التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٣٠
وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٣١
قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٣٢
قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٣٣
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ففى هذه الآيات الكريمة عطف - سبحانه - قصة خلق آدم أبى البشر على قصة خلق الأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالا فى الاستدلال على أن الله واحد، وجمعاً بين تعدد الأدلة وبين مختلف الحوادث وأصلها، حتى يكون التدليل أجمع، والإِيمان بالله أقوى وأثبت.
وإذ وإذا ظرفان للزمان، الأول للماضى والثانى للمستقبل، فإن جاء إذ مع المضارع أفاد الماضى كقوله:
{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ... } وإن جاء إذا مع الماضى أفاد الاستقبال كقوله: { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } وإذ هنا واقعة موقع المفعول به لعامل مقدر دل عليه المقام.
والمعنى: واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة.
وقد جاء هذا المقدر هنا مصرحاً به فى آيات أخرى كما قال تعالى:
{ وَٱذكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } والملائكة جمع ملك. والتاء لتأنيث الجمع، وأصله ملأك، من ملك، نحو شمال من شمل، والهمزة زائدة وهو مقلوب مالك، وقيل: إن ملاك من لأك إذا أرسل، ومنه الألوكة، أى: الرسالة.
والملائكة، هم جند من خلق الله، ركز الله فيهم العقل والفهم، وفطرهم على الطاعة، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة، ووصفهم فى القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم
{ يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ومنها: أنهم رسل الله أرسلهم بأمره "ومنهم رسل الوحى إلى من اصطفاهم من خلقه للنبوة والرسالة. قال تعالى: { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } وقال تعالى: { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ } وقال - تعالى - { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } و(الخليفة) من يخلف غيره وينوب منابه، فهو فعيل بمعنى فاعل.
والتاء فيه للمبالغة، والمراد به آدم - عليه السلام - لأنه كان خليفة من الله فى الأرض، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله - تعالى - فى عمارة الأرض، وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وإجراء أحكامه عليهم، وتنفيذ أوامره فيهم. وقيل: آدم وذريته، لأنه يخلف بعضهم بعضاً فى عمارة الأرض، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل.
وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل فى الأرض خليفة، ليس المقصود منه المشورة، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة، وما أجيبوا به من بعد، أو من أجل تعليم العباد المشاورة فى أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو - سبحانه - بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة. أو الحكمة تعظيم شأن المجهول، وإظهار فضله، بأن بشر بوجود سكان ملكوته، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره فى الملأ الأعلى قبل إيجاده، ولقبه بالخليفة.
ثم حكى - سبحانه - إجابة الملائكة فقال:
{ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ }.
الفساد: الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح. يقال فسد الشىء فساداً وفسوداً وأفسده غيره.
والسفك: الصب والإِهراق، يقال: سفكت الدم والدمع سفكاً - من باب ضرب - صببته. والفاعل سافك وسفاك، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بنى الإِنسان ظلماً وعدواناً.
والتسبيح: مشتق من السبح وهو المر السريع فى الماء أو فى الهواء، فالمسبح مسرع فى تنزيه الله وتبرئته من السوء.
والتقديس: التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال.
فيكون التسبيح نفى ما لا يليق، والتقديس إثبات ما يليق، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية.
والمعنى: أتجعل فى الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك، تنزيهاً متلبساً بحمدك والثناء عليك، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيماً لك وتمجيداً.
وقولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا... } إلخ إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة فى خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإِفساد فى الأرض وسفك الدماء. وقطعهم بحكمة الله فى كل ما يفعل لا ينافى تعجبهم من بعض أفعاله، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل، فمن تعجب من فعل شىء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا.
والملائكة لا يعلمون الغيب، فلابد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد فى الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التى يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه.
قال الإِمام ابن كثير فى توضيح هذا المعنى: قوله - تعالى - { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذى يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم. ويردعهم عن المحارم والمآثم.. وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبنى آدم كما قد يتوهمه البعض.. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة فى ذلك، يقولون يا ربنا ما الحكمة فى خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد فى الأرض، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ولا يصدر منا شىء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا؟.
