التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٨٣
أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٤
شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٨٥
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الصيام مصدر صام كالقيام مصدر قام، وهو فى اللغة: الإِمساك وترك التنقل من حال إلى حال، فيقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ومنه قوله - تعالى - مخبراً عن مريم: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } أى: سكوتاً عن الكلام. وصوم الريح ركودها وإمساكها عن الهبوب وتقول العرب: صام النهار وصامت الشمس عند قيام الظهيرة لأنها كالممسكة عن الحركة.
أما الصيام فى عرف الشرع فهو - كما يقول الآلوسى - إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص فى زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة.
وقد فرض الله - تعالى - على المسلمين صيام شهر رمضان فى شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة، وعده النبى صلى الله عليه وسلم أحد أركان الإِسلام الخمسة، فقد روى البخارى - بسنده - عن ابن عمر - رضى الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"بنى الإِسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" .
وأل فى الصيام للعهد الذهنى، فقد كان العرب يعرفون الصوم، فقد جاء فى الصحيحين "عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش والجاهلية" .
والتشبيه فى قوله - تعالى -: { كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } راجع إلى أصل إيجاب الصوم وفريضته. أى: أن عبادة الصوم كانت مكتوبة ومفروضة على الأمم السابقة، ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الله، إذ لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه كيف كان صيام الأمم السابقة على الأمة الإِسلامية.
وقيل إن التشبيه راجع إلى وقت الصوم وقدره، فقد روى عن مجاهد أنه قال: كتب الله - عز وجل - صوم شهر رمضان على كل أمة.
وهذا القول ليس له دليل، ولذا قال القاضى أبو بكر بن العربى: المقطوع به أن التشبيه فى الفرضية خاصة، وسائر الوجوه مجرد احتمال.
ولفظ "كما" فى قوله - تعالى -: { كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } فى موضع نصب على المصدر، أى: فرض عليكم الصيام فرضاً كالذى فرض على الذين من قبلكم.
ومن فوائد هذا التشبيه، الاهتمام بهذه العبادة والتنويه بشأنها إذ شرعها - سبحانه - لأتباع النبى صلى الله عليه وسلم ولأتباع الرسل الذين سبقوه فى الدعوة إلى توحيد الله، وهذا مما يقتضى وفرة ثوابها، ودوام صلاحها.
كذلك من فوائده تسهيل هذه العبادة على المسلمين؛ لأن الشىء الشاق تخف مشقته على الإِنسان عند ما يعلم أن غيره قد أداه من قبله.
والفائدة الثالثة من هذا التشبيه إثارة العزائم والهمم للنهوض بهذه العبادة، حتى لا يكونوا مقصرين فى أدائها، بل يجب عليهم أن يؤدوها بقوة تفوق من سبقهم لأن الأمة الإِسلامية قد وصفها سبحانه بأنها خير أمة أخرجت للناس وهذه الخيرية تقتضى منهم النشاط فيما كلفهم الله بأدائه من عبادات.
وقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } جملة تعليلة جىء بها لبيان حكمة مشروعية الصيام فكأنه - سبحانه - يقول لعباده المؤمنين: فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله، وبذلك تكونون ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه. ولا شك أن هذه الفريضة ترتفع بصاحبها إلى أعلى عليين متى أداها بآدابها وشروطها، ويكفى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال فى شأن الصوم:
"الصوم جنة" أى: وقاية. إذ فى الصوم وقاية من الوقوع فى المعاصى، ووقاية من عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأمراض الناشئة عن الإِفراط فى تناول بعض الأطعمة والأشربة.
وقوله: { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أى: معينات بالعد أو قليلات، لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافاً.
والمراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان عند جمهور العلماء.
قالوا: وتقريره أنه - تعالى - قال أولا { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } وهذا محتمل ليوم ويومين ثم بينه بقوله :{ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } فزال بعض الاحتمال ثم بينه بقوله: { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره.
وإنما عبر عن رمضان بأيام وهى جمع قلة ووصف بمعدودات وهى جمع قلة - أيضاً - تهوينا لأمره على المكلفين، وإشعاراً لهم بأن الله - تعالى - ما فرض عليهم إلا ما هو فى وسعهم وقدرتهم.
وقيل: إن المراد بالأيام المعدودات غير رمضان، وذكروا أن المراد بها ثلاثة أيام من كل شهر وهى الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر مضافاً إليها يوم عاشوراء. ثم نسخ ذلك بوجوب صوم شهر رمضان.
والمعتمد بين المحققين من العلماء هو القول الأول، لأنه - كما قال الإِمام الرازى - لا وجه لحمله على غيره، والقول بالنسخ زيادة لا دليل عليها.
وقوله: { أَيَّاماً } منصوب على الظرفية، أو بفعل مضمر مقدر أى: صوموا أياماً. وقوله: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } زيادة بيان ليسر شريعة الإِسلام بعد أن أخبرهم - سبحانه - بأن الصوم المفروض عليهم إنما هو أيام معدودات، وتعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم فى كل حال.
والمرض: الخروج عن الاعتدال الخاص بالإِنسان، بأن يصاب بانحراف فى جسده يجعله فى حالة وجع أو اضطراب بدنى.
قال القرطبى: وللمريض حالتان:
إحداهما: ألا يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجباً.
الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة فهذا يستحب له الفطر.. فالفطر مباح فى كل مرض إلا المرض اليسير الذى لا كلفة معه فى الصيام.
وقوله: { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } قال الآلوسى معناه: أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه، بأن اشتغل به قبل الفجر، ففيه إيماء إلى أن من سافر فى أثناء اليوم لم يفطر. واستدل بإطلاق السفر على أن السفر القصير وسفر المعصية مرخص للإِفطار. وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وبما يلزمه العسر غالباً وهو السفر إلى المسافة المقدرة فى الشرع".
والعدة فعلة من العد، وهى بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون ومنه عدة المرأة.
والمعنى: لقد فرضنا عليكم الصوم أيها المؤمنون، وجعلناه كما هو الشأن من كل ما شرعناه متسماً باليسر لا بالعسر، ومن مظاهر ذلك أننا فرضنا عليكم صوم أيام معدودات وهى أيام شهر رمضان، ولم نفرض عليكم صوم الدهر. وأننا شرعنا لمن كان مريضاً مرضا يضره الصوم أو يعسر معه، أو كان على سفر يشق عليه معه الصوم، شرعنا له أن يفطر وأن يصوم بدل الأيام التى أفطرها أياما آخر مساوية لها فى العدد.
قال الإِمام الرازى: قال القفال: أنظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته فى هذا التكليف، إذ أنه بين فى أول الآية أن لهذه الأمة فى هذا التكليف أسوة بالأمم المتقدمة، والغرض منه ما ذكرناه من أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت. ثم ثانيا بين وجه الحكمة فى إيجاب الصوم وهو أنه سبب الحصول التقوى فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف، ثم بين ثالثا أنه مختص بأيام معدودة فإنه لو جعله أبداً أو أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة. ثم بين رابعا: أنه خصه من الأوقات بالشهر الذى أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة. ثم بين خامساً: إزالة المشقة فى إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون. فهو - سبحانه - راعى فى ايجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيراً".
هذا، وقد نص الفقهاء على أن الافطار مشروع على سبيل الرخصة للمريض والمسافر، وهما بالخيار فى ذلك إن شاءا أفطرا وإن شاءا صاما، إلا أن أكثر الفقهاء قالوا: الصوم أفضل لمن قوى عليه.
والذى نراه الله - تعالى - قد أباح الفطر فى رمضان بسبب المرض أو السفر، لأن كلا منهما مظنة المشقة والحرج. والحكم الشرعى يوجد حيث توجد مظنته وينتفى حيث تنتفى. وعلى المسلم أن يقدر حال نفسه، فإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره ليس فى الصوم معه مشقة أو عسر صام عملا بقوله - تعالى - { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ }. وإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره يجعل الصوم شاقاً عليه أفطر عملا بقوله - تعالى -: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } فالمسألة ترجع إلى ضمير الفرد ودينه واستفتاء قلبه.
والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صام فى السفر وأفطر، وخير بعض أصحابه بين الصوم والفطر. فقد روى البخارى ومسلم عن أبى الدرداء - رضى الله عنه - قال: خرجنا مع النبى صلى الله عليه وسلم "وفى إحدى روايتى مسلم - فى شهر رمضان -، فى يوم حار، حتى ليضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبى صلى الله عليه وسلم وابن رواحه".
وروى الإِمام مسلم فى صحيحه
"عن قزعة قال: أتيت أبا سعيد الخدرى فسألته عن الصوم فى السفر فقال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة. فمنا من صام ومنا من أفطر. ثم نزلنا منزلا آخر فقال: إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا. وكانت عزمة فأفطرنا. ثم قال: ولقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك من السفر" .
وروى الشيخان عن أنس بن مالك قال: كنا نسافر مع النبى صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة.
وهناك مسألة أخرى تعرض لها الفقهاء بالحديث وهى مسألة قضاء الأيام التى أفطرها المريض أو المسافر هل يقضيها متتابعة أو متفرقة وهل يقضيها على الفور أو على التراخى؟
وجمهور الفقهاء على أن للمفطر فى رمضان بسبب المرض أو السفر أن يقضى ما أفطره متتابعاً أو متفرقاً؛ لأن قوله - تعالى -: { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }. دل على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان، لأن اللفظ - كما قال القرطبى - مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض.
وله كذلك أن يقضى ما عليه على الفور أو على التراخى على حسب ما يتيسر له. ففى الصحيحين عن عائشة - رضى الله عنها - قالت: يكون علىَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا فى شعبان، وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا نص وزيادة بيان للآية".
ويرى داود الظاهرى أن على المفطر فى رمضان بسبب المرض أو السفر أن يشرع فى قضاء ما أفطره فى اليوم الثانى من شوال المعاقب له، وأن يتابع أيام القضاء.
والمعتمد بين العلماء هو قول الجمهور لقوة أدلته التى سبق بيانها.
وقوله - تعالى -: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } بيان لحكم آخر من أحكام الشريعة فيما يتعلق بصوم رمضان يتجلى فيه تيسير الله على عباده فيما شرع لهم من عبادات.
ومعنى { يُطِيقُونَهُ } يقدرون عليه ويتحملونه بمشقة وتعب، لأن الطاقة اسم للقدرة على الشىء مع الشدة والمشقة، والوسع اسم للقدرة على الشىء على جهة السهولة.
قال الراغب: والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإِنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشىء، ومنه
{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أى ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه: "لا تحملنا ما لا قدرة لنا به".
والعرب لا تقول فلان أطاق الشىء إلا إذا كانت قدرته عليه فى نهاية الضعف بحيث يتحمله بمشقة وعسر. فلا يقال - مثلا - فلان يطيق حمل نواة أو ريشة أو عشرة دراهم من حديد، وإنما يقال: هو يطيق حمل قنطارين من الحديد أو حمل الأمتعة الثقيلة.
وللعلماء أقوال فى المراد بقوله - تعالى -: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } أشهرها:
1 - إن هذا راجع إلى المقيم الصحيح خيره الله - تعالى - بين الصوم وبين الفداء، وكان ذلك فى بدء الإِسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم، فرخص لهم فى الإِقطار والفدية، ثم نسخ ذلك وأوجب الله عليهم الصوم.
ويشهد لهذا القول ما جاء فى الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يفطر ويفتدى، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها.
وفى رواية للإِمام مسلم من طريق آخر عن سلمة - أيضاً - قال: كنا فى رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }.
2 - ويرى بعض العلماء أن قوله - تعالى -: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } إلخ، ليس بمنسوخ بل هو محكم، وأنه نزل فى شأن الشيخ الكبير الهرم، والمرأة العجوز، إذا كانا لا يستطيعان الصيام فعليهما أن يفطرا وأن يطعما عن كل يوم مسكينا.
وأصحاب هذا الرأى يستدلون بما رواه البخارى عن ابن عباس أنه قال فى هذه الآية: ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فعليها أن يطعما مكان كل يوم مسكيناً".
3 - وهناك رأى ثالث لبعض العلماء يرى أصحابه أن قوله - تعالى - { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ليس بمنسوخ - أيضاً - بل هو محكم، وأن معنى الآية عندهم: وعلى الذين يطيقونه، أى: يقدرون على الصيام بمشقة شديدة إذا أرادوا أن يفطروا أن يطعموا عن كل يوم يفطرونه مسكيناً. (بأن يقدموا له نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير، أو قيمة ذلك).
ولم يقصروا ذلك على الرجل الكبير والمرأة العجوز - كما فعل أصحاب الرأى الثانى - وإنما أدخلوا فى حكم الذين يقدرون على الصوم بمشقة وتعب المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ومن فى حكمها ممن يشق عليهم الصوم مشقة كبيرة.
وأصحاب هذا الرأى يستدلون على ما ذهبوا إليه بمنطوق الآية، إذا أن الوسع اسم للقدرة على الشىء على جهة السهولة، والطاقة اسم للقدرة عليه مع الشدة والمشقة - كما سبق أن بينا -، كما يستدلون - أيضاً - على ما ذهبوا إليه بقراءة { يُطِيقُونَهُ } - بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية - أى يتجشمونه، ويتكلفونه بمشقة وتعب، وقد انتصر بعض العلماء لهذا الرأى بناء على أن منطوق الآية يؤيده.
كما انتصر بعضهم للرأى الأول بناء على أن الاحاديث الصحيحة تسانده وعلى أنه هو الأقرب إلى روح الشريعة الإِسلامية فى التدرج فى تشريع التكاليف التى فيها مشقة على الناس، كما انتصر بعضهم للرأى الثانى الذى روى عن ابن عباس.
وهناك أقوال أخرى فى الآية رأينا أن نضرب عنها صفحاً لضعفها.
وقوله: { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } حض من الله - تعالى - لعباده على الإِكثار من عمل الخير.
والتطوع: السعى فى أن يكون الإِنسان فاعلا للطاعة باختياره بدون إكراه والخير: مصدر خار إذا حسن وشرف، وهو منصوب لتضمين تطوع معنى أتى، أو على أنه صفة لمصدر محذوف أى تطوعاً خيراً.
والمعنى: فمن تطوع خيراً بأن زاد على القدر المفروض فى الفدية، أو أطعم أكثر من مسكين، أو جمع بين الإِطعام والصوم، فتطوعه سيكون خيراً عند الله - سبحانه - لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وقوله: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ترغيب فى الصوم وتحبيب فيه. أى: وأن تصوموا أيها المطيقون للصوم، أو أيها المكلفون جميعاً خير لكم من كل شىء سواه، إن كنتم تعلمون فوائد الصوم فى حياتكم، وحسن جزائه فى آخرتكم.
روى النسائى وابن خزيمة عن أبى أمامه رضى الله عنه قال:
" "قلت يا رسول الله مرنى بعمل قال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له - أى لا يعادل ثوابه بشىء - فقلت يا رسول الله مرنى بعمل، فقال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له. فقلت: يا رسول الله مرنى بعمل أدخل به الجنة. فقال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له" .
وقوله: { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ } كلام مستأنف لبيان تلك الأيام المعدودات التى كتب علينا الصوم فيها وأنها أيام شهر رمضان الذى يستحق كل مدح وثناء لتشرفه بنزول الكتب السماوية فيه.
قال الإِمام ابن كثير: يمدح - تعالى - شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإِنزال القرآن العظيم، فقد ورد فى الحديث بأنه الشهر الذى كانت الكتب الإِلهية تنزل فيه على الأنبياء فعن وائلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أنزلت صحف إبراهيم فى أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإِنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" .
و{ الشَّهْرَ } مأخوذ من الشهرة، يقال: شهر الشىء يشهر شهرة وشهراً إذا ظهر بحيث لا يتعذر علمه على أحد، ومنه يقال: شهرت السيف إذا سللته قال بعضهم: وسمى الهلال شهراً لشهرته وبيانه، وبه سمى الشهر شهراً.
و{ رَمَضَانَ } اسم لهذا الشهر الذى فرض علينا صيامه، وهو مأخوذ - كما قال القرطبى - من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش والرمضاء: شدة الحر، ومنه الحديث:
" "صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال" - أى صلاة الضحى - قيل: إن العرب لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التى وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمى بذلك. وقيل إنما سمى رمضان لأنه يرمض الذنوب، أى: يحرقها بالأعمال الصالحة".
وقوله: { شَهْرُ رَمَضَانَ } خبر لمبتدأ محذوف تقديره هى شهر رمضان أى: الأيام المعدودات، وقوله: { ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } صفة للشهر.
ويجوز أن يكون قوله { شَهْرُ } مبتدأ وخبره الموصول بعده، أو خبره قوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وصح وجود الفاء فى الخبر لكون المبتدأ موصوفاً بالموصول الذى هو شبه بالشرط. وقرئ بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف. أى: صوموا شهر رمضان.
و "القرآن" هو كلام الله المعجز المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب فى المصاحف المنقول بالتواتر المتعبد بتلاوته.
والمراد بإنزال القرآن فى شهر رمضان إبتداء إنزاله فيه، وكان ذلك فى ليلة القدر. بدليل قوله - تعالى -
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } أى بدأنا إنزال القرآن فى هذه الليلة المباركة، إذ من المعروف أن القرآن استمر نزوله على النبى صلى الله عليه وسلم ما يقرب من ثلاثة وعشرين سنة.
وقيل المراد بذلك، انزل فى فضله القرآن، قالوا: ومثله أن يقال: أنزل الله فى أبى بكر الصديق كذا آية، يريدون أنزل فى فضله.
وقيل المراد أنزل فى إيجاب صومه على الخلق القرآن، كما يقال: أنزل الله فى الزكاة كذا وكذا، يريد فى إيجابها وأنزل فى الخمر كذا يريد فى تحريمها.
قال الآلوسى: وقوله - تعالى -: { هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ } حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل. أى: أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير، وآيات واضحات من جملة الكتب الإِلهية الهادية إلى الحق والفارقة بين الحق والباطل باشتماله على المعارف الإِلهية والأحكام العملية، كما يشعر بذلك جعله بينات منها، فهو هاد بواسطة أمرين، مختص وغير مختص، فالهدى ليس مكرراً، وقيل: مكرر تنويهاً وتعظيماً لأمره وتأكيداً لمعنى الهداية كما تقول: عالم نحرير".
وقوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يصح أن يكون شهد بمعنى حضر. كما يقال: فلان شهد بدراً، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أى: حضرها، فيكون المعنى: فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن كان مقيما وليس عنده ما يمنعه من الصوم كمرض ونحوه، فليصمه؛ لأن صيامه ركن من أركان الدين، وعليه يكون لفظ "الشهر" منصوب على الظرفية.
ويصح أن يكون شهد بمعنى علم كقوله - تعالى -
{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } فيكون المعنى: فمن علم منكم هلال الشهر وتيقن من ظهوره فليصمه.
وعليه يكون لفظ "الشهر" منصوب على أنه مفعول به بتقدير المضاف المحذوف و { مَن } موصولة أو شرطية وهو الأظهر و { مِنكُمُ } فى محل نصب على الحال من الضمير فى شهد فيتعلق بمحذوف أى: كائناً منكم. والضمير فى "منكم" يعود على الذين آمنوا، أى كل من حضر منكم الشهر فليصمه و (أل) فى الشهر للعهد.
وأعيد ذكر الرخصة فى قوله - تعالى - ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر، لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم فى نفسه وأنه خير، أنه قد صار متحتماً بحيث لا تتناوله الرخصة بوجه من الوجوه أو تتناوله ولكنها مفضولة، وفى ذلك عناية بأمر الرخصة وأنها محبوبة له - تعالى -.
وقوله - تعالى -: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } بيان لحكمة الرخصة.
أى: شرع لكم - سبحانه - الفطر فى حالتى المرض والسفر، لأنه يريد بكم اليسر والسهولة. ولا يريد بكم العسر والمشقة. قال - تعالى -:
{ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } وقال - تعالى -: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وفى الصحيحين " "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وأبى موسى الأشعرى حين بعثهما إلى اليمن: يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا" .
وقوله - تعالى -: { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } معطوف على قوله: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } إذ هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } إلى قوله: { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.
والمعنى: شرع لكم - سبحانه - ما شرع من أحكام الصيام، ورخص لكم الفطر فى حالتى المرض والسفر، لأنه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولأنه يريد منكم أن تكملوا عدة الشهر بأن تصوموا أيامه كاملة فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شىء من بركاته، ومن لم يستطع منكم أداء الصوم فى هذا الشهر لعذر فعليه قضاء ما فاته منه فى أيام أخر ويريد منكم أن تكبروه - سبحانه - أى تحدوه وتعظموه، فهو وحده الذى هداكم إلى تلك الأحكام النافعة التى فى صلاحكم وسعادتكم ويريد منكم أن تشكروه بأن تواظبوا على الثناء عليه، وعلى استعمال نعمه فما خلقت له فهو - سبحانه - الرءوف الرحيم بعباده، إذ شرع لهم فيه اليسر لا ما فيه العسر.
وقد دلت الآية الكريمة على الأمر بالتكبير إذ جعلته مما يريده الله - تعالى - ولهذا جاءت السنة باستحباب التحميد والتسبيح والتكبير بعد الصلوات المكتوبات، وفى عيدى الفطر والأضحى يكون تكبير الله - تعالى - هو مظهرهما الأعظم.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت أكمل بيان وأحكمه فضل الصوم، وحكمة مشروعيته ومظاهر رحمة الله بعباده فى هذه الفريضة، وقد ذكرت أن المسلم له بشأن هذه الفريضة حالة من حالات ثلاث:
الحالة الأولى: إذا كان المسلم فى شهر رمضان كله أو بعضه مريضاً بمرض عارض غير مزمن يرجى الشفاء منه، أو مسافراً تتوفر فيه شروط الفطر، فله أن يفطر وأن يقضى بعد رمضان الأيام التى أفطرها بدليل قوله - تعالى -: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.
الحالة الثانية: إذا كان المسلم فى شهر رمضان مريضاً بمرض مزمن لا يرجى شفاؤه والصوم فيه مشقة عليه، أو كان شيخاً كبيراً أو امرأة عجوزاً ولا يستطيعان الصوم، فقد أباح الشارع لهؤلاء أن يفطروا وأن يطعموا عن كل يوم مسكيناً، لأن هذه الأعذار لا يرجى زوالها، ولا ينتظر أن يكون المبتلى بعذر منها بعد رمضان خيراً منه فى رمضان، لذا أوجب الشارع على هؤلاء الفدية دون القضاء، بدليل قوله - تعالى -: { وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }.
الحالة الثالثة: إذا كان المسلم فى شهر رمضان سليما مقيما وليس عنده عذر يمنعه من الصوم، فقد أوجب الله عليه أداء هذه الفريضة بقوله - تعالى -: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ويحرم عليه أن يفطر، وإن أفطر لغير عذر شرعى كان من الخاسرين فى الدنيا والآخرة، ففى الحديث الشريف الذى رواه الترمذى والنسائى وابن ماجه عن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه - أى لم يجزه - صوم الدهر كله وإن صامه" .
أى: لو حصل منه صوم طول حياته فلن يدرك ثواب ما ضيع بسبب فطره بغير عذر شرعى.
والأحاديث فى الترغيب فى صوم شهر رمضان، وفى الترهيب من الفطر فيه كثيرة متنوعة.
ثم بين - سبحانه - أن العباد إذا حافظوا على فرائضه، واستجابوا لأوامره، وابتعدوا عن نواهيه، فإنه - عز وجل - لا يرد لهم طلباً ولا يخيب لهم رجاء فقال:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ... }.