التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
٥٠
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

المعنى: واذكروا يا بنى إسرائيل من جملة نعمنا عليكم، نعمة فرق البحر بكم، وانفصاله بعد اتصاله، حين ضربه موسى بعصاه، فأصبحت فيه طريق يابسة فولجتموها، وسرتم فيها هرباً من فرعون وجنده؟ بذلك تمت لكم النجاة، وحصل الغرق لأعدائكم، وقت أن عبروا وراءكم وقد شاهدتموهم والبحر يلفهم بأمواجه، مشاهدة لا لبس فيها ولا غموض. ولقد كان فيما رأيتم ما يدعو إلى الاتعاظ، ويحمل على الشكر الجزيل لله العزيز الرحيم.
فالآية الكريمة تشير إلى قصة نجاة بنى إسرائيل وغرق فرعون وقومه، وملخصها:
أن الله - عز وجل أوحى إلى نبيه - موسى - عليه السلام - أن يرحل ببنى إسرائيل ليلا من أرض مصر التى طال عذابهم فيها إلى أرض فلسطين، ونفذ موسى - عليه السلام - ما أمره به الله - تعالى - وعلم فرعون أن موسى وقومه قد خرجوا إلى أرض الشام، فتبعهم بجيش كبير، وأدركهم مع طلوع الشمس قرب ساحل البحر الأحمر، وأيقن بنو إسرائيل عندما رأوه أنه مهلكهم لا محالة. ولجأوا إلى موسى - عليه السلام - يشكون إليه خوفهم وفزعهم، ولكنه رد عليهم بقوله:
{ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } وأوحى الله إليه { أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ } فضربه { فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } وأمر موسى - عليه السلام - بنى إسرائيل أن يعبروا فعبروا بين فرقى الماء دون أن يمسهم أذى. واقتفى فرعون وجنوده أثرهم طمعا فى إدراكهم وعندما عبر بنو إسرائيل البحر ولم يبق منهم أحد بين المياه المنحسرة، كان فرعون وجنده مازالوا بين فرقى البحر، فاطبق عليهم وعاد كما كان أولا، فغرقوا جميعاً، وبنو إسرائيل ينظرون إليهم فى دهشة وسرور.
وأسند - سبحانه - فرق البحر إلى ذاته الكريمة. ليدل على أن القوم عبروه وقطعوه وهم بعنايته، وقوله تعالى: { فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } بيان للمنة العظمى التى امتن بها عليهم، والتى ترتبت على فرق البحر، لأن فرق البحر لهم ترتب عليه أمران.
أولهما: نجاتهم.
وثانيهما: إهلاك عدوهم وكلاهما نعمة عظيمة.
والإِيمان الصحيح يقضى بأن تفهم واقعة انفصال البحر لموسى وقومه على أنها معجزة كونية له، وقد زعم البعض أنها كانت حادثة طبيعية منشؤها المد والجزر، وهو زعم لا سند له ولا دليل عليه.
واقتصرت الآية هنا على ذكر إغراق آل فرعون أى جنده وأنصاره، وصرحت آيات أخرى بغرقه مع آله، من ذلك قوله تعالى:
{ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً } وقوله تعالى: { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ في ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } ومن تمام النعمة أن الله - تعالى - أهلك مع فرعون كل مناصر له:
وقوله تعالى { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } أى: أغرقنا آل فرعون وأنتم تشاهدونهم بأعينكم، فكان ذلك أدعى لليقين بهلاك عدوكم، وأبلغ فى الشماتة به، وأرجى لشكر النعمة - ولا شك أن مشاهدة المنعم عليه للنعمة فيها لذة كبرى، ورؤيته لهلاك عدوه فيها عبرة عظمى، ومعاينته لا نفراق البحر فيها تقوية لإِيمانه، وتثبيت ليقينه، إذا كانوا ممن يحسنون الانتفاع بما يشاهدون.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: (اعلم أن هذه الواقعة - أى واقعة فلق البحر - تضمنت نعماً كثيرة على بنى إسرائيل فى الدين والدنيا، أما نعم الدنيا فمن وجوه:
أولها: أنهم لما اقتربوا من البحر أصبحوا فى موقف حرج، لأن فرعون وجنوده من ورائهم والبحر من أمامهم، فإن هم توقفوا أدركهم عدوهم وأهلكهم، وإن هم تقدموا أغرقوا. فحصل لهم خوف عظيم، جاءهم بعده الفرج بانفلاق البحر وهلاك عدوهم.
ثانيها: أن الله - تعالى - خصهم بهذه النعمة العظيمة والمعجزة الباهرة تكريماً ورعاية لهم.
ثالثها: أنهم بإغراق فرعون وآله تخلصوا من العذاب، وتم لهم الأمن والاطمئنان، وذلك نعمة عظمى، لأنهم لو نجوا دون هلاك فرعون لبقى خوفهم على حاله، فقد يعود لتعذيبهم مستقبلا، لأنهم لا يأمنون شره، فلما تم الغرق تم الأمان والاطمئنان لبنى إسرائيل.
أما نعم الدين فمن وجوه:
أولها: أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة. زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات، لأن دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى، تقترب من العلم الضرورى.
ثانيها: أنهم لما شاهدوا ذلك صار داعياً لهم على الثبات والانقياد لأوامر نبيهم.
ثالثها: أنهم عرفوا أن الأمور كلها بيد الله، فإنه لا عز فى الدنيا أكمل مما كان لفرعون، ولا ذل أشد مما كان لبنى إسرائيل، ثم إن الله - تعالى - فى لحظة واحدة جعل العزيز ذليلا، والذليل عزيزاً، والقوى ضعيفاً، والضعيف قوياً، وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا، والإِقبال كلية على اتباع أوامر الخالق - عز وجل -.
هذا، ونعمة فرق البحر لبنى إسرائيل، وإنجائهم من عدوهم قد تكرر ذكرها فى القرآن، من ذلك قوله تعالى فى سورة الشعراء:
{ فَلَمَّا تَرَاءَى ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ٱلآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ } وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ذكرت بنى إسرائيل بنعمة من أجل النعم - وهى نعمة فرق البحر بهم - لكى يشكروا خالقهم عليها، ويتبعوا نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ولكنهم ما قاموا بواجب الشكر لخالقهم، فحقت عليهم اللعنة فى الدنيا والعقوبة فى الآخرة، جزاء جحودهم وطغيانهم وما ربك بظلام للعبيد.
رابعا: نعمة عفوه - سبحانه - عنهم بعد عبادتهم للعجل:
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بنعمة رابعة وهى عفوه عنهم رغم جحودهم وكفرهم وعبادتهم لغيره، فقال تعالى:
{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً...لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.