وقد رد الله - تعالى - على الملائكة بقوله: { قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.
أى: إنى أعلم من المصلحة الراجحة فى خلق هذا الصنف على المفاسد التى ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإنى سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له - تعالى - المتبعون رسله.
فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذى من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق - عز وجل - وتنبيه إلى أنه - تعالى - عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء.
وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشىء، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئاً، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم، وان وقفت عقولهم دونها، ففى تسليمهم لقدر الله، وامتثالهم لأوامره الكفاية فى القيام بحق التكليف والفوز برضا الله، الذى هو الغاية من الإِيمان به والإِقبال على طاعته.
قال بعض العلماء: " وفى هذه الآية الكريمة تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم عن تكذيب بعض الناس له، لأنه إذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين - وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين، أى: فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين، وترشد المسترشدين، وتأتى أهل الدعوة بسلطان مبين.
ثم أخذ - سبحانه - فى بيان جانب من حكمة خلق آدم، وجعله خليفة فى الأرض، بعد أن أجاب الملائكة على سؤالهم بالجواب المناسب الحكيم فقال - تعالى -: { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }.
علم: من التعليم وهو التعريف بالشىء. وآدم: اسم لأبى البشر، قيل إنه عبرانى مشتق من أدمه، وهى لغة عبرانية معناها التراب، كما أن "حواء" كلمة عبرانية معناها "حى" وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء.
و{ ٱلأَسْمَآءَ } جمع اسم، والاسم ما يكون علامة على الشىء، وتأكيد الأسماء بلفظ "كلها" فى أنه علمه أسماء كل ما خلق من المحدثات من إنسان وحيوان ودابة، وطير، وغير ذلك. ويصح حمل الأسماء على خواص الأشياء ومنافعها، فإن الخواص والمنافع علامات على ما تتعلق به من الحقائق.
وقوله:{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ } عرض الشىء: إظهاره وإبانته والضمير فى { عَرَضَهُمْ } يعود على المسميات، وهى مفهومة من قوله: { ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } إذ الأسماء لابد لها من مسميات، فإذا أجرى حديث عن الأسماء حضر فى ذهن السامع ما هو لازم لها، أعنى المسميات.
ودل على المسميات بضمير جمع الذكور العقلاء فقال: { عَرَضَهُمْ } ولم يقل عرضها، لأن فى جملة هذه المسميات أنواعاً من العقلاء: كالملائكة، والإِنس، ومن الأساليب المعروفة بين فصحاء العرب تغليب الكامل على الناقص، فإذا اشتركا فى نحو الجمع أو التثنية أتى بالجمع أو التثنية على ما يطلق حال الكامل منهما.
والأمر فى قوله: { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ }، ليس من قبيل الأوامر التى يقصد بها التكليف، أى: طلب الإِِتيان بالمأمور به، وإنما هو وارد على جهة إفحام المخاطب بالحجة.
والمعنى: أن الله - تعالى - ألهم آدم معرفة ذوات الأشياء التى خلقها فى الجنة، ومعرفة أسمائها ومنافعها، ثم عرض هذه المسميات على الملائكة. فقال لهم على سبيل التعجيز: { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فيما اختلج فى خواطركم من أنى لا أخلق خلقاً إلا وأنتم أعلم منه وأفضل.
قال ابن جرير: "وفى هذه الآيات العبرة لمن اعتبر والذكرى لمن ذكر، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عما أودع الله فى هذا القرآن من لطائف الحكم التى تعجز عن أوصافها الألسن، وذلك أن الله - تعالى - احتج فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظهرانيه من يهود بنى إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التى لم يكن - تعالى - أطلع عليها من خلقه إلا خاصا، ولم يكن مدركا علمه إلا بالإِنباء والإِخبار ليقرر عندهم صدق نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به إنما هو من عند الله".
ثم حكى - سبحانه - ما كان من الملائكة فقال:
{ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ }.
سبحان: اسم مصدر بمعنى التسبيح؛ أى التنزيه، وهو منصوب بفعل مضمر لا يكاد يستعمل معه.
وهذه الآية الكريمة واقعة موقع الجواب عن سؤال يخطر فى ذهن السامع للجملة السابقة، إذ الشأن أن يقال عند سماعهم قوله - تعالى -: { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ }، ماذا كان من الملائكة؟ هل أنبأوا بأسماء المسميات المعروضة عليهم؟ فقال - تعالى -: { قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ } إلخ الآية.
ولو قال الملائكة: لا علم لنا بأسماء هذه المسميات لكان جوابهم على قدر السؤال، ولكنهم قصدوا الاعتراف بالعجز معرفة أسماء تلك المسميات المعروضة على أبلغ وجه فنفوا عن أنفسهم أن يعلموا شيئاً غير ما يعلمهم الله، ودخل فى ضمن هذا النفى العام الاعتراف بالقصور عن معرفة الأسماء المسئول عنها.
ومعنى { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } أى: أنت يا ربنا العليم بكل شىء، الحكيم فى خلقك وأمرك وفى تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء، لك الحكمة فى ذلك، والعدل التام.
وقدم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة، ليكون وصفه بالعلم متصلا بنفيهم عن أنفسهم فى قولهم: { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ }.
وبعد أن بين القرآن أن الملائكة قد اعترفوا بالعجز عن معرفة ما سئلوا عنه، وجه - سبحانه - الخطاب إلى آدم، يأمره فيه بأن يخبر الملائكة بالأسماء التى سئلوا عنها، ولم يكونوا على علم بها، فقال - تعالى -:
{ قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }.
ففى هذه الآية الكريمة أخبرنا الله - تعالى - أنه قد أذن لآدم فى أن يخبر الملائكة بالأسماء التى فاتتهم معرفتها ليظهر لهم فضل آدم، ويزدادوا اطمئنانا إلى أن إسناد الخلافة إليه، إنما هو تدبير قائم على حكمة بالغة.
وعلم الغيب يختص به واجب الوجود - سبحانه لأنه هو الذى يعلم المغيبات بذاته، وأما العلم بشىء من المغيبات الحاصل من تعليم الله فلا يقال لصاحبه إنه يعلم الغيب.
وقوله - تعالى - { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ... } إلخ الآية، استحضار وتأكيد لمعنى قوله قبل ذلك، { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }. وإعادة له على وجه من التفصيل أفاد أن علمه يشمل ما يظهرونه بأقوالهم أو أفعالهم، وما يضمرونه فى أنفسهم.
وفى قوله: { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ... } إلخ تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى، حيث بادروا بالسؤال عن الحكمة، وكان الأولى أن يأخذوا بالأدب المناسب لمقام الألوهية، فيتركوا السؤال عنها إلى أن يستبين لهم أمرها بوجه من وجوه العلم.
ومن الفوائد التى تؤخذ من هذه الآيات، أن الله - تعالى - قد أظهر فيها فضل آدم - عليه السلام - من جهة أن علمه مستمد من تعليم الله له، فإن إمداد الله له بالعلم يدل على أنه محاط منه برعاية ضافية، ثم إن العلم الذى يحصل عن طريق النظر والفكر قد يعتريه الخلل، ويحوم حوله الخطأ. فيقع صاحبه فى الإِفساد من حيث إنه يريد الإِصلاح، بخلاف العلم الذى يتلقاه الإِنسان من تعليم الله، فإنه علم مطابق للواقع قطعاً، ولا يخشى من صاحبه أن يحيد عن سبيل الإِصلاح، وصاحب هذا العلم هو الذى يصلح للخلافة فى الأرض، ومن هنا، كانت السياسة الشرعية أرشد من كل سياسة، والأحكام النازلة من السماء أعدل من القوانين الناشئة فى الأرض.
وبعد أن بين القرآن فى الآيات السابقة بعض الكرامات التى خص الله بها آدم، انتقل إلى بيان كرامة أخرى أكرم الله بها آدم - عليه السلام - وهى أمره للملائكة بالسجود له، ثم بيان ما حصل بينه وبين إبليس، فقال - تعالى -:
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ...أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.