التفاسير

< >
عرض

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
١٧
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ
١٨
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ
١٩
يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله تعالى: { مَثَلُهُمْ } أى: صفتهم، وأصل المثل بمعنى المثل - بكسر الميم وسكون الثاء - والمثل النظير والشبيه، ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب فيه - لمورده الذى ورد فيه أولا، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شان عجيب وفيها غرابة، وعلى هذا المعنى يحمل المثل فى هذه الآية.
وإنما تضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفى وتقريب المعقول من المحسوس، وعرض الغائب فى صورة الشاهد، فيكون المعنى الذى ضرب له المثل أوقع فى القلوب، وأثبت فى النفوس.
واستوقد النار: طلب وقودها بسطوع نارها واندلاع لهيبها، أو أوقدها لأن أوقد واستوقد قد يكونان بمعنى واحد كأجاب واستجاب.
والنار: جوهر لطيف حار محرق من نار ينور إذا نفر لحركتها واضطرابها، وأضاءت ما حوله: جعلت ما حوله مضيئاً، أو أشرقت فيما حوله. وحول الشىء: ما يحيط به من جميع نواحيه، ولذا قيل للعام حول، للفه ودورانه حتى يعود كما كان.
والنور: الضوء الذى يكون للشىء المضىء، وهو مأخوذ من النار.
ومعنى: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } سلبه منهم، وفى إسناد ذهب إلى الله تعالى - إشعار بأن النور الذى سلب عنهم لن يستطيع أحد أن يرده عليهم، لأن الذى سلبه عنهم إنما هو الله الغالب على أمره.
وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنارهم، لأن إيقاد النار يكون للإِضاءة وللإِحراق والمقصود من إيقاد النار الواردة فى المثل إنما هو الإِضاءة.
وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنوره، مع أن الضمير يعود على { ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ } وهو بحسب الظاهر مفرد، لأن { ٱلَّذِي } قد يطلق أحيانا بمعنى الذين، كما فى قوله تعالى:
{ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤا } أو لأن { ٱلَّذِي } أريد منه جنس المستوقد، لا مستوقد بعينه، فصار فى معنى جماعة من المستوقدين. وصح أن يعود عليه ضمير الجمع فى قوله { بِنُورِهِمْ } لذلك.
وأورد الظلمات بصيغة الجمع للمبالغة فى شدتها، فكأنها لشدة كثافتها ظلمات بعضها فوق بعض، وأكد هذا بقوله { لاَّ يُبْصِرُونَ } أى: أن هذه الظلمات بالغة فى الشدة حتى أولئك المحاطين بها لا يتأتى لهم أن يبصروا، كما أن الشان كذلك بالنسبة للذين طمس على أعينهم.
وعبر - سبحانه - بقوله: { وَتَرَكَهُمْ } ولم يقل: ذهب بنورهم وبقوا فى ظلمات، ليدل بذلك على قطع الصلة بينهم وبين ربهم، وأنهم متروكون غضباً عليهم ونكاية بهم.
هذا، وللعلماء رأيان فى تطبيق هذا المثل على المنافقين، أما الرأى الأول فيرى أصحابه، أن هذا المثل قد ضرب فى قوم دخلوا فى الإِسلام عند وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم تحولوا بعد ذلك إلى الكفر والنفاق فيقال فى تطبيق هذا المثل عليهم: إن قصة هؤلاء المنافقين الذين اكتسبوا بإيمانهم نوراً، ثم أبطلوا ذلك بنفاقهم، ووقعوا فى حيرة عظيمة، كقصة من استوقدوا ناراً؛ فلما أضاءت ما حولهم، سلب الله منهم الضوء فراحوا فى ظلام لا يهتدون إلى الخروج منه سبيلا.
وأما الرأى الثانى فيرى أصحابه أن هذا المثل إنما ضرب فى قوم لم يسبق لهم إيمان وإنما دخلوا فى الإِسلام من أول أمرهم نفاقاً، فيقال فى تطبيق هذا المثل عليهم: إن قصة هؤلاء الذين دخلوا فى الإِسلام نفاقاً، فظفروا بحقن دمائهم وبغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين، وتمتعوا بذلك فى الدنيا قليلا ثم صاروا إلى ظلمات العذاب الدائم فى الآخرة - قصة هؤلاء كقصة من استوقدوا نارا لتضىء لهم وينتفعوا بها، فأضاءت ما حولهم قليلا، ثم طفئت وصاروا إلى ظلمة شديدة مطبقة.
