التفاسير

< >
عرض

وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٦٠
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الاستسقاء: طلب السقيا عند عدم الماء أو حبس المطر، وذلك عن طريق الدعاء لله - تعالى - فى خشوع واستكانة، وقد سأل موسى ربه أن يسقى بنى إسرائيل الماء بعد أن استبد بهم العطش، عندما كانوا فى التيه، فعن ابن عباس أنه قال: "كان ذلك فى التيه، ضرب لهم موسى الحجر، فصارت منه اثنتا عشرة عيناً من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها.
وهذه النعمة كانت نافعة لهم فى دنياهم؛ لأنها أزالت عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء ولولاه لهلكوا، وكانت نافعة لهم فى دينهم؛ لأنها من أظهر الأدلة على وجود الله. وعلى قدرته وعلمه، ومن أقوى البراهين على صدق موسى - عليه السلام - فى نبوته.
ومعنى الآية الكريمة: واذكروا يا بنى إسرائيل وقت أن أصاب آباءكم العطش الشديد وهم فى صحراء مجدبة، فتوسل إلينا نبيهم موسى - عليه السلام - فى خشوع وتضرع أن أمدهم بالماء الذى يكفيهم، فأجبناه إلى ما طلب، إذ أوحينا إليه أن اضرب بعصاك الحجر. ففعل، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بمقدار عدد الأسباط، وصار لكل سيط منهم مشرب يعرفه ولا يتعداه إلى غيره، وقلنا لهم: تمتعوا بما من الله به عليكم من مأكول طيب ومشروب هنىء رزقكم الله إياه من غير تعب ولا مشقة، { وَلاَ تَعْثَوْاْ فى ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } فتتحول النعم التى بين أيديكم إلى نقم وتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
وقوله تعالى: { وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } يفيد أن الذى سأل ربه السقيا هو موسى - عليه السلام - وحده، لتظهر كرامته عند ربه لدى قومه، وليشاهدوا بأعينهم إكرام الله - تعالى - له، حيث أجاب سؤاله، وفجر الماء لهم ببركة دعائه.
واللام فى قوله تعالى - { لِقَوْمِهِ } للسببية، أى لأجل قومه.
والفاء فى قوله - تعالى - { فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ }، عطفت الجملة بعدها على محذوف، والتقدير: فأجبناه إلى ما طلب، وقلنا اضرب بعصاك الحجر.
وآل فى { ٱلْحَجَرَ } لتعريف الجنس أى اضرب أى حجر شئت بدون تعيين، وقيل للعهد، ويكون المراد حجراً معيناً معروفاً لموسى - عليه السلام - بوحى من الله تعالى. وقد أورد المفسرون فى ذلك آثاراً حكم المحققون بضعفها ولذلك لم نعتد بها.
والذى نرجحه أنها لتعريف الجنس، لأن انفجار الماء من أى حجر بعد ضربه أظهر فى إقامة البرهان على صدق موسى - عليه السلام - وأدعى لإِيمان بنى إسرائيل وانصياعهم للحق بعد وضوحه، وأبعد عن التشكيك فى إكرام الله لنبيه موسى - عليه السلام - إذ لو كان انفجار الماء من حجر معين لأمكن أن يقولوا: إن تفجير الماء كان لمعنى خاص بالحجر لا لكرامة موسى عند ربه - تعالى -.
والفاء فى قوله تعالى: { فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } كسابقتها للعطف على محذوف تقديره: فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وقد حذفت هذه الجملة المقدرة لوضوح المعنى.
وكانت العيون اثنتى عشرة عيناً؛ لأن بنى إسرائيل كانوا اثنى عشر سبطاً، والاسباط فى بنى إسرائيل كالقبائل فى العرب. وهم ذرية أبناء يعقوب - عليه السلام - الاثنى عشر، ففى انفجار الماء من اثنتى عشرة عيناً إكمال للنعمة عليهم، حتى لا يقع بينهم تنازع وتشاجر:
وقال - سبحانه -: { فَٱنفَجَرَتْ }. وقال فى سورة الأعراف { فَٱنبَجَسَتْ } والانبجاس خروج الماء بقلة. والانفجار خروجه بكثرة، ولا تنافى بينهما فى الواقع؛ لأنه ابنجس أولا. ثم انفجر ثانياً، وكذا العيون يظهر الماء منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه.
وقوله تعالى: { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } إرشاد وتنبيه إلى حكمة الانقسام إلى اثنتى عشرة عيناً أى: قد عرف كل سبط من أسباط بنى إسرائيل مكان شربه، فلا يتعداه إلى غيره، وفى ذلك ما فيه من استقرار أمورهم، واطمئنان نفوسهم، وعدم تعدى بعضهم على بعض.
وقوله تعالى: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ } مقول لقول محذوف تقديره: وقلنا لهم: كلوا واشربوا من رزق الله.
وقد جمع - سبحانه - بين الأكل والشرب - وإن كان الحديث عن الشراب - لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى، وقد قيل هنالك:
{ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } فلما أتبع ذلك بنعمة تفجير الماء لهم اجتمعت المنتان.
وقوله تعالى: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فى ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } تحذير لهم من البطر والغرور واستعمال النعمة فى غير ما وضعت له، بعد أن أذن لهم فى التمتع بالطيبات، لأن النعمة عندما تكثر قد تنسى العبد حقوق خالقه فيهجر الشريعة، ويعيث فى الأرض فساداً. قال تعالى:
{ كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ. أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } والمعنى: ولا تسعوا فى الأرض مفسدين، وتقابلوا النعم بالعصيان فتسلب عنكم. قال ابن جرير -رحمه الله -: (وأصل العثا شدة الإِفساد بل هو أشد الإِفساد، يقال منه: عثى فلان فى الأرض: إذا تجاوز الحد فى الإِفساد إلى غايته، يعثى، عثاً مقصوراً، ويقال للجماعة يعثون..).
وبذلك تكون الآية الكريمة قد ذكرت بنى إسرائيل بنعمة جليلة، ونصحتهم بأن يعملوا على شكرها: وحذرتهم عاقبة الإِفساد فى الأرض وجحودهم النعمة واستبدالهم الذى هو أدنى بالذى هو خير:
ثم ذكرهم - سبحانه - بما كان منهم من جحود النعمة واستخفافهم بها وإيثارهم - بسوء اختيارهم - ما هو أدنى على ما هو خير، فقال تعالى:
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا... }.