التفاسير

< >
عرض

طه
١
مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ
٢
إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ
٣
تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلْعُلَى
٤
ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ
٥
لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ
٦
وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى
٧
ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ
٨
-طه

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت السورة الكريمة بلفظ { طه }، وهذا اللفظ أظهر الأقوال فيه أنه من الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم.
وقد بينا بشىء من التفصيل عند تفسيرنا لسور: البقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس... آراء العلماء فى المقصود بهذه الحروف.
وقلنا ما خلاصته: لعل أقرب الأقوال إلى الصواب، أن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن الكريم، على سبيل الإيقاظ والتنبيه والتعجيز لمن عارضوا فى كون القرآن من عند الله - تعالى -، أو فى كونه معجزة للنبى - صلى الله عليه وسلم - دالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه.
وقيل: إن هذا اللفظ بمعنى يا رجل فى لغة بعض قبائل العرب...
وقيل: إنه اسم للرسول - صلى الله عليه وسلم - أو للسورة .. إلى غير ذلك من الأقوال التى رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها.
وقوله - سبحانه -: { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ }.
استئناف مسوق لتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من المشركين، والشقاء يأتى فى اللغة بمعنى التعب والعناء، ومنه المثل القائل "أشقى من رائض مهر" أى: أتعب. ومنه قول ابى الطيب المتنبى:

ذو العقل يشقى فى النعيم بعقلهوأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم

أى: ما أنزلنا عليك القرآن - أيها الرسول الكريم - لكى تتعب وتجهد نفسك هما وغما بسبب إعراض المشركين عن دعوتك، كما قال - تعالى -: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } وإنما أنزلناه إليك لتسعد بنزوله، ولتبلغ آياته، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.
ومنهم من يرى أن المقصود بالآية النهى عن المغالاة فى العبادة، فقد أثر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قام الليل حتى تورمت قدماه فيكون المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لكى تهلك نفسك بالعبادة، وتذيقها ألوان المشقة والتعب، فإن الله - تعالى - يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وما جعل عليكم فى الدين من حرج.
ومنهم من يرى أن الآية مسوقة للرد على المشركين، الذين قالوا: ما أنزل هذا القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا ليشقى، فيكون المراد بالشقاء ما هو ضد السعادة.
قال القرطبى ما ملخصه: "وأصل الشقاء فى اللغة العناء والتعب، أى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب، بسبب فرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم.. أى: ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر..
وروى أن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا للنبى - صلى الله عليه وسلم - إنك لتشقى لأنك تركت دين آبائك، فأريد الرد على ذلك بأن دين الإسلام، وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز، والسبب فى درك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها.
وروى أنه - عليه الصلاة والسلام - صلى بالليل حتى اسمندّت قدماه - أى: تورمت - فقال له جبريل: أبق على نفسك فإن لها عليك حقا، أى: ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك فى العبادة، وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة..
ويبدو لنا أن الآية الكريمة وإن كانت تتسع لهذه المعانى الثلاثة، إلا أن المعنى الأول أظهرها، وأقربها إلى سياق الآيات الكريمة، فإن قوله - تعالى - بعد ذلك: { إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ } بيان للحكمة التى من أجلها أنزل الله - تعالى - هذا القرآن.
أى: ما أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن لتتعب من فرط تأسفك على كفر الكافرين، وإنما أنزلناه من أجل أن يكون { تَذْكِرَةً } أى موعظة تلين لها قلوب من يخشى عقابنا، ويخاف عذابنا، ويرجو ثوابنا.
وما دام الأمر كذلك فامض فى طريقك، وبلغ رسالة ربك، ثم بعد ذلك لا تتعب نفسك بسبب كفر الكافرين، فإنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء.
وخص - سبحانه - التذكرة بمن يخشى دون غيره، لأن الخائف من عذاب الله - تعالى - هو وحده الذى ينتفع بهدايات القرآن الكريم وآدابه وتوجيهاته وأحكامه ووعده ووعيده.. كما قال - تعالى -:
{ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } وكما قال - سبحانه -: { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } أى: الساعة.
ثم بين - سبحانه - مصدر القرآن الذى أنزله - تعالى - للسعادة لا للشقاء فقال: { تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَاوَاتِ ٱلْعُلَى }.
وقوله { تَنزِيلاً } منصوب بفعل مضمر دل عليه قوله { مَآ أَنَزَلْنَا.. }. أى: نزل هذا القرآن تنزيلا ممن خلق الأرض التى تعيشون عليها، وممن خلق السماوات العلى، أى: المرتفعة. جمع العليا ككبرى وكبر، وصغرى وصغر.
ثم مدح - سبحانه - ذاته بقوله: { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } أى: الرحمن - عز وجل - استوى على عرش ملكه استواء يليق بذاته بلا كيف أو تشبيه، أو تمثيل.
قال الإمام مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وقد ذكر لفظ العرش فى إحدى وعشرين آية من آيات القرآن الكريم.
قال بعض العلماء: "أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة - ومنهم الأئمة الأربعة - إلى أنه صفة لله - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل؟ لاستحالة اتصافه - تعالى - بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه - تعالى - عما لا يليق به:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } وأنه يجب الإيمان بها كما وردت، وتفويض العلم بحقيقتها إليه - تعالى -...
ثم أكد - سبحانه - شمول ملكه وقدرته فقال: { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } من كائنات وموجودات ملكا وتصرفا وإيحاء وإماتة، وله { مَا بَيْنَهُمَا } من مخلوقات لا يعلمها إلا هو وله { مَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ } والثرى: هو التراب الندى. يقال: ثريت الأرض - كرضيت - إذا نديت ولانت بعد أن كانت جدباء يابسة.
والمقصود: وله - سبحانه - بجانب ما فى السماوات وما فى الأرض وما بينهما، ما وراء الثرى وهو تخوم الأرض وطبقاتها إلى نهايتها.
وخص - سبحانه - ما تحت الثرى بالذكر، مع أنه داخل فى قوله : { وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } لزيادة التقرير، ولتأكيد شمول ملكيته - سبحانه - لكل شىء.
وقوله - سبحانه -: { وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى } بيان لشمول علمه بكل شىء، بعد بيان شمول قدرته.
والجهر بالقول: رفع الصوت به. والسر: ما حدث به الإنسان غيره بصورة خفية. وأخفى أفعل تفضيل وتنكيره للمبالغة فى الخفاء.
والمعنى: وإن تجهر - أيها الرسول - بالقول فى دعائك أو فى مخاطبتك لربك، فربك - عز وجل - غنى عن ذلك، فإنه يعلم ما يحدث به الإنسان غيره سرا، ويعلم أيضا ما هو أخفى من ذلك وهو ما يحدث به الإنسان نفسه دون أن يطلع عليه أحد من الخلق.
قال - تعالى -:
{ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } وقال - سبحانه -: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } ومنهم من يرى أن لفظ { أَخْفَى } فعل ماض. فيكون المعنى: وإن تجهر بالقول فى ذكر أو دعاء فلا تجهد نفسك بذلك فإنه - تعالى - يعلم السر الذى يكون بين اثنين، ويعلم ما أخفاه - سبحانه - عن عباده من غيوب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما سيفعله الإنسان من أعمال فى المستقبل، قبل أن يعلم هذا الإنسان أنه سيفعلها.
قال الجمل: وقوله: { أَخْفَى } جوزوا فيه وجهين: أحدهما: أنه أفعل تفضيل. أى: وأخفى من السر. والثانى: أنه فعل ماض. أى: وأخفى الله من عباده غيبه، كقوله:
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } ثم أثنى - سبحانه - على ذاته بما هو أهل له فقال: { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ }.
أى: هو الله - تعالى - وحده الذى يجب أن يخلص الخلق له العبادة والطاعة ولا أحد غيره يستحق ذلك، وهو صاحب الأسماء { ٱلْحُسْنَىٰ } أى: الفضلى والعظمى، لدلالتها على معانى التقديس والتمجيد والتعظيم والنهاية فى السمو والكمال.
وفى الحديث الصحيح عن النبى - صلى الله عليه وسلم -:
"إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة" .
قال - تعالى -: { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقال - سبحانه - { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ.. } ثم ساقت السورة الكريمة بشىء من التفصيل جانبا من قصة موسى، التى تعتبر أكثر قصص الأنبياء ورودا فى القرآن الكريم، حيث جاء الحديث عنها فى سور: البقرة، والمائدة، والأعراف، ويونس، والإسراء، والكهف، والشعراء، والقصص.
وقد بدأت السورة حديثها عن قصة موسى ببيان اختيار الله - تعالى - له لحمل رسالته، وتبليغ دعوته قال - تعالى -: { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ... }.