التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
٨٣
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

معنى الآية إجمالا: واذكروا يا بنى إسرائيل لتعتبروا وتستجيبوا للحق - وليذكر معكم كل من ينتفع بالذكرى - وقت أن أخذنا عليكم العهد، وأمرناكم بالعمل به على لسان رسلنا - عليهم السلام - وأمرناكم فيه بألا تعبدوا سوى الله، وأمرناكم فيه كذلك، بأن تحسنوا إلى آبائكم وتقوموا بأداء ما أوجبه الله لهما من حقوق، وأن تصلوا أقرباءكم وتعطفوا على اليتامى الذين فقدوا آباءهم، وعلى المساكين الذين لا يملكون ما يكفيهم فى حياتهم، وأمرناكم فيه - أيضاً - بأن تقولوا للناس قولا حسنا فيه صلاحهم ونفعهم، وأن تحافظوا على فريضة الصلاة، وتؤدوا بإخلاص ما أوجبه الله عليكم من زكاة، ولكنكم نقضتم أنتم وأسلافكم الميثاق، وأعرضتم عنه، إلا قليلا منكم استمروا على رعايته والعمل بموجبه.
والمراد ببنى إسرائيل فى الآية الكريمة، سلفهم وخلفهم، لأن هذه الأوامر والنواهى التى تناولتها الآية الكريمة، والتى هى مضمون العهد المأخوذ عليهم، قد أخذت عليهم جميعاً على لسان أنبيائهم ورسلهم.
والدليل على أن المقصود ببنى إسرائيل ما يتناول الخلف المعاصرين منهم للعهد النبوى، قوله تعالى فى ختام هذه الآية { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } فإنه قد أسند إليهم فيه أنهم تولوا عن الميثاق معرضين، والاعراض عنه لا يكون إلا بعد أخذه عليهم كما سيأتى.
وقوله تعالى { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... } إلى قوله تعالى { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ... } بيان للميثاق وتفصيل له. وجاء التعبير بقوله تعالى { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } فى صورة الخبر المنفى والمراد منه النهى عن عبادة غير الله، لإِفادة المبالغة والتأكيد، فكأن الأمر والنهى قد امتثلا فيخبر بوقوعهما، أو أنهما لأهميتهما يخبر عنهما بأنهما سيتلقيان بحسن الطاعة حتما، فينزل ما يجب وقوعه منزلة الواقع، ويخبر عن المأمور بأنه فاعل لما أمر به ومجتنب لما نهى عنه فى الحال، وفى ذلك ما فيه من إفادة المبالغة فى وجوب امتثال الأمر والنهى.
وقد تضمنت الآية الكريمة لوناً فريداً من التوجيه المحكم الذى لو اتبعوه لحسنت صلتهم مع الخالق والمخلوق، لأنها ابتدأت بأمرهم بأعلى الحقوق وأعظمها وهو حق الله - تعالى - عليهم، بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم ثنت ببيان حقوق الناس فبدأت بأحقهم بالإِحسان وهما الوالدان لما لهما من فضل الولادة والعطف والتربية، ثم الأقارب الذين تجمع الناس بهم صلة قرابة من جهة الأب والأم، ورعايتهم تكون بالقيام بما يحتاجون إليه على قدر الاستطاعة، ثم باليتامى لأنهم فى حاجة إلى العون بعد أن فقدوا الأب الحانى، ثم بالمساكين لعجزهم عن كسب ما يكفيهم، ثم بالإِحسان إلى سائر الناس عن طريق الكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة، لأن الناس إن لم يكونوا فى حاجة إلى المال، فهم فى حاجة إلى حسن المقال، ثم أرشدتهم إلى العبادات التى تعينهم على إحسان صلتهم بالخالق والمخلوق فأمرتهم بالمداومة على الصلاة بخشوع وإخلاص، وبالمحافظة على أداء الزكاة بسخاء وطيب خاطر، ولعظم شأن هاتين العبادتين البدنية والمالية ذكرتا على وجه خاص بعد الأمر بعبادة الله، تفخيماً لشأنهما وتوكيداً لأمرهما، وكان من الواجب على بنى إسرائيل أن ينتفعوا بهذه الأوامر الحكيمة، لكنهم عموا وصموا عنها فوبخهم القرآن الكريم بقوله: { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ }.
أى: ثم توليتم - أيها اليهود - عن جميع ما أخذ عليكم من مواثيق فأشركتم بالله وعققتم الوالدين، وأسأتم إلى الأقارب واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش الأقوال، وتركنم الصلاة، ومنعتم الزكاة، وقطعتم ما أمر الله به أن يوصل.
وقوله تعالى: { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ } إنصاف لمن حافظ على العهد منهم، حيث إنه لا تخلو أمة من المخلصين الذين يرعون العهود، ويتبعون الحق، وإرشاد للناس إلى أن وجود عدد قليل من المخلصين فى الأمة، لا يمنع نزول العقاب بها متى فشا المنكر فى الأكثرين منها.
وقوله تعالى: { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } جملة حالية تفيد أن الأعراض عن الطاعة، وعدم التقيد بالمواثيق التى أقروا بها، عادة متأصلة فيهم ووصف ثابت لهم، وسجية معروفة منهم.
قال صاحب المنار: "قد يتولى الإِنسان منصرفاً عن شىء وهو عازم على أن يعود إليه ويوفيه حقه، فليس كل متول عن شىء معرضاً عنه ومهملا له طول الدوام، لذلك كان ذكر هذا القيد "وأنتم معرضون لازما لابد منه، وليس تكراراً كما يتوهم، ثم قال: وقد كان سبب ذلك التولى مع الإِعراض أن الله أمرهم ألا يأخذوا الدين إلا من كتابه فاتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله، يحلون برأيهم ويحرمون، ويبيحون باجتهادهم ويحظرون ويزيدون فى الشرائع والأحكام ويضعون ما شاءوا من الشعائر فصدق عليهم أنهم اتخذوا من دونه شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، فإن الله هو الذى يضع الدين وحده وإنما العلماء أدلاء يستعان بهم على فهم كتابه، وما شرع على ألسنة رسله...".
وخلاصة الفرق بين التفسير الذى بدأنا به وبين تفسير صاحب المنار، لقوله تعالى: { وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } أن هذه الجملة على التفسير الأول تبين عادة فى القوم تأصلت فيهم حتى كأنها سجية، والمعنى: "ثم توليتم، أى أعرضتم، وأنتم قوم عادتكم الإِعراض. وعلى تفسير صاحب المنار تكون هذه الجملة مبينة. لنوع التولى ومتممة لمعناه: والتفسير الأول - الذى سقناه أدخل فى باب الذم، وأوفى ببيان ما عليه حال اليهود.
ثم قال تعالى:
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ...وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }.