:
"أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى بى، ورؤيا أمى التى رأت، وكذلك أمهات المؤمنين يرين"
). ثم عرض القرآن بعد ذلك بالجاحدين والمعاندين الذين تركوا الحق الواضع الذى هو ملة إبراهيم فقال:
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ...عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.