التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الاعتداء: مجاوزة الحد، يقال: اعتدى فلان وتعدى إذا ظلم.
والسبت: المراد به اليوم المسمى بهذا الاسم، وأصل السبت - كما قال ابن جرير - الهدوء والسكون فى راحة ودعة، ولذلك قيل للنائم: مسبوت لهدوئه وسكون جسده واستراحته. كما قال - جل ثناؤه -
{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } أى راحة لأبدانكم، وهو مصدر، من قول القائل سبت فلان يَسبِت سبتاً.
وملخص قصة اعتداء بنى إسرائيل فى يوم السبت، أن الله - تعالى - أخذ عليهم عهداً بأن يتفرغوا لعبادته فى ذلك اليوم، وحرم عليهم الاصطياد فيه دون سائر الأيام، وقد أراد - سبحانه - أن يختبر استعدادهم للوفاء بعودهم، فابتلاهم بتكاثر الحيتان فى يوم السبت دون غيره، فكانت تتراءى لهم على الساحل فى ذلك اليوم قريبة المأخذ سهلة الاصطياد فقالوا: لو حفرنا إلى جانب ذلك البحر الذى يزخر بالأسماك يوم السبت حياضاً تنساب إليها المياه فى ذلك اليوم ثم نصطادها من تلك الحياض فى يوم الأحد وما بعده، وبذلك نجمع بين احترام ما عهد إلينا فى يوم السبت، وبين ما تشتهيه أنفسنا من الحصول على تلك الأسماك، فنصحهم فريق منهم بأن عملهم هذا إنما هو امتثال ظاهرى لأمر الله، ولكنه فى حقيقته خروج عن أمره من ترك الصيد فى يوم السبت، فلم يعبأ أكثرهم بذلك، بل نفذ تلك الحيلة، فغضب الله عليهم ومسخهم قردة، وجعلهم عبرة لمن عاصرهم ولمن أتى بعدهم..
والحديث عن أصحاب السبت قد جاء ذكره مفصلا فى سورة الأعراف كما جاءت الإِشارة إليه فى سورتى النحل والنساء.
ثم بين - سبحانه - العقوبة التى حلت بهم بسبب اعتدائهم فى يوم السبت، وتحايلهم على استحلال محارم الله فقال - تعالى -:
{ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }.
أى: صاغرين مطرودين مبعدين عن الخير أذلاء.
والخسوء: الطرد والإِبعاد. يقال: خسأت الكلب خسأ وخسوءاً - من باب منع - طردته وزجرته، وذلك إذا قلت له: اخسأ.
وجمهور المفسرين على أنهم مسخوا على الحقيقة ثم ماتوا بعد ذلك بوقت قصير.
ويرى مجاهد أنهم لم تمسخ صورهم ولكن مسخت قلوبهم، أى: إنهم مسخوا مسخاً نفسياً فصاروا كالقردة فى شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها.
وتلك العقوبة كانت بسبب إمعانهم فى المعاصى، وتأبيهم عن قبول النصيحة، وضعف إرادتهم أمام مقاومة أطماعهم، وانتكاسهم إلى عالم الحيوان لتخليهم عن خصائص الإِنسان، فكانوا حيث أرادوا لأنفسهم من الصغار والهوان.
والضمير فى قوله: { فَجَعَلْنَاهَا } يعود إلى العقوبة التى هى مسخهم قردة و{ نَكَالاً } أى عبرة تنكل المعتبر بها بحيث تمنعه وتردعه من ارتكاب الشر.
يقال: نكل به تنكيلا إذا صنع به صنعاً يردعه ويجعل غيره يخاف ويحذر. والاسم النكال وهو ما نكلت به غيرك، وأصله من النكل - بالكسر - وهو القيد الشديد وجمعه أنكال.
وقوله "لما بين يديها وما خلفها. أى: للذين كانوا قبل هذه العقوبة وعاشوا حتى شاهدوها، وللذين أتوا بعدها وعرفوا عن يقين خبرها.
والمعنى: فجعلنا هذه العقوبة عبرة زاجرة لمن كان قبلها وعاش حتى رآها ولمن أتى بعدها وعلم يقيناً بحال العادين فى السبت الذين مسخوا بسبب عصيانهم تحذيراً له من أن يعمل عملهم، فيمسخ كما مسخوا، ويحل به العذاب الذى حل بهم. كما جعلناها أيضاً { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } الذين يسمعون قصتها فهم الذين من شأنهم أن ينتفعوا بالعظات، ويعتبروا بالمثلات.
ثم ساق القرآن بعد ذلك قصة من قصص بنى إسرائيل تدل على تنطعهم فى الدين، ومحاولتهم تضييق ما وسعه الله عليهم، وتهربهم من الانصياع لكلمة الحق، وتشككهم فى صدق أنبيائهم، وتعنتهم فى السؤال. وهذه القصة هى قصة أمرهم على لسان نبيهم موسى - عليه السلام - بذبح بقرة. استمع إلى القرآن الكريم، وهو يحكى هذه القصة بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول:
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً...وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.