التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ
٣٤
وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ
٣٥
فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ
٣٦
فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
٣٧
قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٣٨
وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ
٣٩
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى -: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ... } إلخ، معطوف على قوله - تعالى قبل ذلك { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ.... } إلخ، من باب عطف القصة على القصة، وإعادة (إذ) بعد حرف العطف المغنى عن إعادة ظرفه، تنبيه على أن الجملة مقصودة بذاتها، لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام.
والسجود: لغة التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره، وخص فى الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة.
وللعلماء فى كيفية السجود الذى أمر به الملائكة لآدم أقوال: أرجحها أن السجود المأمور به فى الآية يحمل على المعنى المعروف فى اللغة، أى: أن الله - تعالى - أمرهم بفعل تجاه آدم يكون مظهراً من مظاهر التواضع والخضوع له تحية وتعظيماً، وإقراراً له بالفضل دون وضع الجبهة على الأرض الذى هو عبادة، إذ عبادة غير الله شرك يتنزه الملائكة عنه.
وعلى هذا الرأى سار علماء أهل السنة. وقيل: إن السجود كان لله، وآدم إنما كان كالقبلة يتوجه إليه الساجدون تحية له، وإلى هذا الرأى اتجه علماء المعتزلة، وقد قالوا ذلك هرباً من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم، فإن أهل السنة قالوا: إبليس من الملائكة، والصالحون من البشر أفضل من الملائكة، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم، وخالفت المعتزلة فى ذلك، وقالت: الملائكة أفضل من البشر، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة.
والذى نراه أن ما سار عليه أهل السنة أرجح، لأن ما ذهب إليه المعتزلة يبعده أن المقام مقام لإِظهار فضل آدم على الملائكة، وإظهار فضله عليهم لا يتحقق بمجرد كونه قبلة للسجود.
وأمر الملائكة بالسجود لآدم هو لون من الابتلاء والاختبار، ليميز الله الخبيث من الطيب، وينفذ ما سبق به العلم، واقتضته المشيئة والحكمة:
ثم بين - سبحانه - ما حدث من الملائكة ومن إبليس فقال:
{ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ }.
إبليس: اسم مشتق من الإِبلاس، وهو الحزن الناشىء عن شدة اليأس، وفعله أبلس، والراجح أنه اسم أعجمى، ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة وهو كائن حى، وقد أخطأ من حمله على معنى داعى الشر الذى يخطر فى النفوس، إذ ليس من المعقول أن يكون كذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه. قال - تعالى -
{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } وقوله: { أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَر } الإِباء: الامتناع عن الفعل أنفة مع التمكن منه. والاستكبار: التكبر والتعاظم والغرور، بمعنى أن يرى الشخص فى نفسه علواً على غيره، وهو خلق مذموم.
وكان فى قوله: { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } بمعنى صار.
وجاء العطف فى قوله { فَسَجَدُواْ... } بالفاء المفيدة للتعقيب، للإِشارة إلى أن الملائكة قد بادروا بالامتثال بدون تردد، ولم يصدهم ما كان فى نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق، مظهر فساد وسفك دماء، لأنهم منزهون عن المعاصى.
وللعلماء فى كون إبليس من الملائكة أم لا قولان:
أحدهما: أنه كان منهم لأنه - سبحانه - أمرهم بالسجود لآدم، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لم يكن عاصياً، ولما استحق الخزى والنكال.
ولأن الأصل فى المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه. وقد اختار هذا الرأى ابن عباس، وابن مسعود وجمهور المفسرين.
وقيل إنه ليس منهم لقوله - تعالى -
{ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } فهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإِنس، ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة. وقد اختار هذا القول الحسن وقتادة وغيرهما.
وقد حاول ابن القيم أن يجمع بين الرأيين فقال: والصواب التفصيل فى هذه المسألة، وأن القولين فى الحقيقة قول واحد، فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله. كان من نار وأصل الملائكة من نور، فالنافى كونه من الملائكة. والمثبت لم يتواردا على محل واحد.
ولما كان استثناء إبليس من الساجدين لا يدل على أنه ترك السجود عصياناً، إذ قد يكون تركه لعذر، دل بقول: { أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَر } على أنه امتنع من السجود أنفة، وتعاظماً، وأردف هذا التعاظم والغرور باعتراضه على الله - تعالى - فى تفضيل آدم، فصار بذلك فى فريق الكافرين، ولذا ختمت الآية بقوله - تعالى -: { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } أى: صار بسبب عصيانه واستكباره من الكافرين بالله، الجاحدين لنعمه، البعيدين عن رحمته ورضوانه.
وقوله - تعالى - { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } معطوف على قوله { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ...إلخ } أى: بعد أن أمرنا الملائكة بالسجود لآدم، قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، فهذه تكرمة أكرمه الله بها بعد أن أكرمه بكرامة الإِجلال من تلقاء الملائكة.
وقوله: { ٱسْكُنْ } أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن على وجه الاستقرار.
والزوج: يطلق على الرجل والمرأة والمراد به هنا حواء، حيث تقول العرب للمرأة زوج، ولا تكاد تقول زوجة.
والجنة: هى كل بستان ذى شجر متكاثف، ملتف الأغصان، يظلل ما تحته ويستره، من الجن، وهو ستر الشىء عن الحاسة.
وجمهور أهل السنة على أن المراد بها هنا دار الثواب. التى أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإِطلاق.
ويرى جمهور علماء المعتزلة أن المراد بها هنا بستان بمكان مرتفع من الأرض، خلقه الله لإِسكان آدم وزوجه، واختلفوا فى مكانه، فقيل بفلسطين. وقيل بغيرها.
وقد ساق الإِمام ابن القيم فى كتابه (حادى الأرواح) أدلة الفريقين دون أن يرجح شيئاً منها. والأحوط والأسلم: الكف عن تعيينها وعن القطع به، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدى فى التأويلات، إذ ليس لهذه المسألة تأثير فى العقيدة.
والمخاطب بالأمر، بسكنى الجنة آدم وحواء، ولكن الأسلوب جاء فى صيغة الخطاب لآدم وعطفت عليه زوجه، لأنه هو المقصود بالأمر وزوجه تبع له.
ثم بين - سبحانه - أنه قد أباح لهما أن يأكلا من ثمار الجنة أكلا واسعا فقال: { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } أى كلا من مطاعم الجنة وثمارها أكلا هنيئاً أو واسعاً فى أى مكان من الجنة أردتم.
يقال: رغد عيش القوم أى: اتسع وطاب، وأرغد القوم، أى: أخصبوا وصاروا فى رزق واسع.
والضمير فى قوله { مِنْهَا } يعود إلى الجنة، والمراد بالأكل منها: الأكل من مطاعمها وثمارها، لأن الجنة تستلزم ثماراً هى المقصودة بالأكل.
ثم بين - سبحانه - أنه نهاهم عن الأكل من شجرة معينة فقال: { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ }.
القرب: الدنو، والمنهى عنه هو الأكل من ثمار الشجرة، وتعليق النهى بالقرب منها إذ قال { وَلاَ تَقْرَبَا } القصد منه المبالغة فى النهى عن الأكل، إذ فى النهى عن القرب من الشىء قطع لوسيلة التلبس به، كما قال تعالى:
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ } فنهى عن القرب من الزنا ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه وهى القرب منه. وأكد النبى بأن جعل عدم اجتناب الأكل من الشجرة ظلماً فقال: { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } وقد ظلما أنفسهما إذ أكلا منها، فقد ترتب على أكلهما منها أن أخرجا من الجنة التى كانا يعيشان فيها عيشة راضية.
وقد تكلم العلماء كثيراً عن اسم هذه الشجرة ونوعها فقيل هى التينة، وقيل: هى السنبلة، وقيل هى الكرم.. إلخ. إلا أن القرآن لم يذكر نوعها على عادته فى عدم التعرض لذكر ما لم يدع المقصود من سوق القصة إلى بيانه.
وقد أحسن الإِمام ابن جرير فى التعبير عن هذا المعنى فقال: "والصواب فى ذلك أن يقال: إن الله - تعالى - نهى آدم وزوجه عن الأكل من شجرة يعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها، ولا علم عندنا بأى شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك فى القرآن ولا من السنة الصحيحة، وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل كانت شجرة العنب. وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به.
ثم بين القرآن بعد ذلك ما وقع فيه آدم من خطأ فقال: { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أى: اذهبهما عن الجنة بكذبه عليهما ومقاسمته أنه لهما من الناصحين.
وأزل من الإِزلال وهو الإِزلاق: زل يزل زلا وزللا، أى: زلق فى طين أو منطق، والاسم الزلة. وأزله غيره واستزله: أى أزلقه. أطلق وأريد به لازمه وهو الإِذهاب.
وقرئ { فأزالهما } أى: نحاهما من الإِزالة، تقول أزلت الشىء عن مكانه إزالة. أى: نحيته وأذهيته عنه.
ثم استعمل هذا اللفظ فى ارتكاب الخطيئة كما استعمل فى خطأ الرأى مجازاً. والضمير فى قوله: { عَنْهَا } يعود إلى الشجرة، ومعنى أزلهما عن الشجرة أوقعهما فى الزلة بسببها.
والتعبير بقوله: { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أبلغ فى الدلالة على فخامة الخيرات التى كانا يتقلبان فيها مما لو قيل: فأخرجهما من النعيم أو من الجنة لأن من أساليب البلاغة فى الدلالة على عظم الشء أن يعبر عنه بلفظ مبهم كما هنا. لكى تذهب نفس السامع فى تصور عظمته وكماله إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إليه.
ونسبة إخراجهما من الجنة إلى الشيطان فى قوله: { فَأَخْرَجَهُمَا } من قبيل نسبة الفعل إلى ما كان سبباً فيه، وذلك أن أكلهما من الشجرة الذى ترتب عليه إخراجهما من الجنة إنما وقع بسبب وسوسة الشيطان لهما.
وقوله - تعالى - { وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } الخطاب فيه لآدم وحواء، وإبليس، وقيل الخطاب لآدم وحواء ونسلهما.
والهبوط: النزول من أعلى إلى أسفل ضد الصعود. يقال: هبط يهبِط ويهبُط أى: نزل من علو إلى أسفل.
والعداوة معناها التناكر والتنافر بالقلوب.
أى: قلنا لآدم وحواء والشيطان انزلوا إلى الأرض متنافرين متباغضين، يبغى بعضكم على بعض.
وعداوة الشيطان لآدم نشأت عن حسد وتكبر منذ أن أُمِر بالسجود فأبى وامتنع وقال: أنا خير منه.
وعداوة آدم وذريته للشيطان من جهة أنه يكيد لهم بالوسوسة والإِغراء وفى هذه الجملة الكريمة إرشاد لآدم وذريته، ونهى لهم عن اتباع خطوات الشيطان، لأنه عدو لهم، ومن شأن العدو أنه يسعى لمضرة عدوه.
قال - تعالى -
{ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } ثم ختمت الآية بقوله - تعالى -: { وَلَكُمْ فى ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ }.
المستقر: موضع الاستقرار والثبات، وهو مقابل القلق والاضطراب، والمتاع: اسم لما يستمتع به من مأكل ومشرب وملبس وحياة وأنس وغير ذلك، مأخوذ من متع النهار متوعاً إذا ارتفع، ويطلق على الانتفاع الممتد الوقت.
والحين: الجزء من الزمان غير محدد بحد، والمراد به هنا وقت الموت أو يوم القيامة.
والمعنى: انزلوا إلى الأرض بعضكم لبعض عدو؛ ولكم فيها منزل وموضع استقرار. وتمتع بالعيش إلى أن يأتيكم الموت.
ومن كان على ذكر دائم من أن استقراره فى الأرض وتمتعه بنعيمها سينتهى فى وقت، لا يدرى متى يدركه، فشأنه أن ينتفع بخيراتها ويتمتع بطيب العيش فيها، وهو مقبل على العمل لمرضاة الله ما استطاع، وشاكر لأنعمه بالقلب واللسان، لا يشغله عن الشكر شاغل من ملذات هذه الحياة ومظاهر زينتها.
ثم حكى القرآن أن آدم قد بادر بطلب العفو والمغفرة من ربه فقال: { فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }.
التلقى فى الأصل: التعرض للقاء، ثم استعمل بمعنى أخذ الشىء وقبوله، تقول: تلقيت رسالة من فلان. أى أخذتها منه وقبلتها.
والكلمات: جمع كلمة، وهى اللفظة الموضوعة لمعنى، وأرجح ما قيل فى تعيين هذه الكلمات، ما أشار إليه القرآن فى سورة الأعراف بقوله:
{ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } والتوبة فى أصل اللغة معناها: الرجوع، وإذا عديت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية إلى الطاعة، وإذا عديت بعلى - كما فى هذه الآية - كان معناها قبول التوبة، فالعبد يتوب عن المعصية، والله يتوب على العبد أى: يقبل توبته.
وجملة { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } واردة مورد التعليل لقوله: { فَتَابَ عَلَيْهِ }.
والتواب وصف له - تعالى - من تاب، أى: قبل التوبة، وجاء التعبير بصيغة فعّال، للإِشعار بأنه كثير القبول للتوبة من عباده، وليدل على أنه يقبل توبة العبد وإن وقعت بعد ذنب يرتكبه ويتوب منه ثم يعود إليه بعد التوبة ثم يتوب بعد العودة إليه توبة صادقة نصوحاً.
وبعد أن أخبر القرآن فى الآيات السابقة أن الله - تعالى - قد أمر آدم وحواء وإبليس بالهبوط من الجنة، نراه بعد ذلك قد أعاد خبر الأمر بالهبوط فقال:
{ قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }.
وليست هذه الإِعادة من قبيل التكرار الذى يقصد منه مجرد التوكيد، بل قص الأمر بالهبوط أولا ليعلق عليه معنى؛ هو كون بعضهم لبعض عدواً.
ثم قصة ثانية ليعلق عليه معنى آخر هو ما ترتب على الهبوط من تفصيل لحال المخاطبين، وانقسامهم إلى مهتدين وضالين.
والفاء فى قوله { فَإِمَّا } لإِفادة ترتيب انقسام المخاطبين إلى مهتدين وكافرين على الهبوط المفهوم من قوله: { ٱهْبِطُواْ }.
و{ إِمَّا } هى إن الشرطية دخلت عليها "ما" لإِفادة التوكيد، ويغلب على فعل شرطها أن يكون مؤكداً بالنون وأوجب بعضهم ذلك.
والهدى من الله معناه الدلالة على ما هو حق وخير بلسان رسول، أو بآيات كتاب.
وقد صرح - سبحانه - بأن الهدى صادر منه بقوله: { مِّنِّي هُدًى } ثم أضافه إلى نفسه بقوله: { هُدَايَ } للإِيذان بتعظيم أمر الهدى؛ وأنه أحق بأن يتبع، ويتخذ سبيلا لطمأنينة النفس فى الدنيا، والفوز بالسعادة فى الأخرى.
والخوف: الفزع وهو تألم النفس من مكروه يتوقع حصوله.
والحزن: الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فقد محبوب.
ومعنى { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أن نفوسهم آمنة مطمئنة بحيث لا يعتريها فزع، ولا ينتابها ذعر، كما أن قوله: { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ينفى عنهم الاغتمام لفوات مطلوب أو فقد محبوب.
ونفى الخوف والحزن ورد فى الآية على وجه الإِطلاق، وظاهره أن المهتدين لا يعتريهم الخوف ولا الحزن فى دنياهم ولا فى آخرتهم، ولكن قوله - تعالى - فيما يقابله من جزاء الكافرين { أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }، يرجح أن يكون المراد نفى الخوف والحزن فى الدار الآخرة.
ونفى الخوف والحزن عن المهتدين يوم القيامة كناية عن سلامتهم من العذاب وفوزهم بالنعيم الخالد فى الجنة، فتمت المقابلة بين جزاء المهتدين وجزاء الكافرين المشار إليه بقوله - تعالى -:
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
إذ هذه الآية الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ }. إلخ، وورادة مورد المقابل له فى تفصيل أحوال من يأتيهم الهدى من الله.
ولم يقل: والذين لم يتبعوا هداى أولئك أصحاب النار.. وإنما قال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـٰئِكَ... } إلخ، وذلك لأن من لم يتبع هدى الله يشمل من لم تبلغه الدعوة، وغير المكلفين مثل الصبيان وفاقدى العقل، وهؤلاء ليسوا من أصحاب النار. فظهر أن قوله: { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ... } جىء به على قدر من يستحقون الحكم عليهم بأنهم من أصحاب النار والمجازاة بالعذاب الخالد الأليم.
والآيات: جمع آية، وهى فى الأصل العلامة، وتستعمل فى الطائفة من الكتاب المنزل، وفيما يستدل به على وجود الله وتوحيده، من نحو بدائع مصنوعاته ومظاهر عنايته بالإِنسان.
وأضاف - سبحانه - الآيات إلى نفسه فقال: { بِآيَاتِنَآ } ليكون قبح التكذيب بها أظهر، وأتى بنون العظمة فقال (بآياتنا) دون أن يقول "بآياتى" لبعث المهابة فى نفوس السامعين، وذلك أدعى إلى تلقى الوعيد باهتمام وخشية.
وأصحاب: جمع صاحب مأخوذ من الصحبة، وهى الاقتران والملازمة، ودل بقوله: { هُمْ فِيهَا خَالِدُون } على أن صحبتهم للنار دائمة، وليست من الصحبة التى تستمر مدة ثم تنقطع.
هذا جانب من قصة آدم كما حكاه القرآن فى هذه السورة، ومن الحكم التى تؤخذ منها: أن سياسة الأمم على الطريقة المثلى إنما تقوم على أساس راسخ من العلم، وأن فضل العلم النافع فوق فضل العبادة، وأن روح الشر الخبيثة إذا طغت على نفس من النفوس، جعلتها لا ترى البراهين الساطعة، ولا يوجهها إلى الخير وعد، ولا يردعها عن الشر وعيد.
كما يستفاد منها كيف أن الرئيس يفسح المجال لمرؤسيه المخلصين، يجادلونه فى أمر يريد قضاءه، ولا يزيد عن أن يبين لهم وجهة نظره فى رفق، وإذا تجاوزوا حدود الأدب اللائق به راعى فى عتابهم ما عرفه فيهم من سلامة القلب، وتلقى أوامره بحسن الطاعة.
كما يؤخذ منها أن المتقلب فى نعمة يجب أن يحافظ عليها بشكر الله، ولا يعمل عملا فيه مخالفة لأوامر الله؛ لأن مخالفة أوامر الله، كثيراً ما تؤدى إلى زوال النعمة، ومن أراد أن تزداد النعم بين يديه، فعليه أن يلتزم طاعة الله وشكره.
وقال بعض العلماء: وقد يتبادر إلى الذهن أن آدم قد ارتكب ما نهى عنه، ارتكاب من يتعمد المخالفة، فيكون أكله من الشجرة معصية، مع أنه من الأنبياء المرسلين، والرسل معصومون من مخالفة أوامر الله.
والجواب عن ذلك أن آدم تعمد الأكل من الشجرة، ناسياً النهى عن الأكل منها، وفعل المنهى عنه على وجه النسيان لا يعد من قبيل المعاصى التى يرتكبها الشخص وهو متذكر أنه يرتكب محرماً، إذ أن ارتكاب المحرم عن علم وتذكر هو الذى يجعل مرتكبه مستحقاً للعقاب، والأنبياء معصومون من ذلك.
وإذا عاتب الله بعض الأخيار من عباده عل ما مصدر منهم على وجه النسيان، فلأن علمهم بالنهى يدعوهم إلى أن يقع النهى من نفوسهم موقع الاهتمام، بحيث يستفظعون مخالفته استفظاعاً يملأ نفوسهم بالنفور منها، ويجعلهم على حذر من الوقوع فى بلائها.
فالذى وقع من آدم - عليه السلام - هو أنه غفل عن الأخذ بالحزم فى استحضار النهى وجعله نصب عينيه حتى أدركه النسيان، ففعل ما نهى عنه غير متعمد للمخالفة، قال - تعالى -:
{ { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } }. هذا، وبعد أن ذكر القرآن الكريم الناس جميعاً بنعم الله عليهم، ليحملهم بذلك على إخلاص العبادة له، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ومن بين هذه النعم خلق آدم وإظهار فضله على الملائكة، بعد كل ذلك اتجه إلى تذكير طائفة خاصة من الكافرين المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم وهم بنو إسرائيل، استمالة لقلوبهم نحو الإِيمان بالله، وكسرا لعنادهم ولجاجتهم، فقال - تعالى -:
{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ...وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ }.