التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَاحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
١٩
وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
٢٠
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢١
وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٢
-النور

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإمام الرازى: "اعلم أنه - سبحانه - بعد أن بين ما على أهل الإفك، وما على من سمع منهم، وما ينبغى أن يتمسك به المؤمنون من آداب، أتبعه بقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَاحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ آمَنُواْ... } ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك فى هذا الذم، كما شارك فيه من فعله ومن لم ينكره، وليعلم أهل الإفك كما أن عليهم العقوبة فيما أظهروه، فكذلك يستحقون العقوبة بما أسروه، من محبة إشاعة الفاحشة فى المؤمنين.
ومعنى "تشيع" تنتشر وتكثر، ومنه قولهم: شاع الحديث. إذا ظهر بين الناس.
والفاحشة: هى الصفة البالغة أقصى دركات القبح، كالرمى بالزنا وما يشبه ذلك.
وهى صفة لموصوف محذوف. أى: الخصلة الفاحشة، والمقصود بمحبة شيوعها: محبة شيوع خبرها بين عامة الناس.
والمعنى: إن الذين يحبون أن تنتشر قالة السوء بين صفوف المؤمنين، وفى شأنهم، لكى يلحقوا الأذى بهم، هؤلاء الذين يحبون ذلك "لهم" بسبب نواياهم السيئة "عذاب أليم فى الدنيا" كإقامة الحد عليهم، وازدراء الأخيار لهم، ولهم - أيضا - عذاب أليم "فى الآخرة" وهو أشد وأبقى من عذاب الدنيا.
"والله" تعالى وحده "يعلم" ما ظهر وما خفى من الأمور والأحوال "وأنتم" أيها الناس - "لا تعلمون" إلا ما كان ظاهرا منها، فعاملوا الناس على حسب ظواهرهم، واتركوا بواطنهم لخالقهم، فهو - سبحانه - الذى يتولى محاسبتهم عليها.
فالآية الكريمة يؤخذ منها: أن العزم على ارتكاب القبيح، منكر يعاقب عليه صاحبه، وأن محبة الفجور وشيوع الفواحش فى صفوف المؤمنين، ذنب عظيم يؤدى إلى العذاب الأليم فى الدنيا والآخرة، لأن الله - تعالى - علق الوعيد الشديد فى الدارين على محبة انتشار الفاحشة فى الذين آمنوا.
ثم ذكر - سبحانه - المؤمنين بفضله عليهم مرة أخرى، لكى يزدادوا اعتبارا واتعاظا فقال { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }.
وجواب "لولا" محذوف، كما أن خبر المبتدأ محذوف، والتقدير: ولولا فضل الله عليكم، ورحمته بكم موجودان، لعاجلكم بالعقوبة. ولكنه - سبحانه - لم يعاجلكم بها، لأنه شديد الرأفة والرحمة بعباده، ولو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك عليها من دابة.
ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن اتباع خطوات الشيطان، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ... }.
والخطوات: جمع خطوة. وهى فى الأصل تطلق على ما بين القدمين. والمراد بها هنا: طرقه ومسالكه ووساوسه، التى منها الإِصغاء إلى حديث الإِفك، والخوض فيه. وما يشبه ذلك من الأقوال الباطلة، والأفعال القبيحة.
أى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، احذروا أن تسلكوا المسالك التى يغريكم بسلوكها الشيطان، فإن الشيطان وظيفته الإِغراء بالشر لا بالخير، والأمر بالفحشاء والمنكر، وليس بالفضائل والمعروف.
وجواب الشرط فى قوله: { وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ } محذوف، والتقدير: ومن يتبع خطوات الشيطان يقع فى الضلال والعصيان، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر.
وخاطبهم - سبحانه - بصفة الإيمان، لتحريك قوة الإيمان فى قلوبهم، ولتهييجهم على الاستجابة لما أرشدهم إليه - سبحانه -.
وقوله - سبحانه - { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً... } بيان لمظاهر فضله - تعالى - ولطفه بعباده المؤمنين.
والمراد بالتزكية هنا: التطهير من أرجاس الشرك، ومن الفسوق والعصيان.
أى: ولولا فضل الله عليكم - أيها المؤمنون - ورحمته بكم - ما طهر أحد منكم من دنس الذنوب والمعاصى طول حياته، ولكن الله - تعالى - بفضله ورحمته يطهر من يشاء تطهيره من الأرجاس والأنجاس. بأن يقبل توبته. ويغسل حوبته.
"والله" - تعالى - "سميع" لدعاء عباده ومناجاتهم إياه "عليم" بما يسرونه وما يعلنونه من أقوال وأفعال.
ثم حض - عز وجل - أصحاب النفوس النقية الطاهرة، على المواظبة على ما تعودوه من سخاء وسماحة، فقال: { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
وقد صح أن هذه الآية الكريمة نزلت فى شأن أبى بكر - رضى الله عنه - عندما أقسم أن لا يعطى مسطح بن أثاثة شيئا من النفقة أو الصدقة.
وكان مسطح قريبا لأبى بكر. وكان من الفقراء الذين تعهد - أبو بكر رضى الله عنه - بالإنفاق عليهم لحاجتهم وهجرتهم وقرابتهم منه.
وقوله: { وَلاَ يَأْتَلِ } أى: ولا يحلف. يقال: آلى فلان وائتلى. إذا حلف ومنه قوله - تعالى -:
{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ... } أى: يحلفون.
أى: ولا يحلف "أولوا الفضل منكم والسعة" أى أصحاب الزيادة منكم فى قوة الدين. وفى سعة المال " أن يؤتوا أولى القربى.." أى: على أن لا يعطوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله، شيئا من أموالهم.
فالكلام فى قوله: "أن يؤتوا" على تقدير حرف الجر، أى: لا يحلفوا على أن لا يؤتوا، وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وصلتهما مطرد، ومفعول " يؤتوا" الثانى محذوف. أى: أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله، النفقة التى تعودوا أن يقدموها لهم.
وقوله - تعالى -: { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ } تحريض على العفو والصفح. والعفو معناه: التجاوز عن خطأ المخطىء ونسيانه، مأخوذ من عفت الريح الأثر، إذا طمسته وأزالته.
والصفح: مقابلة الإِساءة بالإِحسان، فهو أعلى درجة من العفو.
أى: قابلوا - أيها المؤمنون - إساءة المسىء بنسيانها، وبمقابلتها بالإِحسان.
وقوله: { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ } أى: ألا تحبون - أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم ذنوبكم، بسبب عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم؟
فالجملة الكريمة ترغيب فى العفو والصفح بأبلغ أسلوب، وقد صح أن أبا بكر - رضى الله عنه - لما سمع الآية قال: بلى والله يا ربنا، إنا لنحب أن تغفر لنا، وأعاد إلى مسطح نفقته، وفى رواية: أنه - رضى الله عنه - ضاعف لمسطح نفقته.
قال الآلوسى: "وفى الآية من الحث على مكارم الأخلاق ما فيها. واستدل بها على فضل الصديق - رضى الله عنه - لأنه داخل فى أولى الفضل قطعا، لأنه وحده أو مع جماعة سبب النزول، ولا يضر فى ذلك الحكم لجميع المؤمنين كما هو الظاهر...".
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يرفع من شأن العفو والصفح فقال: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
أى: والله - تعالى - كثير المغفرة، وواسع الرحمة بعباده، فكونوا - أيها المؤمنون - أصحاب عفو وصفح عمن أساء إليكم.
وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بالعفو والصفح عمن استزلهم الشيطان، فخاضوا فى حديث الإِفك ثم ندموا وتابوا، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة المصريين على خبثهم وعلى محبة إشاعة الفاحشة فى صفوف الجماعة الإِسلامية فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ.... }.