ثم قال - تعالى - : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }.
قال القرطبى: والصمم فى كلام العرب: الانسداد، يقال: قناة صماء إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة إذا سددتها. فالأصم من انسدت خروق مسامعه. والأبكم الذى لا ينطق ولا يفهم، والعمى ذهاب البصر. وليس الغرض مما ذكرناه نفى الإِدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة ما.
والآية الكريمة خبر لضمير مقدر يعود على المنافقين، أى: هم صم بكم عمى.
ووصف المنافقون بهذه الصفات لأنهم وإن كانت لهم آذان تسمع، وألسنة تنطق، وأعين تبصر، إلا أنهم لا يسمعون خيراً. ولا يتكلمون بما ينفعهم ولا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية، ومن كان كذلك كان هو ومن فقد حواسه سواء، فقد صرف الله عنهم عنايته ووكلهم إلى أنفسهم.
ووردت هذه الصفات مجردة من حرف العطف، فلم يقل: صم وبكم وعمى، لما عرف من استعمالات البلغاء. أن تجريد أمثال هذه الأوصاف من حرف العطف يفيد تأكيدها، حيث إن المتكلم قد قصد إلى تقرير كل صفة منها على حدة.
ومعنى { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }، لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو لا يرجعون عن الضلالة بعد أن اشتروها.
والفاء فى قوله - تعالى - { فَهُمْ } للتفريع أو التسبيب، لأنها توحى بأن عدم رجوعهم عما هم فيه من النفاق متفرع على تلك الآفات، ومسبب عن هذه العاهات.
ثم ساق - سبحانه - المثل الثانى فقال: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ }. "أو" للتسوية بين الشيئين وهى مفيدة أن التمثيل بأيهما أو بمجموعهما يؤدى إلى المقصود، فهى مانعة خلو مجوزة للجمع بينهما.
و(الصيب) - كسيد - المطر، من الصوب وهو النزول. يقال: صاب صوباً، إذا نزل أو انحدر، سمى به المطر لنزوله، وفى الجملة الكريمة إيجاز بحذف ما دل عليه المقام دلالة واضحة. والتقدير: أو كمثل ذوى صيب. والمعنى أن قصة هؤلاء المنافقين مشبهة بقصة الذى استوقد ناراً، أو بقصة ذوى صيب.
والسماء: كل ما علاك من سقف ونحوه، والمراد بها السحاب.
والرعد: الصوت الذى يسمع بسبب اصطدام سحابتين محملتين بشحنتين كهربيتين أحداهما موجبة والأخرى سالبة.
والبرق: هو الضوء الذى يحدث بسبب الاصطدام ذاته.
وإيراد هذه الألفاظ بصفة التنكير للتهويل، ويكون المعنى: أو أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل قوم نزل بهم المطر من السماء تصحبه ظلمات كأنها سواد الليل، ورعد يصم الآذان، وبرق يخطف الأبصار؛ وصواعق تحرق ما تصيبه.
ثم قال - تعالى -: { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ }.
ِالصواعق: جمع صاعقة من الصعق وهو شدة الصوت الذى يصحبه - غالباً - قطعة من نار لا تأتى على شىء إلا أهلكته.
(ومن) فى قوله - تعالى -: { مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ } للعليل. وإنما كانت الصواعق داعية إلى سدهم آذانهم بأصابعهم، من جهة أنها قد تفضى بصوتها الهائل إلى الموت، وجاء هذا مصرحاً به فى قوله - تعالى - { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ }.
والمعنى: يسدون آذانهم من أجل الصواعق خوفاً من أن تقتلهم بشدة صوتها. ومن المعروف أن الذى يجعل فى الآذان عند الفزع بعض الأصابع لا كلها، إلا أنه عبر بالأصابع مبالغة فى فرط فزعهم وشدة اضطرابهم، ومسايرة للمألوف فى اللغة من نسبة ما يكون لبعض الشىء إلى ذلك الشىء، حيث يكون المراد جلياً واضحاً. وهو مجاز مرسل من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.
وقوله: { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } يدل على أنهم لم يموتوا من تلك المفزعات وهذه المروعات. إمدادا فى عذابهم. ومطاولة فى نكالهم.
وقوله - تعالى -: { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَافِرِينَ } جملة معترضة فى أثناء ضرب المثل بذوى الصيب.
