التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٤٠
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
٢٤١
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٢٤٢
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الآية الأولى من هذه الآيات تبين بعض الحقوق التى شرعها الله - تعالى - للمرأة التى توفى عنها زوجها.
والمعنى: لقد شرع الله لكم فيما شرع من أحكام، أن على المسلم قبل أن يحضره الموت أن يوصى لزوجته التى على قيد الحياة بما تنتفع به انتفاعاً مستمراً لمدة حول من وفاته، ولا يصح أن يخرجها أحد من مسكن الزوجية.
وقوله: { وَصِيَّةً } فيه قراءتان مشهورتان.
القراءة الأولى بالنصب، والتقدير: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً فليوصوا وصية، أو كتب الله عليهم وصية لأزواجهم.
والقراءة الثانية بالرفع والتقدير: فعليهم وصية لأزواجهم.
وعلى قراءة النصب تكون كلمة { وَصِيَّةً } مفعولاً مطلقاً أو مفعولا به، وعلى قراء الرفع تكون مبتدأ محذوف الخبر. وقوله: { لأَزْوَاجِهِمْ } جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة { وَصِيَّةً } على القراءتين. أى: وصية كائنة لأزواجهم.
والمراد بقوله: { مَّتَاعاً } ما تتمتع به الزوجة من السكن والنفقة بعد وفاة زوجها بوصية منه. وهو منصوب على المصدر أى متعوهن متاعاً أوم على المفعولية. أى جعل الله لهن ذلك متاعاً.
وقال - سبحانه -: { مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ } للتنصيص على أن هذه المدة تمتد حولا كاملا منذ وفاة زوجها، إذ كلمة حول تدل على التحول أى حتى تعود الأيام التى حدثت فيها الوفاة. وقوله: "غير إخراج" حال من أزواجهم أى غير مخرجات من مسكن الزوجية، فلا يصح لورثة الميت أن يخرجوهن من مسكن الزوجية بغير رضاهن، لأن بقاءهن فى مسكن الزوجية حق شرعه الله لهن، فلا يجوز لأحد أن يسلبه منهن بغير رضاهن.
ثم قال - تعالى -: { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ }.
أى: { فَإِنْ خَرَجْنَ } من منزل الزوجية برضاهن ورغبتهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أى فلا إثم عليكم أيها المسلمون { فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } أى فيما فعلن فى أنفسهن من أمور لا ينكرها الشرع كالتزين والتطيب والتزوج بعد انتهاء عدتها وهى أربعة أشهر وعشرة أيام.
هذا، وللعلماء فى تفسير هذه الآية اتجاهان مشهوران:
أما الاتجاه الأول: فيرى أصحابه أن هذه الآية منسوخة لأنها توجب على الزوج حين مشارفة الموت أن يوصى لزوجته بالنفقة والسكنى حولا، ويجب عليها الاعتداد حولا، وهى مخيرة بين السكنى فى بيته حولا ولها النفقة، وبين أن تخرج منه ولا نفقة لها، ولم يكن لها ميراث من زوجها قالوا: وكان هذا الحكم فى ابتداء الإِسلام. وقد نسخ وجوب الوصية بالنفقة والسكنى بآية المواريث وبحديث
"ألا لا وصية لوارث" حيث جعل لها الربع أو الثمن عوضاً عن النفقة والسكنى ونسخ وجوب العدة حولا بقوله - تعالى - قبل ذلك: { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } الآية.
قالوا: ومما يشهد لذلك ما أخرجه أبو داود والنسائى عن ابن عباس أنه قال فى هذه الآية: نسخت بآية الميراث بما فرض الله لهن من الربع والثمن "ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشراً".
وقد حكى هذا الرأى صاحب الكشاف فقال: والمعنى: أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا، أى: ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن. وكان ذلك فى أول الإِسلام ثم نسخت المدة بقوله:
{ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } وقيل نسخ ما زاد منه على هذا المقدار. ونسخت النفقة بالإِرث الذى هو الربع والثمن.
واختلف فى السكنى فعند أبى حنيفة لا سكنى. ثم قال: فإن قلت كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ قلت: قد تكون الآية متقدمة فى التلاوة وهى متأخرة فى التنزيل. كقوله - تعالى -:
{ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ } مع قوله: { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فى ٱلسَّمَآءِ } وعلى هذا الاتجاه سار جمهور المفسرين.
أما الاتجاه الثانى: فيرى أصحابه أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة وممن ذهب إلى هذا الاتجاه مجاهد، فقد قال ما ملخصه: دلت الآية الأولى وهى
{ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } على أن هذه عدتها المفروضة تعتدها عند أهل زوجها. ودلت هذه الآية بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدة السابقة تمام الحول، وأن ذلك من باب الوصية للزوجات أن يمكن من السكنى فى بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا ولا يمنعن من ذلك لقوله: { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فإذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر - أو بوضع الحمل - واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله: { فَإِنْ خَرَجْنَ }.
ومن المفسرين الذين أيدوا هذا الاتجاه الإِمام ابن كثير فقد قال - بعد أن ساق قول مجاهد - وهذا القول له اتجاه وفى اللفظ مساعدة له وقد اختاره جماعة منهم الإِمام أبو العباس بن تيمية.
كما أيده أيضاً الإِمام الفخر فى تفسيره، فقد قال بعد أن ساق بعض الأدلة التى تثبت ضعف قول من قال بالنسخ: "فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل".
والخلاصة أن أصحاب هذا الاتجاه الثانى لا يرون معارضة بين هذه الآية وبين آية
{ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } لأن الآية التى معنا لا تتحدث عن عدة المتوفى عنها زوجها وإنما تتحدث عن حقها فى البقاء فى منزل الزوجية بعد وفاة زوجها، وأن هذا الحق ثابت لها فإن شاءت بقيت فيه، وإن شاءت خرجت منه على حسب ما نراه مصلحة لها، ولأنها لا يوجد من ألفاظها أو معانيها ما يلزم المرأة بالتربص والامتناع عن الأزواج مدة معينة.
أما الآية الثانية فنراها واضحة فى الأمر بالتربص أربعة أشهر وعشراً، وهى العدة التى يجب أن تمتنع فيها المرأة التى مات عنها زوجها عن التزين والتعرض للزواج. إذن فلا تعارض بين الآيتين ومتى انتفى التعارض انتفى النسخ.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أى: عزيز فى انتقامه ممن تعدى حدوده، إذ هو القاهر فوق عباده، حكيم فيما شرع لهم من آداب وأحكام فينبغى أن يمتثل الناس أوامره ويجتنبوا ما نهاهم عنه.
ثم بين - سبحانه - حق المطلقات فقال: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } أى وللمطلقات على أزواجهن الذين طلقوهن متاع بالمعروف أى شىء ينتفع به انتفاعاً ممتداً لمدة من الوقت مما تعارف العقلاء عليه وعلى فائدته للمرأة، وهذا المتاع جعله الله حقا على المتقين الذين يصونون أنفسهم عن كل ما يبغضه الله - تعالى -.
وقد جعل الله هذا الحق للمطلقة على مطلقها جبراً لوحشة الفراق وإزالة لما قد يكون بين الزوجين من شقاق، وتخفيفاً لما قد يحيط بجو الطلاق من تنافر وتخاصم وعدم وفاق.
قال ابن كثير: وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة سواء كانت مفوضة، أو مفروضاً لها، أو مطلقة قبل المسيس، أو مدخولا بها. وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف واختاره ابن جرير، وهو قول عن الشافعى.
وعلى هذا التفسير يكون المراد بالمتاع ما يعطيه الرجل لامرأته التى طلقها زيادة عن الحقوق المقررة لها شرعا ليكون التسريح بإحسان.
ومن العلماء من يرى أن المراد بالمتاع هنا النفقة التى تكون للمطلقة فى العدة قال الفخر الرازى: واعلم أن المراد بالمتاع ها هنا فيه قولان:
أنه هو المتعة فظاهر هذه الآية يقتضى وجوب هذه المتعة لكل المطلقات..
والقول الثانى أن المراد بهذه المتعة النفقة، والنفقة قد تسمى متاعا، وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى".
ويظهر أن مراد الفخر الرازى بقوله: "اندفع التكرار" أى ما بين هذه الآية والآية التى سبقت وهى قوله - تعالى -:
{ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } ولك أن تقول: إنه لا تكرار مع إرادة المتعة التى ليست هى النفقة لأنه فى السابقة بين أنها حق للمرأة حين تطلق ولم يكن قد قدر لها مهر معين، وهنا ذكرت عقب آية الوفاة لدفع ما يتوهم من أن المتوفى عنها زوجها لها حق فى المتعة إذا لم يوص لها زوجها بالنفقة.
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات المتعلقة بأحكام الأسرة بقوله: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون }.
أى: مثل هذا البيان الحكيم الواضح الذى بين الله لكم به الأحكام السابقة، يبين لكم جميع آياته وأحكامه التى أنتم فى حاجة إليها لكى تفهموا ما فيها وتعقلوه وتعملوا به فتنالوا السعادة فى الدنيا والآخرة.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد بينت لنا فى أكثر من عشرين آية بعض الأحكام التى تتعلق بالأسرة وصيانتها وسعادتها بأسلوب مؤثر حكيم وبطريقة تهدى إلى أفضل الأخلاق، وأقوم العلاقات بين الأفراد والجماعات، وإن المتأمل فى هذه الآيات وما اشتملت عليه من توجيهات سامية ليوقن بأن هذا القرآن إنما هو من عند الله، الذى شرع لعباده ما فيه صلاحهم وسعادتهم.
وبعد هذا البيان الحكيم عن الأسرة وما يتعلق بها من زواج وطلاق وغير ذلك، ساق القرآن من القصص ما من شأنه أن يدعو إلى التذكر والاعتبار ويحرض على الجهاد فى سبيل الله، ويحمل المتأملين فى توجيهاته على إقامة الأسرة على أقوى الدعائم، وأفضل المبادئ التى بها تنال الأمم عزتها وكرامتها وسعادتها. فقال - تعالى -:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ...وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.