التفاسير

< >
عرض

وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ
١٦٣
إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٦٤
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله: { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } معطوف على قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا } عطف القصة على القصة، والجامع - كما قال الآلوسى - أن الأولى - وهى قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ } مسوقة لإِثبات نبوة النبى صلى الله عليه وسلم وجملة { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } لإِثبات وحدانية الله - تعالى -.
والإِله فى كلام العرب هو المعبود مطلقاً ولذلك تعددت الآلهة عندهم. والمراد به فى الآية الكريمة المعبود بحق بدليل الإِخبار عنه بأنه واحد.
والمعنى: وإلهكم الذى يستحق العبادة والخضوع إله واحد فرد صمد، فمن عبد شيئاً دونه، أو عبد شيئاً معه، فعبادته باطلة فاسدة، لأن العبادة الصحيحة هى ما يتجه بها العابد إلى المعبود بحق الذى قامت البراهين الساطعة على وحدانيته وهو الله رب العالمين.
قال بعضهم: "والإِخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجرى عليه الوصف بواحد، والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط إله بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية فى المخبر عنه، كما تقول: عالم المدينة عالم فائق، وليجيئ ما كان أصله خيراً مجئ النعت فيفيد أنه وصف ثابت للموصوف لأنه صار نعتاً، إذ أصل النعت أن يكون وصفاً ثابتاً، وأصل الخبر أن يكون وصفاً حادثاً، وهذا استعمال متبع فى فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبنى عليه وصف أو متعلق كقوله:
{ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } وجملة { إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } مقررة لما تضمنته الجملة السابقة من أن الله واحد لا شريك له، ونافية عن الله - تعالى - الشريك صراحه، ومثبتة له مع ذلك الإِلهية الحقة، ومزيحة لما عسى أن يتوهم من أن فى الوجود إلهاً سوى الله - تعالى - لكنه لا يستحق العبادة.
ومعناها: إن الله إله، وليس شىء مما سواه بإله.
وهذه الجملة الكريمة خبر ثانى للمبتدأ وهو (إلهكم) أو صفة أخرى للخبر وهو (إله) وخبر (لا) محذوف أى لا إله موجود إلا هو، والضمير (هو) فى موضع رفع بدل من موضع لامع اسمها.
وقوله: { ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } خبر مبتدأ محذوف، وقيل غير ذلك من وجوه الإِعراب.
والمعنى: وإلهكم الذى يستحق العبادة إله واحد، لا إله مستحق لها إلا هو، هو الرحمن الرحيم.
أى: المنعم بجلائل النعم ودقائقها، وهو مصدر الرحمة، ودائم الإِحسان.
وأتى - سبحانه - بهذين اللفظين فى ختام الآية، لأن ذكر الإِلهية والوحدانية يحضر فى ذهن السامع معنى القهر والغلبة وسعة المقدرة وعزة السلطان، وذلك مما يجعل القلب فى هيبة وخشية، فناسب أن يورد عقب ذلك ما يدل على أنه مع هذه العظمة والسلطان، مصدر الإِحسان ومولى النعم، فقال: { ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } وهذه طريقة القرآن فى الترويح على القلوب بالتبشير بعد ما يثير الخشية، حتى لا يعتريها اليأس أو القنوط.
وبعد أن أخبر - سبحانه - بأنه هو الإِله الذى لا يستحق العبادة أحد سواه، عقب ذلك بإيراد ثمانية أدلة تشهد بوحدانيته وقدرته، وتشتمل على آيات ساطعات، وبينات واضحات، تهدى أصحاب العقول السليمة إلى عبادة الله وحده، وإلى بطلان ما يفعله كثير من الناس من عبادة مخلوقاته.
ويشتمل الدليل الأول والثانى على أنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة فى قوله - تعالى -: { إِنَّ في خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }.
الخلق: هو الإِحداث للشىء على غير مثال سابق. وهو هنا بمعنى المخلوق. إذ الآيات التى تشاهد إنما هى فى المخلوق الذى هو السماوات والأرض.
والسماوات: جمع سماء، وهى كل ما علا كالسقف وغيره، إلا أنها إذا أطلقت لم يفهم منها سوى الأجرام المقابلة للأرض، وهى سبع كما ورد ذلك صريحاً فى بعض الآيات التى منها قوله - تعالى -:
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وجمعت السماوات لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية، كما يدل عليه قوله - تعالى - { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } ولأن إفرادها قد يوهم بأنها واحدة مع أن القرآن صريح فى كونها سبعاً.
وجاءت الأرض مفردة - وهى لم تجئ فى القرآن إلا كذلك - لأن المشاهدة لا تقع إلا على أرض واحدة، ومن هنا حمل بعض أهل العلم تعددها الذى يتبادر من ظاهر قوله - تعالى -:
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } على معنى أنها طبقات لا ينفصل بعضها عن بعض.
ومن الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرته فى خلق السماوات وارتفاعها بغير عمد كما يرى ذلك بالمشاهدة، وتزيينها بالمصابيح التى جعلها الله زينة للسماء ورجوماً للشياطين، ووجودها بتلك الصورة العجيبة الباهرة التى لا ترى فيها أى تفاوت أو اضطراب ومن الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته فى خلق الأرض، فرشها بتلك الطريقة الرائعة التى يتيسر معها للإِنسان أن يتقلب فى أرجائها، ويمشى فى مناكبها، وينتفع بما يحتاج إليه منها أينما كان، وتفجيرها بالأنهار، وعمارتها بحدائق ذات ثمار تختلف ألوانها ويتفاضل أكلها.
وفى القرآن الكريم عشرات الآيات التى تتحدث عن نعم الله على عبادة فى خلق السماوات والأرض، وعن مظاهر قدرته ووحدانيته فى إيجادهما على تلك الصورة، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } وقوله - تعالى -: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } وقوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } إلى غير ذلك من الآيات الكريمة الدالة على وجود الله وقدرته ووحدانيته.
ويتمثل الدليل الثالث على قدرته - سبحانه - ووحدانيته فى قوله تعالى: { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ }، والاختلاف: افتعال من الخلف، وهو أن يجئ شىء عوضاً عن شىء آخر يخلفه على وجه التعاقب. والمراد أن كلا من الليل والنهار يأتى خلفا من الآخر وفى أعقابه، ويجوز أن يكون المراد باختلافهما، فى أنفسهما بالطول والقصر، واختلافهما فى جنسهما بالسواد والبياض.
و{ ٱللَّيْلِ }: هو الظلام المعاقب للنهار، واحدته ليلة كتمر وتمرة.
و{ وَٱلنَّهَارِ }: هو الضياء المتسع، وأصله الاتساع، ومنه قول الشاعر:

ملكت بها كفى فأنهرت فتقهايرى قائم من دونها ما وراءها

أى: أوسعت فتقها.
وقد جعل الله الليل للسكون والراحة والعبادة لمن وفقه الله لقضاء جانب منه فى مناجاته - سبحانه - وجعل النهار للعمل وابتغاء الرزق.
قال - تعالى -:
{ وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار، لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد سوى فوائد الآخر، بحيث لو دام أحدهما لانقلب النفع ضراً.
قال - تعالى -:
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ومن العظات التى تؤخذ من هذا الاختلاف أن مدد الليل والنهار تختلف فلكل منهما مدة يستوفيها من السنة بمقتضى نظام دقيق مطرد.
قال - تعالى -:
{ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وكون الليل والنهار يسيران على هذا النظام الدقيق المطرد الذى لا ينخرم دليل على أن الاختلاف تدبير من إله قادر حكيم لا يدخل أفعاله تفاوت ولا اختلال.
وإذا كان لهذا الاطراد أسباب تحدث عنها العلماء، فإن الذى خلق الأسباب وجعل بينها وبين هذا الاختلاف تلازماً إنما هو الإِله الواحد القهار.
أما المظهر الرابع من المظاهر الدالة فى هذا الكون على قدرته - سبحانه - ووحدانيته وألوهيته، فقد تحدثت عنه الآية فى قوله - تعالى -: { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فى ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ }.
(الفلك): ما عظم من السفن، ويستعمل لفظ الفلك للواحد والجمع. والظاهر أن المراد به هنا الجمع بدليل قوله - تعالى -: { ٱلَّتِي تَجْرِي فى ٱلْبَحْرِ } ولو كان هذا اللفظ للمفرد لقال: الذى يجرى، كما جاء فى قوله - تعالى -:
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } والجملة الكريمة معطوفة على خلق السماوات والأرض.
قال صاحب المنار: وكان الظاهر أن تأتى هذه الجملة فى آخر الآية ليكون ما للإِنسان فيه صنع على حدة وما ليس له فيه صنع على حدة. والنكتة فى ذكرها عقيب آية الليل والنهار، هى أن المسافرين فى البر والبحر هم أشد الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذى ينتفع به، والمسافرون فى البحر أحوج إلى معرفة الأوقات وتحديد الجهات، لأن خطر الجهل عليهم أشد، وفائدة المعرفة لهم أعظم، ولذلك كان من ضروريات ربانى السفن معرفة علم النجوم، وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم. قال - تعالى -:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فى ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } فهذا وجه العلاقة بين ذكر الفلك وما قبله.
و "ما" فى قوله: { بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } مصدرية، والباء للسببية أى: تجرى بسبب نفع الناس ولأجله فى التجارة وغيرها. أو موصولة والباء للحال، أى تجرى مصحوبة بالأعيان التى تنفع الناس. وخص - سبحانه - النفع بالذكر وإن كانت السفن تحمل ما ينفع وما يضر؛ لأن المراد هنا عد النعم، ولأن الذى يحمل فيها ما يضر غيره هو فى الوقت نفسه يقصد منفعة نفسه.
ومن وجوه الاستدلال بالفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس على وجود الله وقدرته، أن هذه الفلك وإن كانت من صنع الناس إلا أن الله - تعالى - هو الذى خلق الآلات والأجزاء التى صارت بها سفناً، وهو الذى سخر لبحر لتجرى فيه مقبلة ومدبرة مع شدة أهواله إذا هاج، وهو الذى جعلها تشق أمواجه شقاً حتى تصل إلى بر الأمان، وهو الذى رعاها برعايته وهى كنقطة صغيرة فى ذلك الماء الواسع، ووسط تلك الأمواج المتلاطمة حتى وصلت إلى ساحل السلامة وهى حاملة الكثير مما ينفع الناس من الأطعمة والأشربة والأمتعة المختلفة، فسبحانه من إله قادر حكيم.
الدليل الخامس والسادس على أنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة يتمثل فى قوله - تعالى - فى هذه الآية: { وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ }.
والمراد بالسماء: جهة العلو، أى: وما أنزل من جهة السماء من ماء، و "من" فى قوله: { مِنَ ٱلسَّمَآءِ } ابتدائية، وفى قوله: { مِن مَّآءٍ } بيانية، وهما ومجرورهما متعلقان بأنزل.
والمراد بإحياء الأرض: تحرك القوى النامية فيها، وإظهار ما أودع الله فيها من نبات وزهور وثمار وغير ذلك.
والمراد بموتها: خلوها من ذلك باستيلاء اليبوسة والقحط عليها.
قال - تعالى -:
{ وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } (والبث): التفريق والنشر لما كان خافيا، ومنه بث الشكوى أى: نشرها وإظهارها، وكل شىء بثثته فقد فرقته ونشرته، والضمير فى قوله: "فيها" يعود إلى الأرض.
(والدابة): اسم من الدبيب والمشى ببطء، كل ما يمشى فوق الأرض فهو بحسب الوضع اللغوى يطلق عليه دابة. والظاهر أن المراد بالدابة هنا هذا المعنى العام، لا ما يجرى به العرف الخاص باستعماله فى نوع خاص من الحيوان كذوات الأربع.
وجملة { وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ... } معطوفة على ما قبلها، وجملة { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } معطوفة على قوله: { فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }.
والمعنى: وإن فيما أنزله الله من جهة السماء من ماء مبارك، عمرت به الأرض بعد خرابها، وانتشرت فيها أنواع الدواب كلها، لدلييل ساطع على قدرة الله ووحدانيته.
ذلك لأنه هو وحده الذى أنزل المطر من السماء ولو شاء لأمسكه مع أن الماء من طبعه الانحدار، وهو وحده الذى جعل الأرض التى نعيش عليها تنبت من كل زوج بهيج بسبب ما أنزل عليها من ماء، وهو وحده الذى نشر على هذه الأرض أنواعاً من الدواب مختلفة فى طبيعتها وأحجامها، وأشكالها وألوانها، وأصواتها، ومآكلها، وحملها، وتناسلها، ووجوه الانتفاع بها، وغير ذلك من وجوه الاختلاف الكثيرة، مما يشهد بأن خالق هذه الكائنات إله واحد قادر حكيم.
أما الدليل السابع والثامن فى هذه الآية على قدرته - سبحانه - ووحدانيته واستحقاقه للعبادة فهما قوله - تعالى -: { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ }.
الرياح جمع ريح وهى نسيم الهواء.
وتصريفها: تقليبها فى الجهات المختلفة، ونقلها من حال إلى حال، وتوجيهها على حسب إرادته - سبحانه - ووفق حكمته. فتهب تارة صباً، أى من مطلع الشمس، وتارة دبوراً، أى: من جهة الغرب، وأحياناً من جهة الشمال أو الجنوب وقد يرسلها - سبحانه - عاصفة ولينة، حارة أو باردة، لواقح بالرحمة حيناً وبالعذاب آخر. { وَتَصْرِيفِ } مصدر صرف مضاف للمفعول والفاعل هو الله، أى: وتصريف الله الرياح. أو مضاف للفاعل والمفعول الحساب، أى: وتصريف الرياح السحاب.
وجاءت هذه الجملة الكريمة بعد إحياء الأرض بالمطر وبث الدواب فيها للتناسب بينهما، وتذكيراً بالسبب إذ بالرياح تكون حياة النبات والحيوان وكل دابة على الأرض، ولو أمسك - سبحانه - الرياح عن التصريف لما عاش كائن على ظهر الأرض.
{ وَٱلسَّحَابِ }: عطف على ما قبله، وهو اسم جنس واحد سحابة، سمى بذلك لانسحابه فى الجو أو لجر الرياح له.
و{ ٱلْمُسَخَّرِ }: من التسخير وهو التذليل والتيسير، ومعنى تسخيره - كما قال الآلوسى - أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضى صعوده إن كان لطيفاً وهبوطه إن كان كثيفا - و{ ٱلْمُسَخَّرِ } صفة للسحاب باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما فى قوله:
{ سَحَاباً ثِقَالاً } والظرف "بين" يجوز أن يكون منصوباً بقوله المسخر فيكون ظرفاً للتسخير، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر فى اسم المفعول فيتعلق بمحذوف أى: كائناً بين السماء والأرض.
وجاء ذكر السحاب بعد تصريف الرياح لأنها هى التى تثيره وتجمعه، وهى التى تسوقه إلى حيث ينزل مطراً فى الأماكن التى يريد الله إحياءها.
قال - تعالى -:
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } ولا شك أن هذا التصريف للرياح مع أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى، وهى مع ذلك فى غاية القوة بحيث تقلع الأشجار وتخرب الديار، وهذا التسخير للسحاب بحيث يبقى معلقاً بين السماء والأرض مع حمله للمياه العظيمة التى تسيل بها الأودية المتسعة... لا شك أن كل ذلك من أعظم الأدلة على أن لهذا الكون مدبراً قادراً حكيماً هو الله رب العالمين.
وقوله: { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } اسم { إِنَّ } لقوله - تعالى - فى أول الآية: { إِنَّ فى خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ودخلت اللام على الاسم وهو { لآيَاتٍ } لتأخره عن الخبر والتنكير للتعظيم والتفخيم كما وكيفاً.
أى: إن فيما ذكره الله من مخلوقاته العجيبة، وكائناته الباهرة، لدلائل ساطعة، وآيات واضحة ترشد من يعقلون ويتدبرون فيها، إلى أن لهذا الكون إلهاً واحداً قادراً حكيماً مستحقا للعبادة والخضوع والطاعة.
وموقع هذه الآية الكريمة من سابقتها كموقع الحجة من الدعوى، ذلك أن الله - تعالى - أخبر فى الآية السابقة أن الإِله واحد لا إله غيره وهى قضية قد تلفاها كثير من الناس بالإِنكار، فناسب أن يأتى فى هذه الآية الكريمة بالحجج والبراهين التى لا يسع الناظر فيها بتدبر وتفكير إلا التسليم عن اقتناع بوحدانية الله - تعالى - وقدرته.
قال الإِمام الرازى: واعلم أن النعم على قسمين: نعم دنيوية ونعم دينية وهذه الأمور الثمانية، التى عدها الله - تعالى - نعم دنيوية فى الظاهر، فإذا تفكر العاقل فيها، واستدل بها على معرفة الصانع، صارت نعما دينية، لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن، فلذلك قال: { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
وقال الآلوسى: أخرج ابن أبى الدنيا وابن مردويه عن عائشة - رضى الله عنها - أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال:
"ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" .
ثم قال الآلوسى: ومن تأمل فى تلك المخلوقات التى وردت فى هذه الآية وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده - تعالى - ووحدانيته وسائر صفاته الموجبة لتخصيص العبادة له، ومجمل القول فى ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه، مستنبعا لآثار معينة، وأحكام مخصوصة... وفى الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية، وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة.
والحق أن هذه الآية الكريمة قد اتجهت فى تثبيت عقيدة وحدانية الله وقدرته وألوهيته إلى تنبيه الحواس والمدارك والمشاعر إلى ما فى هذا الكون المشاهد المنظور من آيات ودلائل على حقية الخالق - عز وجل - بالعبادة.
وهذه الطريقة من تنبيه الحواس والمدارك جديرة بأن تفتح الأبصار والبصائر على عجائب هذا الكون، تلك العجائب التى أصبحت عند كثير من الناس شيئاً مألوفاً بسبب عدم تدبرهم لما فيها من عظات وعبر وصدق الله إذ يقول
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } ورحم الله القائل: ألا إن لله كتابين: كتاباً مخلوقاً وهو الكون، وكتاباً منزلا وهو القرآن. وإنما يرشدنا هذا إلى طريق بذاك بما أوتينا من العقل. فمن أطاع فهو من الفائزين، ومن أعرض فأولئك هم الخاسرون.
وبعد أن ذكر - سبحانه - جانباً من الآيات الدالة على ألوهيته ووحدانيته أردف ذلك ببيان حال المشركين، وما يكون منهم يوم القيامة من تدابر وتقاطع وتحسر على ما فرط منهم فقال - تعالى -:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً...وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ }.