التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٣٦
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٣٧
وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ
٣٨
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ
٣٩
فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
٤٠
-العنكبوت

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً.. } معطوف على مقدر محذوف، لدلالة ما قبله عليه. ومدين: اسم للقبيلة التى تنسب إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام -. وكانوا يسكنون فى المنطقة التى تسمى معان بين حدود الحجاز والشام.
وقد أرسل الله - تعالى - إليهم شعيبا - عليه السلام - ليأمرهم بعبادة الله - تعالى - وحده، ولينهاهم عن الرذائل التى كانت منتشرة فيهم، والتى من أبرزها التطفيف فى المكيال والميزان.
والمعنى: وكما أرسلنا نوحا إلى قومه، وإبراهيم إلى قومه، أرسلنا إلى أهل مدين، ورسولنا شعيبا - عليه السلام -.
{ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } أى: فقال لهم ناصحا ومرشدا، الكلمة التى قالها كل نبى لأمته: يا قوم اعبدوا الله - تعالى - وحده، واتركوا ما أنتم عليه من شرك.
وقال لهم - أيضا: وارجوا النجاة من أهوال يوم القيامة، بأن تستعدوا له بالإِيمان والعمل الصالح، ولا تعثوا فى الأرض مفسدين، فإن الإِفساد فى الأرض ليس من شأن العقلاء، وإنما هو من شأن الجهلاء الجاحدين لنعم الله - تعالى -. يقال: عَثِى فلان فى الأرض يعثو ويعثى - كقال وتعب -، إذا ارتكب اشد أنواع الفساد فيها.
فأنت ترى أن شعيبا - عليه السلام - وهو خطيب الأنبياء - كما جاء فى الحديث الشريف، قد أمر قومه بإخلاص العبادة لله، وبالعمل الصالح الذى ينفعهم فى أخراهم، ونهاهم عن الإِفساد فى الأرض، فماذا كان موقفهم منه؟
كان موقفهم منه: التكذيب والإِعراض، كما قال - سبحانه -: { فَكَذَّبُوه } أى: فيما أمرهم به، وفيما نهاهم عنه.
{ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } أى: فأهلكهم الله - تعالى - بسبب تكذيبهم لنبيهم بالرجفة، وهى الزلزلة الشديدة. رجفت الأرض، إذا اضطربت اضطرابا شديدا.
ولا تعارض هنا بين قوله - تعالى -: { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } وبين قوله - سبحانه - فى سورة الحجر:
{ { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ } لأنه يجوز أن الله - تعالى - جعل لإِهلاكهم سببين: الأول: أن جبريل - عليه السلام - صاح بهم صيحة شديدة أذهلتهم، ثم رجفت بهم الأرض فأهلكتهم. وبعضهم قال: إن الرجفة والصيحة بمعنى واحد.
وقوله - تعالى -: { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } بيان لما آل إليه أمرهم بعد هلاكهم.
والمراد بدارهم: مساكنهم التى يسكنونها، أو قريتهم التى يعيشون بها وقوله: { جَاثِمِينَ } من الجثوم، وهو للناس والطيور بمنزلة البروك للإِبل. يقال: جثم الطائر يجثم جثما وجثوما فهو جاثم - من باب ضرب -، إذا وقع على صدره ولزم مكانه فلم يبرحه.
أى: فأصحبوا فى مساكنهم هامدين ميتين لا تحس لهم حركة، ولا تسمع لهم ركزا.
ثم أشار - سبحانه - بعد ذلك إلى مصارع عاد وثمود فقال: { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ }.
وعاد: هم قوم هود - عليه السلام - وكانوا يسكنون بالأحقاف فى جنوب الجزيرة العربية، بالقرب من حضرموت.
وثمود: هم قوم صالح - عليه السلام - وكانت مساكنهم بشمال الجزيرة العربية، وما زالت مساكنهم تعرف حتى الآن بقرى صالح.
أى: وأهلكنا عادا وثمود بسبب كفرهم وعنادهم، كما أهلكنا غيرهم، والحال أنه قد تبين لكم - يا أهل مكة - وظهر لكم بعض مساكنهم، وانتم تمرون عليهم فى رحلتى الشتاء والصيف.
فقوله - سبحانه -: { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ } المقصود منه غرس العبرة والعظة فى نفوس مشركى مكة، عن طريق المشاهدة لآثار المهلكين، فإن مما يحمل العقلاء على الاعتبار، مشاهدة آثار التمزيق والتدمير، بعد القوة والتمكين.
{ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } السيئة. بسبب وسوسته وتسويله، { فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ } الحق، وعن الطريق المستقيم.
{ وَكَانُواْ } أى: عادا وثمود { مُسْتَبْصِرِينَ } أى: وكانت لهم عقول يستطيعون التمييز بها بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، ولكنهم لم يستعملوها فيما خلقت له، وإنما استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الغى على الرشد، فأخذهم الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر.
وقوله - تعالى -: { مُسْتَبْصِرِينَ } من الاستبصار بمعنى التمكن من تعقل الأمور. وإدراك خيرها من شرها، وحقها من باطلها.
ثم أشار - سبحانه - إلى ما حل بقارون وفرعون وهامان فقال: { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ } أى: وأهلكنا - أيضا - قارون، وهو الذى كان من قوم موسى فبغى عليهم، كما أهلكنا فرعون الذى قال لقومه:
{ { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } وهامان الذى كان وزيرا لفرعون وعونا له فى الكفر والظلم والطغيان.
قال الآلوسى: وتقديم قارون، لأن المقصود تسلية النبى صلى الله عليه وسلم فيما لقى من قومه لحسدهم له، وقارون كان من قوم موسى - عليه السلام - وقد لقى منه ما لقى. أو لأن حال قارون أوفق بحال عاد وثمود، فإنه كان من أبصر الناس وأعلمهم بالتوراة، ولكنه لم يفده الاستبصار شيئا، كما لم يفدهم كونهم مستبصرين شيئا...
ثم بين - سبحانه - ما جاءهم به موسى - عليه السلام - وموقفهم منه فقال: { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ } أى: جاءهم جميعا بالمعجزات الواضحات الدالة على صدقه.
{ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أى: فاستكبروا قارون وفرعون وهامان فى الأرض. وأبوا أن يمؤمنوا بموسى، بل وصوفه بالسحر وبما هو برئ منه.
{ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } اى: وما كانوا بسبب استكبارهم وغرورهم هذا، هاربين أو نجاين من قضائنا، فيهم، ومن إهلاكنا لهم.
فقوله: { سَابِقِينَ } من السبق، بمعنى التقدم على الغير. يقال فلان سبق طالبه، إذا تقدم عليه دون أن يستطيع هذا الطالب إدراكه.
والمراد أن قارون وفرعون وهامان، لم يستطيعوا - رغم قوتهم وغناهم - أن يفلتوا من عقابنا، بل أدركهم عذابنا إدراكا تاما فأبادهم وقضى عليهم.
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن هؤلاء المكذبين، ببيان سنة من سننه التى لا تتخلف، فقال: { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ }.
أى: فكلا من هؤلاء المذكورين كقوم نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وهود وصالح، وكقارون وفرعون وهامان وأمثالهم: كلا من هؤلاء الظالمين أخذناه وأهلكناه بسبب ذنوبه التى اصر عليها دون أن يرجع عنها.
{ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } أى: فمن هؤلاء الكافرين من أهلكناه، بأن أرسلنا عليه ريحا شديدة رمته بالحصباء فأهلكته.
قال القرطبى: قوله: { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } يعنى قوم لوط. والحاصب ريح يأتى بالحصباء، وهى الحصى الصغار. وتستعمل فى كل عذاب.
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ } كما حدث لقوم صالح وقوم شعيب - عليهما السلام -.
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ } وهو قارون.
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } كما فعلنا مع قوم نوح ومع فرعون وقومه.
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أى: وما كان الله - تعالى - مريدا لظلمهم، لأنه - سبحانه - اقتضت رمته وحكمته، أن لا يعذب أحدا بدون ذنب ارتكبه.
{ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أى: ما ظلم الله - تعالى - هؤلاء المهلكين، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم، وعرضوها للدمار، بسبب إصرارهم على كفرهم، واتباعهم للهوى والشيطان.
وبذلك نرى الآيات قد قصت على النسا مصارع الغابرين، الذين كذبوا الرسل، وحاربوا دعوة الحق، ليكون فى هذا القصص عبرة للمعتبرين، وذكرى للمتذكرين.
ثم ضرب الله مثلا، لمن يتخذ آلهة من دونه: وتوعد من يفعل ذلك بأشد أنواع العذاب، فقال - تعالى -: { مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ...إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } .