التفاسير

< >
عرض

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
١٨٠
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٨١
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨٢
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى -: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } قد استفاض فى عرف الشرع بمعنى وجب عليكم.
و "حضور الموت" يقع عند معاينة الإِنسان للموت ولعجزه فى هذا الوقت عن الإِيصاء فسر بحضور أسبابه، وظهور أماراته، من نحو العلل المخوفة والهرم البالغ. وقد شاع عند العرب استعمال السبب كناية عن المسبب، ومن ذلك قول شاعرهم:

يأيها الراكب المزجى مطيتهسائل بنى أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسواقولا يبرئكم إنى أنا الموت

والخير: المال، وقالوا إنه هنا مختص بالمال الكثير، لأن مقام الوصية يشعر بذلك، ولم يرد نص من الشارع فى تقدير ما يسمى مالا كثيراً، وإنما وردت آثار من بعض الصحابة والتابعين فى تقديره بحسب اجتهادهم، وبالنظر إلى ما يسمى بحسب العرف مالا كثيراً فقال بعضهم: من ألف درهم إلى خمسمائة درهم، وقال بعضهم: من ألف درهم إلى ثمانمائة درهم. والحق أن هذا التقدير يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والعرف.
ويرى بعض العلماء أن الوصية مشروعة فى المال قليلة وكثيرة.
قال القرطبى: والوصية عبارة عن كل شىء يؤمر بفعله ويعهد به فى الحياة بعد الموت، وخصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية. والوصى يكون الموصى والموصى إليه. وأصله من وصى مخففاً. وتواصى النبت تواصياً إذا اتصل وأرض واصية: متصلة النبات. وأوصيت له بشىء. وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية والوصاية - بالفتح وبالكسر - وتواصى القوم: أوصى بعضهم بعضاً.
والمعنى: كتب عليكم أيها المؤمنون أنه إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت: من مرض ثقيل، أو شيخوخة مضعفة، وكان عنده مال كثير قد جمعه عن طريق حلال، أن يوصى بجانب منه لوالديه وأقاربه رعاية لحقهم وحاجتهم، وأن تكون وصيته لهم بالعدل الذى لا مضارة فيه بين الأقارب، والوصية على هذا الوجه تعتبر حقاً واجباً على المتقين الذين اتخذوا التقوى والخشية من الله طريفاً لهم.
فالآية الكريمة استئناف لبيان الوصية بعد الحديث عن القصاص، وفصل القرآن الحديث عن الوصية عن سابقه للإِشعار بأنه حكم مستقل جدير بالأهمية.
وقد جاء الحديث عن الوصية بتلك الطريقة الحكيمة، لتغيير ما كان من عادات بعض أهل الجاهلية. فإنهم كانوا كثيراً مانعون القريب من الإِرث توهما منهم أنه يتمنى موت قريبة ليرثه، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض فيؤدى ذلك إلى التباغض والتحاسد، وربما فضلوا - أيضاً - الوصية لغير الأقارب للفخر والتباهى. فشرع الإِسلام لأتباعه ما يقوى الروابط ويمنع التحاسد والتعادى.
قال الجمل: وكتب فعل ماض مبنى للمجهول، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله - تعالى - وفى القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون الوصية، أى: كتب عليكم الوصية، وجاز تذكير الفعل لكون القائم مقام الفاعل مؤنثاً مجازياً ولوجود الفصل بينه وبين مرفوعه.
والثانى: أنه الإِيصاء المدلول عليه بقوله: "الوصية" للوالدين، أى: كتب هو، أى الإِيصاء.
والثالث: أنه الجار والمجرور. وهذا يتجه على رأى الأخفش والكوفيين وعليه فيكون قوله: { عَلَيْكُمْ } فى محل رفع، ويكون فى محل النصب على القولين الأولين وجواب كل من { إِذَا } و { إِن } محذوف. أى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً فليوص.
والباء فى قوله: { بِٱلْمَعْرُوفِ } للملابسة، والجار والمجرور فى موضع الحال من الوصية.
والمراد بالمعروف هنا العدل الذى جاءت به الشريعة، بأن لا يتجاوز بالوصية الثلث، وأن لا يوصى للاغنياء ويترك الفقراء أو يوصى للقريب ويترك الأقرب مع أنه أشد فقراً ومسكنة.
وقوله: { حَقّاً } مصدر مؤكد للحدث الذى دل عليه { كُتِبَ } وعامله إما { كُتِبَ } أو فعل محذوف تقديره حق أى: حق ذلك حقاً.
وقوله: { عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } صفة له. أى حقاً كائناً على المتقين.
وخص هذا الحق بالمتقين ترغيباً فى الرضا به، لأن ما كان من شأن المتقى فهو أمر نفيس جدير أن يتأسى به الناس، ومن أهمله فقد حرم من الدخول فى زمرتهم، وخسر بذلك خسارة عظيمة.
قال بعض العلماء: وقد وردت هذه الآية فى الوصية للوالدين والأقربين، والمعروف عند الأمة منذ عهد السلف أن الوصية لا تصح لوارث، والوالدان لهما نصيب مفروض فى المواريث ومقتضاه عدم صحة الوصية لهما؟
ويريح هذا الاشكال من طريق التفسير أن فريقاً من أهل العلم وهم جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن الآية قد نسخ منها حكم الوصية للوارث. وإيضاح وجه النسخ أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية فقامت مقامها فى الوصية للوارث ودل على هذا المعنى صراحة الحديث الشريف وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله أعطى كل ذى حق حقه، ألا لا وصية لوارث" .
وهذا الحديث وإن لم يبلغ مبلغ الحديث المتواتر الذى يصح نسخه للقرآن بنفسه، فقد امتاز عن بقية أخبار الآحاد بأن الأمة تلقته بالقبول، وأخذوا فى العمل به من غير مخالف، فأخذ بهذا قوة الحديث المتواتر فى الرواية واعتمدوا عليه فى بيان أن آية المواريث قامت بتقدير الأنصباء فى الميراث مقام آية { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } فى الوصية للوارث. وروى البخارى فى صحيحه عن ابن عباس - رضى الله عنه - قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر الربع.
ومن أهل العلم من لم يستطيعوا أن يهملوا حديث "لا وصية لوارث" لاستفاضته بين الأمة وتلقيهم له بالقبول، فقرروا العمل به وأبطلوا الوصية لوارث ولكنهم ذهبوا مع هذا إلى أن آية الوصية للوالدين محكمة غير منسوخة وتأولوها على وجوه منها أن المراد من قوله: { لِلْوَالِدَيْنِ } الوالدان اللذان لا يرثان لمانع من الإِرث كالكفر والاسترقاق، وقد كانوا حيثى عهد بالإِسلام يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقد أوصى الله بالإِحسان إليهما".
ثم توعد - سبحانه - من يبدل الوصية بطريقة لم يأذن بها الله فقال - تعالى -: { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ }.
بدله: غيره. وتغيير الوصية يتأتى بالزيادة فى الموصى به أو النقص منه أو كتمانه، أو غير ذلك من وجوه التغيير للموصى به بعد وفاة الموصى.
سمعه: أى علمه وتحققه، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله. والضمائر البارزة فى "بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه" عائدة على القول أو على الكلام الذى يقوله الموصى والذى دل عليه لفظ الوصية أو على الإِيصاء المفهوم من الوصية، وهو الإِيصاء أو القول الواقع على الوجه الذى شرعه الله.
والمعنى: فمن غير الإِيصاء الذى أوصى به المتوفى عن وجهه، بعدما علمه وتحققه منه، فإنما إثم ذلك التغيير فى الإيصاء يقع على عاتق هذا المبدل، لأنه بهذا التبديل قد خان الأمانة، وخالف شريعة الله، ولن يلحق الموصى شيئاً من الإِثم لأنه قد أدى ما عليه بفعله للوصية كما يريدها الله - تعالى -.
وقد ختمت الآية بقوله - تعالى -: { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } للإِشعار بالوعيد الشديد الذى توعد الله به كل من غير وبدل هذا الحق عن وجهه، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شىء من حيل الناس الباطلة، فهو - سبحانه سميع لوصية الموصى، عليه بما يقع فيها من تبديل وتحريف.
ثم استثنى - سبحانه - حالة يجوز فيها التغيير فقال، { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ }.
خاف: من الخوف، وهو فى الأصل حالة تعترى النفس عند الانقباض من شر يتوقع حصوله على سبيل الظن أو على سبيل العلم.
والجنف: الميل والجور. يقال: جنف فى وصيته وأجنف، مال وجار، فهو جنف وأجنف. وقيل: أجنف مختص بالوصية وجنف فى مطلق الميل عن الحق. ويقال: جنف وجنف عن طريقه جنفاً وجنوفاً.
والإِثم: العمل الذى يبغضه الله. يقال: أثم فهو آثم وأثيم.
قال بعضهم: والمراد بالجنف هنا: الميل عن الحق فى الوصية خطأ، بقرينة مقابلته بالإِثم وهو الميل عن الحق فيها عمداً.
هذا، ويرى جمهور العلماء أن هذه الآية الكريمة واردة فى الوصى يرى أن الموصِى قد حاد فى وصيته عن حدود العدل، فللوصى حينئذ أن يصلح فيها بحيث يجعلها متفقة مع ما شرعه الله، وهو فى هذه الحالة لا إثم عليه لأنه قد غير الباطل بالحق وعلى هذا الرأى يكون المعنى: أن الوصى إذا رأى فى الوصية ميلا عن الحق خطأ أو عمداً وأصلح بين الموصَى لهم يردهم إلى الوجه المشروع فلا إثم عليه فى التغيير فى الوصية. والضمير فى قوله: { بَيْنَهُمْ } عائد على الموصَى لهم.
ويرى آخرون أن هذه الآية واردة فى شأن كل من يبغى الإِصلاح من الناس، بأن يرى الموصِى يوصِى، فظهر له - أى هذا المصلح - أن الموصِى قد جانب العدل والصواب فى وصيته، فيأخذ فى الإِصلاح، بأن يرشده بأن فعله هذا لا يتفق مع شريعة العدل التى أمر بها الله، ويحاول قدر استطاعته أن يزيل ما حدث من خلاف بين الموصِى والموصَى لهم.
وعلى هذا الرأى يكون المعنى: إن خرج الموصِى فى وصيته عن حدود العدالة، ورأى أمارات ذلك منه من يريد الإِصلاح من الناس، وتوقع أن شراً سيترتب على هذه الوصية التى فيها جور، أو شاهد نزاعاً بين الموصى لهم بسبب ذلك، فلا إثم على هذا المصلح فى أن يصلح بين الموصِى والموصَى لهم، وأن يرشد الموصى إلى سلوك طريق العدل والحق. وعليه فيكون الضمير فى قوله: { بَيْنَهُمْ } يعود على الموصى والموصَى لهم.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأن سياق الآية يؤيده، إذ هى بمنزلة الاستثناء من قوله - تعالى -: { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ }.. وهذا إنما يكون بعد موت الموصِى لا فى حياته.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل أتى به - سبحانه - للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه، فإن من يغفر الذنوب ويرحم المذنبين تكون مغفرته ورحمته أقرب إلى من يقصد بعمله الإِصلاح ولو اعتمد على ظن غالب أو أخطأ وجه الصواب فيما أتى من أعمال.
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد بينت للناس حكما آخر من أحكامها السامية، يتعلق بالوصية فى الأموال، وفى هذا الحكم دعوة إلى التراحم والتكافل، وغرس لأواصر المودة والمحبة بين الأبناء والآباء وبين الأقارب بعضهم مع بعض.
وبعد أن تحدثت السورة الكريمة عن القصاص وعن الوصية أتبعتها بالحديث عن عبادة عظيمة من العبادات التى جعلها الله - تعالى - ركناً من أركان الإِسلام وهى صوم رمضان، فقال - سبحانه -:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ...وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.