وإحاطته - سبحانه - بالكافرين على معنى أنهم لا مهرب لهم منه، فهو محيط بهم إحاطة تامة وهو قادر على النكال بهم متى شاء وكيف شاء.
ولم يقل محيط بهم مع تقدم مرجع الضمير وهو أصحاب الصيب، إيذاناً بأنهم إنما استحقوا ذلك العذاب بكفرهم.
ثم قال - تعالى -: { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }.
يكاد من الأفعال التى تدخل على اسم يسند اليه فعل بعده نحو { ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ }. فتدل على أن المسند إليه وهو البرق قد قارب أن يقع منه الفعل وهو خطف الأبصار.
والخطف: الأخذ بسرعة. والأبصار: جمع بصر، وهو قوة مودعة فى العين يدرك بها الألوان والأشكال.
والمعنى: أن البرق لشدة لمعانه يقرب من أن يخطف أبصارها، وهو تصوير بليغ لشدة ذلك البرق، وترك بيان شدة الرعد اكتفاء بما ذكره فى جانب البرق، ولم يذكر توقيهم للأعين بوضع شىء عليها اكتفاء بما ذكره فى توقى الآذان أو لأنهم شغلوا بالآذان عن الأعين.
وقوله - تعالى -: { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } وصف رائع لما يصنعه أهل الصيب فى حالتى ظهور البرق واختفائه.
وكل ظرف، وما مصدرية ولا تصالها بكل أفادت الشرط والعامل فيها هو جوابها وهو { مَّشَوْاْ } و { أَضَآءَ } بمعنى لمع، و{ أَظْلَمَ } من الإِظلام وهو اختفاء النور. و{ قَامُواْ } أى وقفوا وثبتوا فى مكانهم. من قام الماء إذا جمد. ويقال: قامت الدابة إذا وقفت.
والمعنى: أنهم إذا صادفوا من البرق وميضاً انتهزوا ذلك الوميض فرصة، فخطوا خطوات يسيرة، وإذا خفى لمعانه وقفوا فى مكانهم، فالجملة الكريمة تدل على فرط حرصهم على النجاة من شدة ما هم فيه من أهوال.
ثم قال - تعالى -: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ }.
لو: أداة شرط، وشاء بمعنى أراد. أى: لو أراد الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لزاد فى قصف الرعد فأصمهم، وفى ضوء البرق فاعماهم. أو يقال: إن قصف الرعد ولمعان البرق المذكورين فى المثل سببان كافيان لأن يذهبا بسمع ذوى الصيب وأبصارهم لو شاء الله ذلك. فيكون قوله تعالى { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ }، إشعاراً بأن تأثير الأسباب فى مسبباتها إنما هو بإرادته - تعالى -.
وخص السمع والبصر بالذهاب مع أنها من جملة مشاعرهم، لأهميتها. ولأنها هى التى سبق ذكرها، أو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، لأنه إذا كان قادراً على إذهاب ما حافظوا عليه، كان قادراً على غيره من باب أولى.
ثم ختم الآية بقوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
الشىء فى أصل اللغة كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، ويحمل فى هذه الآية على الممكن خاصة موجوداً كأن أو معدوماً، لأن القدرة إنما تتعلق بالممكنات دون الواجب والمستحيل.
والقدير: الفعال لما يريد، يقال: قدره على الشىء أقدره قدرة وقدراً.
وهذه الجملة الكريمة بمنزلة الاستدلال على ما تضمنته الجملة السابقة من أن الله تعالى قادر على أن يذهب بأسماع أصحاب الصيب وأبصارهم متى شاء.
وتطبيق هذا المثل على المنافقين يقال فيه: إن أصحاب الصيب لضعفهم وخورهم لا يطيقون سماع الرعد الهائل، ولا يستطيعون فتح أعينهم فى البرق اللامع، فيجعلون أصابعهم فى آذانهم فزعاً من قصف الرعد، وخوفاً من صواعق تجلجل فوق رءوسهم فتدعهم حصيداً خامدين، وكذلك حال هؤلاء المنافقين فإنهم لضعف بصائرهم، وانطماس عقولهم، تشتد عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه، فتشمئز قلوبهم ويصرفون عنه أسماعهم خشية أن تتلى عليهم آيات تقع على أسماعهم وقع الصواعق المهلكة.
قال ابن كثير: "وذهب ابن جرير ومن تبعه من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين، وتكون "أو" فى قوله تعالى { أَوْ كَصَيِّبٍ } بمعنى الواو، كقوله تعالى
{ { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } أو تكون للتخيير، أى، اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا، أو للتساوى مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين. قلت: وهذا يكون باعتبار أجناس المنافقين، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى فى سورة براءة بقوله: { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي } ). ( { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } ). ( { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ في ٱلصَّدَقَاتِ } الخ. فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم."
هذا، ويرى فضيلة المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز. أن المثلين لطائفتى الكافرين والمنافقين، فالمثل الأول وهو قوله تعالى { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } ينطبق تمام الانطباق على الأوصاف التى ذكرها الله للكافرين وأن الذى ينطبق على صفات المنافقين إنما هو المثل الثانى وحده وهو قوله تعالى { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ... } فقد ضرب الله لكلتا الطائفتين مثلا يناسبها.
قال فضيلته: فضرب مثلا للمصرّين المختوم على قلوبهم بقوم كانوا يسيرون فى ظلام الليل فيهم رجل استوقد لهم ناراً يهتدون بضوئها، فلما أضاءت ما حوله لم يفتح بعض القوم أعينهم لهذا الضوء الباهر، بل لأمر ما سلبوا نور أبصارهم، وتعطلت سائر حواسهم عند هذه المفاجأة، فذلك مثل النور الذى طلع به محمد صلى الله عليه وسلم فى تلك الأمة على فترة من الرسل، فتفتحت له البصائر المستنيرة هنا وهناك، لكنه لم يوافق أهواء المستكبرين الذين ألفوا العيش فى ظلام الجاهلية، فلم يرفعوا له رأسا بل نكسوا على رؤسهم، ولم يفتحو له عيناً بل خروا عليه صما وعميانا.
وضرب مثلا للمترددين المخادعين بقوم جامتهم السماء بغيث منهمر فى ليلة ذات رعد وبرق، فأما الغيث فلم يلقوا له بالا ولم ينالوا منه نيلا، فلا شربوا منه قطرة، ولا استنبتوا به ثمرة.. وأما تلك التقلبات الجوية من الظلمات والرعد والبرق فكانت هى مثار اهتمامهم، ومناط تفكيرهم، ولذلك جعلوا يترصدونها، ويدبرون أمورهم على وفقها، لابسين لكل حال لبوسها: سيراً تارة، ووقوفاً تارة، واختفاء تارة أخرى.
فكانوا إذا رأوا عرضاً قريباً وسفراً قاصداً وبرقت لهم (بروق) الأمل فى الغنيمة ساروا مع المؤمنين جنباً إلى جنب، وإذا دارت رحا الحرب وانقضت { صواعقها } منذرة بالموت والهزيمة أخذوا حذرهم وفروا من وجه العدو قائلين "إن بيوتنا عورة" حتى إذا كانت الثالثة فلم يلمحوا من الآمال بارقة ولم يتوقعوا من الآلام صاعقة، بل اشتبهت عليهم الأمور فهناك يقفون متربصين لا يتقدمون ولا يتأخرون، ولكن يلزمون شقة الحياد ريثما تنقشع سحابة الشك
{ { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } }. ذلك دأب المنافقين فى كل أمرهم، إن توقعوا ربحاً عاجلاً التمسوه فى أى صف وجدوه، وإن توقعوا أذى كذلك تنكروا للفئة التى ينالهم فى سبيلها شىء مكروه؛ وإذا أظلم عليهم الأمر قاموا بعيداً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ أما الذى يؤمن بالله واليوم الآخر فإن له قبلة واحدة يولى وجهه شطرها، هى قبلة الحق لا يخشى فيها لومة لائم:

وليس يبالى حين يقتل مسلماعلى أى جنب كان فى الله مصرعه

هذا هو رأى فضيلة الدكتور دراز، وهو رأى مستساغ يتمشى مع روح الآيات وأهداف السورة، وأياما كان فالمثلان يصوران أحوال المبطلين بصورة حسية واضحة تتجلى فيها بلاغة القرآن الكريم فى إبراز المعانى المعقولة فى صورة محسة واضحة من شأنها أن تهدى الناس إلى طريق الحق والرشاد.
وبعد أن بينت السورة الكريمة أقسام الناس الثلاثة، وعاقبة كل قسم منهم، ساقت لهم نداء عاماً دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده، قال تعالى:
{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ...فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }.