التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ
١٢
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
١٣
ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ
١٤
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ
١٥
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
١٦
-المؤمنون

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

المراد بالإنسان هنا: آدم - عليه السلام -.
والسلالة: اسم لما سُلَّ من الشىء واستُخرج منه. تقول: سللت الشعرة من العجين، إذا استخرجتها منه. يقال: الولد سلالة أبيه. أى كأنه انسل من ظهر أبيه.
والمعنى: ولقد خلقنا أباكم آدم من جزء مستخرج من الطين.
والتعبير بسلالة يشعر بالقلة، إذ لفظ الفعالة يدل على ذلك، كقلامة الظفر، ونحاتة الحجر، وهى ما يتساقط عند النحت.
و "من" فى الموضعين: ابتدائية إلا أن الأولى متعلقة "بخلقنا" والثانية متعلقة بسلالة بمعنى مسلولة من الطين.
والضمير المنصوب فى قوله { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } يعود على النوع الإنسانى المتناسل من آدم - عليه السلام -.
وأصل النطفة: الماء الصافى. أو القليل من الماء الذى يبقى فى الدلو أو القربة، وجمعها نُطف ونِطَاف. يقال: نطفت القربة، إذا تقاطر ماؤها بقلة.
والمراد بها هنا: المنى الذى يخرج من الرجل، ويصب فى رحم المرأة.
والمعنى: لقد خلقنا أباكم آدم بقدرتنا من سلالة من طين، ثم خلقنا ذريته بقدرتنا - أيضاً - من منى يخرج من الرجل فيصب فى قرار مكين، أى: فى مستقر ثابت ثبوتاً مكيناً، وهو رحم المرأة.
قال القرطبى: "قوله - تعالى -: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ }: الإنسان هو آدم - عليه السلام - لأنه استل من الطين. ويجىء الضمير فى قوله { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ } عائداً على ابن آدم، وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر، فإن المعنى لا يصلح إلا له...".
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى -:
{ ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ... } وقوله - سبحانه -: { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ثم بين - سبحانه - أطواراً أخرى لخلق الإنسان تدل على كمال قدرته - تعالى - فقال: { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } أى: ثم صيرنا النطفة البيضاء، علقة حمراء إذ العلقة عبارة عن الدم الجامد.
{ فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً } أى: جعلنا بقدرتنا هذه العلقة قطعة من اللحم، تشبه فى صغرها قطعة اللحم التى يمضغها الإنسان فى فمه.
{ فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً } أى: حولنا هذه المضغة من اللحم التى لم تظهر معالمها بعد، إلى عظم صغير دقيق، على حسب ما اقتضته حكمتنا فى خلقنا.
{ فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً } أى: فكسونا هذه المضغة التى تحولت بقدرتنا إلى عظام دقيقة باللحم، بحيث صار هذا اللحم ساتراً للعظام ومحيطاً بها.
قال بعض العلماء: "وهنا يقف الإنسان مدهوشاً، أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة فى تكوين الجنين، لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيراً، بعد تقدم علم الأجنة التشريحى".
ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم وقد ثبت أن خلايا العظام هى التى تكون أولاً من الجنين، ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا الهيكل العظمى للجنين. وهى التى يسجلها النص القرآنى فى قوله - تعالى - { فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً } فسبحانه العليم الخبير.
وقوله - تعالى -: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } بيان لما انتهت إليه أطوار خلق الإنسان.
أى: ثم صيرنا هذا الإنسان بشراً سويًّا، بعد أن كان نطفة، فعلقة، فمضغة، فعظاماً، فلحماً يكسو هذه العظام، وهذا كله يدل على كمال قدرة الله - تعالى - وعلى أنه حق، إذ قدرته - سبحانه - لا يعجزها شىء.
قال صاحب الكشاف: "قوله - تعالى -: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ }، أى: خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها، حيث جعله حيواناً بعد أن كان جماداً، وناطقاً وكان أبكم، وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره - بل كل عضو من أعضائه بل كل جزء من أجزائه - عجائب فطرته، وغرائب حكمته، لا تدرك بوصف الواصف، ولا تبلغ بشرح الشارح...".
{ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } أى: فكثر خيره - سبحانه - ودام إحسانه وتقدس شأنه، فهو - عز وجل - أحسن الخالقين على الإطلاق، فقد أتقن كل شىء خلقه، وأحكم كل شىء صنعه.
ولفظ "تبارك" فعل ماض لا ينصرف، والأكثر إسناده إلى غير مؤنث.
وهو مأخوذ من البركة بمعنى الكثرة من كل خير، أو بمعنى الثبات والدوام وكل شىء دام وثبت فقد برك.
ثم بين - سبحانه - حالهم بعد أن يكونوا خلقاً آخر فقال: { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }.
أى: ثم إنكم بعد ذلك الذى ذكره - سبحانه - لكم من أطوار خلقكم تصيرون أطفالاً، فصبياناً فغلماناً، فشباناً، فكهولاً، فشيوخاً... ثم مصيركم بعد ذلك كله، أو خلال ذلك كله، إلى الموت المحتوم الذى لا مفر لكم منه، ولا مهرب لكم عنه. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون من قبوركم للحساب والجزاء.
وهكذا نجد هذه الآيات الكريمة تذكر الإنسان بأطوار نشأته. وبحلقات حياته: وبنهاية عمره. وبحتمية بعثه.
وفى هذا التذكير ما فيه من الاعتبار للمعتبرين، ومن الاتعاظ للمتعظين، ومن البراهين الساطعة على وحدانية الله - تعالى -.
وبعد أن ساق - سبحانه - ما يدل على قدرته عن طريق خلق الإنسان فى تلك الأطوار المتعددة، أتبع ذلك ببيان مظاهر قدرته عن طريق تلك الكائنات المختلفة، فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا.... }.