التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ
٩٧
مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ
٩٨
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فهاتان الآيتان تكشفان عن رذيلة غريبة حقاً من رذائل اليهود وهى عداوتهم لملك من ملائكة الله، لا يأكل مما يأكلون، ولا يشرب مما يشربون وإنما هو من الملائكة المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإذا فليس هناك مقتض لعداوته، فلماذا هذا التصريح منهم ببغضه وكراهيته؟
لقد سمعوا أن جبريل - عليه السلام - ينزل بالوحى من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم وهم يحسدونه على النبوة، فلج بهم الحقد والغيظ إلى أن أعلنوا عن عدائهم لجبريل - أيضاً - وهذه حماقة وجهالة منهم، لأن جبريل - عليه السلام - نزل بالخير لهم فى دينهم وفى دنياهم. ولكن الحقد والحسد إذا استوليا على النفوس جعلاها لا تفرق بين الخير والشر.
ومعنى الآيتين الكريمتين، قل - يا محمد - لهؤلاء اليهود الذين أعلنوا عداءهم لجبريل أنه لا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وإنما نزل على قلبك بأمر الله ليكون مؤيداً لما نزل قبله من الكتب السماوية وليكون هداية إلى طريق السعادة وبشارة للمؤمنين بالجنة، وقل لهم كذلك من كان معادياً لله أو لملك من ملائكته أو لرسول من رسله، فقد كفر وباء بغضب من الله، ومن غضب الله عليه، فجزاؤه الخزى وسوء المصير.
قال الإِمام ابن جرير: (أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً، على أن هذه نزلت جواباً ليهود من بنى إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وميكائيل ولى لهم).
وروى البخارى فى صحيحه - عن أنس بن مالك - رضى الله عنه - قال:
"سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبى صلى الله عليه وسلم وهو فى أرض يخترف - أى يجنى ثمارها - فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال له: إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبى، فيم أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرنى بهن جبريل آنفاً. قال: جبريل؟ قال: نعم قال ذلك عدو اليهود من الملائكة - فقرأ النبى صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ... } الآية ثم قال: أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب! وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. يا رسول الله: إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامى قبل أن تسألهم يبهتونى، فجاءت اليهود فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أى رجل فيكم عبد الله؟ قالوا: خيرنا وابن حبرنا، وسيدنا وابن سيدنا: قال أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك؟ فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: فهذا الذى كنت أخاف يا رسول الله" .
وأخرج الإِمام أحمد عن ابن عباس: "أن اليهود بعد أن سألوا النبى صلى الله عليه وسلم أسئلة أجابهم عنها، قالوا صدقت فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك. قال: وليى جبريل، لم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندما نفارقك، ولو كان وليك سواه من الملائكة لتابعناك وصدقناك، قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله - تعالى - قوله: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ... } الآيات.
وفى حديث للإِمام أحمد والترمذى والنسائى "قال اليهود للنبى صلى الله عليه وسلم بعد أن سألوه عن أشياء أجابهم عنها إنما بقيت واحدة وهي التى نتابعك إن أخبرتنا بها، إنه ليس من نبى إلا وله ملك يأتيه بالخير، فأخبرنا من صاحبك؟ قال جبريل - عليه السلام - قالوا: جبريل ذلك الذى ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذى ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان. فأنزل الله - تعالى -: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } الآية.
فيؤخذ من هذه الأحاديث وما فى معناها أن اليهود فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهرون بعداوتهم لجبريل - عليه السلام - وأن هذه المجاهرة بالعداوة، قد تكررت منهم فى مواقف متعددة بينهم وبين النبى صلى الله عليه وسلم وأن الذى حملهم على ذلك هو حسدهم له، وغيظهم من جبريل، لأنه ينزل بالوحى عليه.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: "ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من عند الله، ومع ذلك يبغضونه، وهذا أحط درجات الانحطاط فى العقل والعقيدة، ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تضافر آرائهم على الخطأ والأوهام".
وفى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ (قل) كى يرد على اليهود، تثبيت له، وتطمين لنفسه وتوبيخ لهم على معاداتهم لأمين الوحى، وهو جبريل - عليه السلام -.
وقوله تعالى: { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ }، شرط عام قصد الإِتيان به ليعلموا أن الله - تعالى - لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادى جبريل، إن وجد معاد آخر له سواهم.
وقوله تعالى: { عَلَىٰ قَلْبِكَ } زيادة تقرير للتنزيل، ببيان محل الوحى، وإشارة إلى أن السبب فى تمكنه صلى الله عليه وسلم من تلاوة القرآن الكريم، وإبلاغه للناس، ثباته فى قلبه.
وقوله تعالى: { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } معناه: فلا موجب لعداوته. لأنه نزل القرآن على قلبك يا محمد بإذن الله وأمره. وإذاً فعداوته عداوة لله فى الحقيقة والواقع، ومن هنا يتبين أن هذه الجملة تعليل لجواب الشرط وقائمة مقامه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف استقام قوله تعالى: { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ } جزاء للشرط؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته، حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب التى بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه فى إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم.
والثانى: إن عاداه أحد فالسبب فى عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقاً لكتابهم، وموافقاً له، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم، ولذلك يحرفونه ويجحدون موافقته له. كقولك: "إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه".
وقوله - تعالى -: { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أى بأمره، وهو توبيخ لهم على عداوتهم لجبريل، الذى أنزل بالقرآن بإذن الله، لا من تلقاء نفسه، وهذه حجة أولى عليهم.
وقوله تعالى: { مُصَدِّقاً } حال من الضمير العائد على القرآن الكريم، فى قوله { نَزَّلَهُ } أى أنزله حالة كونه مؤيداً للكتب السماوية التى قبله ومن بينها التوراة، وهذه حجة ثانية عليهم.
ثم عززهما بثالثة ورابعة - فقال تعالى: { وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } أى هذا القرآن الذى نزل مصدقاً لكتبكم، هو هاد إلى طريق الفلاح والنجاح، والعاقل لا يرفض الهداية التى تأتيه وتنقذه مما هو فيه من ضلالات ولو كان الواسطة فى مجيئها عدواً له، وهو - أيضاً - مبشر للمؤمنين برضا الله تعالى - عنهم فى الدنيا والآخرة، أما الضالون فقد أنذرهم بسوء العقبى فعليكم أن تتبعوا طريق الإِيمان لتكونوا من المفلحين وبذلك يكون القرآن قد أقام حججاً متعددة على حماقتهم وعنادهم وجحودهم للحق بعد ما تبين. وتكون الآية الكريمة قد مدحت القرآن بخمس صفات.
أولها: أنه منزل من عند الله وبإذنه.
وثانيها: أنه منزل على قلب النبى صلى الله عليه وسلم.
وثالثها: أنه مصدق لما نزل قبله من الكتب السماوية.
ورابعها: أنه هاد إلى الخير أبلغ هدى وأقواه.
وخامسها: أنه بشارة سارة للمؤمنين.
ثم بين - تعالى - حقيقة الأمر فيمن يعادى جبريل وأن عداوته عداوة الله - تعالى - فإنه أمين وحيه إلى رسله ليس له فى ذلك شىء إلا أن يبلغ ما أمر به فقال تعالى: { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ }.
والمعنى: أن عداوة جبريل عداوة لله، وأن عداوة محمد صلى الله عليه وسلم عداوة لله - أيضاً - فالإِيمان بالله وملائكته ورسله وحدة لا تتجزأ فمن كفر بواحد منهم فهو كافر بالجميع.
ومعنى عداوة العبد لله: كفره به ومخالفته لأوامره ونواهيه ومعنى عداوته لملائكته: إنكار فضلهم ووصفهم بما ينافى عصمتهم ورفعة منزلتهم. ومعنى عداوته لرسله: تكذيبه لهم وتعمده إلحاق الأذى بهم ومعنى عداوة الله لعبده: غضبه سبحانه - عليه، ومجازاته له على كفره. وصدر - سبحانه - الكلام باسمه الجليل تفخيماً لشأن ملائكته ورسله وإشعاراً بأن عداوتهم إنما هى عداوة له - تعالى -.
وأفرد - سبحانه - جبريل وميكال بالذكر، مع اندراجهما تحت عموم ملائكته، لتصريح اليهود بعداوة جبريل وتعظيم ميكائيل، فأفردهما بالذكر للتنبيه على أن المعاداة لأحدهما معاداة للجميع، وأن الكفر بأحدهما كفر بالآخر.
قال ابن جرير: "فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟ قيل بلى، فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما فى الآية فى جملة أسماء الملائكة؟ قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما أن اليهود لما قالت جبريل عدونا وميكائيل ولينا، وزعمت أنها كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم من أجل أن جبريل صاحبه، أعلمهم الله - تعالى - أن من كان لجبريل عدواً فإن الله عدو له وأنه من الكافرين، فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه، لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله: من كان عدواً لله وملائكته ورسله، ولسنا لله ولا لملائكته، ولا لرسله أعداء، لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصاً، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه، وكذلك قوله ورسله فلست يا محمد داخلا فيهم، فنص الله - تعالى - على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم ليقلع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم، ويحسم تمويهم أمورهم على ضعاف الإِيمان".
وقال - سبحانه - فى ختام الآية الكريمة { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } ولم يقل فإن الله عدو له أو لهم، ليدل على أن عداوة كل واحد ممن اشتملت الآية الكريمة على ذكرهم كفر وجحود، وليكون اندراجهم تحت هذا الحكم العام من باب إثبات الحكم بالدليل، وللإِشعار بأن عداوة الله - تعالى - لهم سببها كفرهم فإن الله لن يعادى قوماً لذواتهم ولا لأنسابهم، وإنما يكره لهم الكفر ويعاقبهم عليه معاقبة العدو للعدو.
قال صاحب المنار: "فهذه الآية الكريمة وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التى جاءوا بها، فهم لم يدعوا عداوة لهؤلاء كلهم، لكنهم كذلك فى نفس الأمر، فأراد أن يبين حقيقة حالهم فى الواقع، وهى أنهم أعداء الحق وأعداء كل من يمثله ويدعو إليه، فالتصريح بعداوة جبريل كالتصريح بعداوة ميكائيل الذى يزعمون أنهم يحبونه. وأنهم كانوا يؤمنون بالنبى صلى الله عليه وسلم لو كان هو الذى ينزل بالوحى عليه، ومعاداة القرآن الكريم كمعاداة سائر الكتب الإِلهية لأن المقصود من الجميع واحد فقولهم السابق وحالهم يدلان على معاداة كل من ذكر، وهذا من ضروب إيجاز القرآن الكريم التى انفرد بها".
وبهذا تكون الآيتان الكريمتان قد دمغتا اليهود بالكفر والجهالة، لمعاداتهم لجبريل وتكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وبينتا ما عليه أمرهم من خزى وهوان بسبب هذه العداوة التى لا باعث عليها إلا الحسد، وكراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
ثم أخذ القرآن فى تثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم وتسليته عما يفعله معه اليهود فقال تعالى:
{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ...بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }.