التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ
٩٨
قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٩٩
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ
١٠٠
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٠١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ
١٠٢
وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٠٣
وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٠٤
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠٥
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: مر شاس بن قيس - وكان شيخاً قد عسا فى الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم - مر على نفر من الصحابة من الأوس والخزرج فى مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإِسلام، بعد الذى كان بينهم من العداوة فى الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأ بنى قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر شابا من اليهود كان معه فقال له: اعمد إليهم فاجلس معهم، وذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار - وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج - ففعل. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب: أوس بن قيظى من الأوس، وجبار بن صخر من الخزرج. فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله ردناها الآن جذعة، وغضب الفريقان وقالوا: قد فعلنا، السلاح موعدكم الظاهرة - والظاهرة: الحرة - فخرجوا إليها وتحاور الناس. فانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض، على دعواهم التى كانوا عليها فى الجاهلية. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم. فقال يا معشر المسلمين: الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإِسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس، وما صنع.
فأنزل الله فى شاس بن قيس وما صنع { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ } الآية وأنزل فى أوس بن قيظى وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ }... إلى قوله { وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } - فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم -.
وقوله - تعالى - : { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أمر من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يوبخ هؤلاء اليهود ومن لف لفهم على مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإِسلامية، وإيذاء أتباعها ومحاولتهم صرف الناس عنها.
أى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين كفروا بالحق بعد أن جاءتهم البينات: لم تعاندون الحق وتكفرون بآيات الله السمعية والعقلية الدالة على صدقى فيما أبلغه عن ربى، والحال أن الله مطلع عليكم وعالم علم المعاين المشاهد أعمالكم الظاهرة والخفية، وسيجازيكم عليها بما تستحقونه من عقاب أليم.
فالآية الكريمة قد تضمنت تأنيبهم على الكفر، وتهديدهم بالعقاب إذا استمروا فى مسالكهم الأثيمة.
ولكى يكون التأنيب أوجع، أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يناديهم بقوله: { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ }، لأن علمهم بالكتاب يستلزم منهم الإِيمان، والإِذعان للحق، ولكنهم اتخذوا علمهم وسيلة للشرور والتضليل فكان مسلكهم هذا دليلاً على فساد فطرتهم، وخبث طويتهم، وسوء طباعهم.
وبعد أن أنبهم القرآن الكريم فى هذه الآية على كفرهم وضلالهم، أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم فى آية ثانية أن يوبخهم على محاولتهم إضلال غيرهم فقال - تعالى -: { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } وقوله: { تَصُدُّونَ } من الصد وهو صرف الغير عن الشىء ومنعه منه. يقال: صد يصد صدودا، وصدا.
وقوله: { سَبِيلِ ٱللَّهِ } أى طريقه الموصلة إليه وهى ملة الإِسلام.
وقوله: { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } أى تطلبون لها العوج. يقال: بغيت له كذا أى طلبته والعوج - بكسر العين - الميل والزبغ فى الدين والقول والعمل وكل ما خرج عن طريق الهدى إلى طريق الضلال فهو عوج. والعوج - بفتح العين - يكون فى المحسوسات كالميل فى الحائط والرمح وكل شىء منتصب قائم أى أن مكسور العين يكون فى المعانى ومفتوحها فى الأعيان.
والمعنى: قل يا محمد لأهل الكتاب مرة أخرى مبالغة فى تقريعهم وإزاحة لأعذارهم. لأى شىء تصرفون المؤمنين عن الإِيمان الحق، وتمنعون من آمن بالنبى صلى الله عليه وسلم عن الاستمرار على اتباعه، وتثيرون الفتنة والوقيعة بين أصحابه.
وقوله: { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } أى تطلبون العوج والميل لسبيل الله الواضحة والميل بها عن القصد والاستقامة، وتريدون أن تكون ملتوية غير واضحة فى أعين المهتدين، كما التوت نفوسكم، وانحرفت عقولكم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت كيف قال تبغونها عوجا وهو محال؟ قلت: فيه معنيان:
أحدهما: أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها اعوجاجا بقولكم إن شريعة موسى لا تنسخ، وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها وغير ذلك.
والثانى: أنكم تتعبون أنفسكم فى إخفاء الحق ابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم".
وقوله: { مَنْ آمَنَ } مفعول به لتصدون. والضمير المنصوب فى قوله: { تَبْغُونَهَا } يعود إلى سبيل الله أى تبغون لها فحذفت اللام كما فى قوله - تعالى -: { وَإِذَا كَالُوهُمْ } أى كالوا لهم. وقوله: { عِوَجاً } مفعول به لتبغون.
وبعضهم جعل الضمير المنصوب فى { تَبْغُونَهَا } وهو الهاء هو المفعول. وجعل عوجا حال من سبيل الله. أى تبغونها أن تكون معوجة وتريدونها فى حال عوج واضطراب.
وقوله: { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } حال من فاعل { تَصُدُّونَ } أو { تَبْغُونَ }.
أى والحال أنكم تعلمون بأن سبيل الإِسلام هى السبيل الحق علم من يعاين ويشاهد الشىء على حقيقته فجحودكم عن علم وكفركم ليس عن جهل، ولقد كان المتوقع منكم يا من ترون الحق الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فى كتابكم، أن تكونوا أول الساعين إلى الإِيمان به، ولكن الحسد والعناد حالا بينكم وبين الانتفاع بالنور الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } تهديد لهم ووعيد على ضلالهم ومحاولتهم إضلال غيرهم، لأنه - سبحانه - ليس غافلا عن أعمالهم، بل هو سيجازيهم على هذه المسالك الخبيثة بالفشل والذلة فى الدنيا، وبالعذاب والهوان فى الآخرة ولما كان صدهم المؤمنين بطريق الخفية ختمت الآية الكريمة بما يحسم مادة حياتهم، ببيان أن الله - تعالى - محيط بكل ما يصدر عنهم من أقوال أو أعمال وليس غافلا عنها. بخلاف الآية الأولى فقد كان كفرهم بطريق العلانية إذ ختمت ببيان أن الله مشاهد لما يعملونه ولما يجاهرون به.
وبعد أن بين - سبحانه - فى هاتين الآيتين أن اليهود قد جمعوا الخستين ضلال أنفسهم، ثم محاولتهم تضليل غيرهم، تركهم مؤقتا فى طغيانهم يعمهون، ووجه نداء إلى المؤمنين يحذرهم فيه من دسائس اليهود وكيدهم، وينهاهم عن الركون إليهم، والاستماع إلى مكرهم فقال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }.
والمعنى: إنكم أيها المؤمنون إن استمعتم إلى ما يلقيه بعض أهل الكتاب بينكم من دسائس ولنتم لهم، لا يكتفون بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم كما فى الجاهلية، بل يتجاوزون ذلك إلى محاولتهم إعادتكم إلى وثنيتكم القديمة وكفركم بالله بعد إيمانكم.
وقد خاطب الله المؤمنين بذاته فى هذه الآية بعد أن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب أهل الكتاب فى الآيتين السابقتين، إظهارا لجلالة قدرهم، وأشعارا بأنهم الأحقاء بالمخاطبة من الله - تعالى -.
وناداهم بصفة الإِيمان لتحريك حرارة العقيدة فى قلوبهم وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإِيمان من فطنة ويقظة فالمؤمن ليس خبا ولكن الخب لا يخدعه.
وفى التعبير "بأن" فى قوله: { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً } إشارة إلى أن طاعتهم لليهود ليست متوقعة، لأن إيمانهم يمنعهم من ذلك.
ووصف - سبحانه - الذين يحاولون الوقيعة بين المؤمنين بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب، إنصافا لمن لم يفعل ذلك منهم.
ونعتهم بأنهم { أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } للإِشعار بأن تضليلهم، متعمد وبأن تآمرهم على المؤمنين مقصود، فهم أهل كتاب وعلم، ولكنهم استعملوا علمهم فى الشرور والآثام.
وقوله: { يَرُدُّوكُم } أصل الرد الصرف والإِرجاع، إلا أنه هنا مستعار لتغير الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشاعر:

فرد شعورهن السود بيضاًورد وجوههن البيض سوداً

أى: يصيروكم بعد إيمانكم كافرين: والكاف مفعوله الأول وكافرين مفعوله الثانى.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى آية آخرى:
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ } ثم بين القرآن بعد ذلك أنه ما يسوغ للمؤمنين أن يطيعوا هذا الفريق من الذين أوتوا الكتاب، أو أن يكفروا بعد إيمانهم، أو أن يتفرقوا بعد وحدتهم فقال - تعالى -: { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ }، الاستفهام فى قوله: { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } للانكار، ولاستبعاد كفرهم فى حال اجتمع لهم فيها كل الأسباب الداعية إلى الإِيمان.
أى: كيف يتصور منكم الكفر، أو يسوغ لكم أن تسيروا فى أسبابه وآيات الله تقرأ على مسامعكم غضة طرية صباح مساء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيكم، يردكم إلى الصواب إن أخطأتم، ويزيح شبهكم إن التبس عليكم أمر.
وفى هذا ما يومىء إلى إلقاء اليأس فى قلوب هذا الفريق من اليهود من أن يصلوا إلى ما يبغونه بين المؤمنين فى وقت يذكر النبى صلى الله عليه وسلم المؤمنين بما ينفعهم؛ ويحذرهم مما يؤذيهم ويضرهم.
وفى توجيه الإِنكار والاستبعاد إلى كيفية الكفر مبالغة، لأن كل موجود لا بد أن يكون وجوده على حال من الأحوال، فإذا أنكر ونفى فى جميع الأحوال انتفى وجوده بالكلية بالطريق البرهانى.
وقوله: { وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } جملتان حاليتان من فاعل { تَكْفُرُونَ } وهو ضمير الجماعة. وهاتان الجملتان هما محط الانكار والاستبعاد.
أى أن كلا تلاوة آيات الله وإقامة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، وازع لهم عن الكفر، ودافع لهم إلى التمسك بعرى الإِيمان.
ففى الآية الكريمة دلالة على عظمة قدر الصحابة، وأن لهم وازعين عن مواقعة الضلال: سماع القرآن، ومشاهدة أنوار الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن وجوده عصمة من ضلالهم.
قال قتادة: أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة الله، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.
ثم أرشد الله - تعالى - المؤمنين إلى الوسيلة التى متى تمسكوا بها عصموا أنفسهم من مكر اليهود فقال - تعالى - { وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
أى ومن يلتجىء إلى الله فى كل أحواله ويتوكل عليه حق التوكل، ويتمسك بدينه، فقد هدى إلى الطريق الذى لا عوج فيه ولا انحراف.
وفى هذا إشارة إلى أن التمسك بدين الله وبكتابه كفيل بأن يبعد المسلمين الذين لم يشاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم عما يبيته لهم أعداؤهم من مكر وخداع.
قال ابن جرير ما ملخصه: وأصل العصم: المنع، فكل مانع شيئاً فهو عاصمه، والممتنع به معتصم به ولذلك قيل للحبل: عصام، وللسبب الذى يتسبب به الرجل إلى حاجته عصام، وأفصح اللغتين: إدخال الباء كما قال - عز وجل - { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } وقد جاء اعتصمته.
ثم أمر الله - تعالى - المؤمنين بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات، فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ }.
وقوله { حَقَّ تُقَاتِهِ } التقاة مصدر وهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها إذ الأصل: اتقوا الله التقاة الحق. أى: الثابتة، كقولك ضربت زيدا أشد الضرب تريد الضرب الشديد وقيل التقاة اسم مصدر من اتقى كالتؤدة من اتأد.
والمعنى" بالغو أيها المؤمنون فى التمسك بتقوى الله ومراقبته وخشيته حتى لا تتركوا منها شيئاً ولا تكونن على ملة سوى ملة الإِسلام إذا أدرككم الموت، وإنما عليكم أن تستمروا على دينكم القويم حتى يأتيكم الأجل الذى لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون.
وقد ساق ابن كثير بعض الآثار التى وردت عن بعض السلف فى تفسير هذه الآية الكريمة فمن ذلك ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال فى معنى الآية { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }: أن يطاع فلا يُعصى. وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر".
وروى عن أنس أنه قال: لا يتقى الله العبد حق تقاته حتى يُخزن لسانه.
وقوله { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } هو نهى فى الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة والمراد دوامهم على الإِسلام وذلك أن الموت لا بد منه فكأنه قيل: دوموا على الإِسلام إلى أن يدرككم الموت فتموتوا على هذه الملة السمحاء وهى ملة الإِسلام، لكى تفوزوا برضا الله وحسن ثوابه.
والجملة الكريمة فى محل نصب على الحال من ضمير الجماعة فى { ٱتَّقُواْ }.
والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال: أى لا تموتن على حالة من الأحوال إلى على هذه الحالة الحسنة التى هى حالة المداومة على التمسك بالإِسلام وتعاليمه وآدابه.
وقال صاحب الكشاف: قوله { وَلاَ تَمُوتُنَّ } معناه ولا تكونن على حال سوى حال الإِسلام إذا أدرككم الموت، وذلك كأن تقول لمن تستعين به على لقاء العدو: لا تأتنى إلا وأنت على حصان، فأنت لاتنهاه عن الإِتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التى شرطت عليه فى وقت الإِتيان".
وبعد أن أمرهم - سبحانه - بمداومة خشيته، والاستمرار على دينه أتبع ذلك بأمرهم بالاعتصام بدينه وبكتابه فقال - تعالى - { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ }.
فهذه الآية الكريمة تأكيد لما اشتملت عليه سابقتها من مداومة التقوى والطاعة لله رب العالمين.
والاعتصام: افتعال من عصم وهو طلب مايعصم أى يمنع من السقوط والوقوع.
وأصل الحبل: ما يشد به للارتقاء أو التدلى أو للنجاة من غرق أو نحوه، أو للوصول إلى شىء معين.
والمراد بحبل الله هنا: دينه، أو عهده، أو كتابه، لأن التمسك بهذه الأشياء يوصل إلى النجاة والفلاح.
والمعنى: كونوا جميعا مستمسكين بكتاب الله وبدينه وبعهوده، ولا تتفرقوا كما كان شأنكم فى الجاهلية بضرب بعضكم رقاب بعض، بل عليكم أن تجتمعوا على طاعة الله وأن تكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. وبذلك تفوزون وتسعدون وتنتصرون على أعدائكم.
ففى الجملة الكريمة استعارة تمثيلية حيث شبه - سبحانه - الحالة الحاصلة من تمسك المؤمنين بدينه وبكتابه وبعهوده وبوحدة كلمتهم، بالحالة الحاصلة من تمسك جماعة بحبل وثيق مأمون الانقطاع ألقى إليهم من منقذ لهم من غرق أو سقوط أو نحوهما.
وإضافة الحبل إلى الله - تعالى - قرينة على هذا التمثيل.
وقوله { جَمِيعاً } حال من ضمير الجماعة فى قوله { وَٱعْتَصِمُواْ }.
فالجملة الكريمة تأمر المسلمين جميعا أن يعتصموا بعهود الله وبدينه. وبكتابه، وأن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وأن ينبذوا التفرق والاختلاف الذى يؤدى إلى ضعفهم وفشلهم.
قال الفخر الرازى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: واعلم أن كل من يمشى على طريق دقيق يخاف أن ينزلق رجله، فإنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبى ذلك الطريق أمن من الخوف. ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق، وقد انزلقت أرجل كثيرة من الخلق عنه، فمن اعتصم بدلائل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف فكان المراد من الحبل هنا: كل شىء يمكن التوصل به إلى الحق فى طريق الدين، وهو أنواع كثيرة فمنهم من قال المراد به عهد الله.. ومنهم من قال المراد به القرآن، فقد جاء فى الحديث
"هو حبل الله المتين" ومنهم من قال المراد به طاعة الله... وهذه الأقوال كلها متقاربة والتحقيق ما ذكرنا من أنه لما كان النازل فى البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط فى جهنم، جعل ذلك حبلا لله وأمروا بالاعتصام به. ثم أمرهم - سبحانه - بتذكر نعم الله عليهم فقال: { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا }.
قوله { شَفَا حُفْرَةٍ } الشفا طرف الشىء وحرفه مثل شفا البئر، وشفا الحفرة ومنه يقال: فلان أشفى على الشىء إذا أشرف عليه، كأنه بلغ شفاه أى حده وحرفه.
والمعنى: واذكروا أيها المؤمنون وتنبهوا بعقولكم وقلوبكم إلى نعمة الله عليكم بتأليف نفوسكم ورأب صدوعكم، فقد كنتم فى الجاهلية أعداء متقاتلين متنازعين، فألف بين قلوبكم بأخوة الإِسلام فأصبحتم متحابين متناصحين متوادين وكنتم على وشك الوقوع فى النار بسبب اختلافكم وضلالكم فمن الله عليكم وأنقذكم من التردى فيها بهدايتكم إلى الحق عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أرسله ربه رحمة للعالمين. إذا فمن الواجب عليكم وفاء لهذه النعم أن تشكروا الله عليها وأن تطيعوا رسولكم صلى الله عليه وسلم وأن تتمسكوا بعرى المحبة والمودة والأخوة فيما بينكم.
قال ابن كثير: قوله - تعالى - { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً } .. إلخ. هذا السياق فى شأن الأوس والخزرج، فإنه كان بينهم حروب كثيرة فى الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإِسلام. فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين فى ذات الله، متعاونين على البر والتقوى وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها إذ هداهم للإِيمان وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم بما فضل عليهم فى القسمة بما رآه، فخطبهم فقال يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى، وكنتم متفرقين فألفكم الله بى، وعالة فأغناكم الله بى؟ فكانوا كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أَمَنّ".
وفى هذه الآية الكريمة تصوير بديع مؤثر لحالة المسلمين قبل الإِسلام وحالتهم بعد الإِسلام.
فقد صور - سبحانه - حالهم وترديهم فى الكفر والاختلاف والتقاتل قبل أن يدخلوا فى الإِسلام بحال من يكون على حافة حفرة من النار يوشك أن يقع فيها.
وصور هدايته لهم إلى سبيل الحق والمحبة والإِخاء بدخولهم فى الإِسلام عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم بحالة من يبعد غيره عن التردى فى النار وينقذه من الوقوع فيها.
قال صاحب الكشاف: "والضمير المجرور فى قوله { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } يعود للحفرة أو للنار أو للشفا، وإنما أنث لإِضافته إلى الحفرة - فاكتسب التأنيث من المضاف إليه - كما قال: كما شرقت صدر القناة من الدم... وشفا الحفرة وشفتها: حرفها بالتذكير والتأنيث.
فإن قلت: كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت: لو ماتوا على ماكانوا عليه وقعوا فى النار "فمثلت حياتهم التى يتوقع بعدها الوقوع فى النار بالقعود على حرفها، مشفين - أى مشرفين - على الوقوع فيها".
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }.
أى كهذا البيان الواضح الذى سمعتموه فى هذه الآيات، يبين الله لكم دائما من آياته ودلائله وحججه ما يسعدكم فى الدنيا والآخرة، وما يأخذ بيدكم إلى وسائل الهداية وأسبابها، رجاء أن تكونوا ممن رضى الله عنهم وأرضاهم بسبب اهتدائهم إلى الصراط المستقيم.
وبعد أن أمرهم - سبحانه - بتكميل أنفسهم عن طريق خشيته وتقواه والاعتصام بدينه وبكتابه، عقب ذلك بأمرهم بالعمل على تكميل غيرهم وإصلاح شأنه عن طريق دعوته إلى الخير وإبعاده عن الشر فقال - تعالى -
{ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ }.
الأمة: الجماعة التى تؤم وتقصد لأمر ما وتطلق على أتباع الأنبياء كما تقول: نحن من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى الرجل الجامع للخير الذى يقتدى به كقوله - تعالى -
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } وعلى الدين والملة كقوله - تعالى - { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } وعلى الحين والزمان كقوله - تعالى -: { وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } والمراد بالأمة هنا الطائفة من الناس التى تصلح لمباشرة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
والمراد بالخير ما فيه صلاح للناس دينى أو دنيوى.
والمراد بالمعروف ما حسنه الشرع وتعارف العقلاء على حسنه والمنكر ضد ذلك.
والمعنى: ولتكن منكم أيها المؤمنون طائفة قوية الإِيمان عظيمة الإِخلاص، تبذل أقصى طاقتها وجهدها فى الدعوة إلى الخير الذى يصلح من شأن الناس، وفى أمرهم بالتمسك بالتعاليم وبالأخلاق التى توافق الكتاب والسنة والعقول السليمة، وفى نهيهم عن المنكر الذى يأباه شرع الله، وتنفر منه الطباع الحسنة.
وقوله: { وَلْتَكُن } صيغة وجوب من الله - تعالى - على كل من يصلح لمهمة الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
وتكن إما من كان التامة أى: ولتوجد منكم أمة. فيكون قوله: { أُمَّةٌ } فاعلا لتكن وجملة { يَدْعُونَ } صفة لأمة، و { مِّنْكُمْ } متعلق بتكن.
وإما من كان الناقصة فيكون قوله: { أُمَّةٌ } اسمها، وجملة { يَدْعُونَ } خبرها، وقوله { مِّنْكُمْ } متعلق بكان الناقصة، أو بمحذوف وقع حالا من أمة.
و { مِّنْ } فى قوله - تعالى - { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } يرى أكثر العلماء أنها للتبعيض.
أى: ليكن بعض منكم أمة أى طائفة تبذل جهدها فى تبليغ رسالات الله وفى دعوة الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
وفى هذا التبعيض وتنكير أمة تنبيه على قلة العاملين بذلك وأنه لا يخاطب به إلا الخواص. ومن هذا الأسلوب قوله - تعالى -:
{ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } فقد وجه الخطاب إلى نفس منكرة تنبيها على قلة الناظر فى معاده.
وعلى هذا فكأن الآية الكريمة قد اشتملت على طلبين:
أحدهما: وجه إلى الأمة كلها يطالبها بأن تعد طائفة من بينها لهذه المهمة السامية وهى دعوة الناس إلى الخير وأن تزود هذه الطائفة الصالحة لهذه المهمة بكل ما يمكنها من أداء مهمتها.
وثانيهما: موجه إلى تلك الطائفة الصالحة لهذه المهمة، بأن تخلص فيها، وتؤديها على الوجه الأكمل الذى يرضى الله - تعالى -
ويرى بعض العلماء أن "من" فى قوله - تعالى - { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } بيانية.
فيكون المعنى أن الأمة كلها عليها واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا على سبيل الفرض الكفائى، بل على سبيل الفرض العينى.
أى: لتكونوا أيها المؤمنون جميعا أمة تدعون إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فمن هنا ليس المراد بها التبعيض على هذا الرأى بل المراد بها البيان، وذلك كقولك: لفلان من أولاده جند، وللأمير من غلمانه عسكر، تريد بذلك جميع أولاده وغلمانه.
ويبدو لنا أن الرأى الأول وهو أن "من" للتبعيض أقرب إلى الصواب، لأن الأمة كلها برجالها ونسائها وشبابها وشيوخها لا تصلح لهذه المهمة السامية، وإنما يصلح لها من يجيدها ويحسنها بأن تكون عنده القدرة العقلية، والعلمية، والنفسية، والخلقية، لأدائها.
ولذا قال صاحب الكشاف مرجحا أن "من" للتبعيض: قوله: { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } من للتبعيض، لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات، لأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعلم كيف يرتب الأمر فى إقامته وكيف يباشره فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم فى مذهبه وجهله فى مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر. وقد يغلظ فى موضع اللين، ويلين فى موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، أو على من الإِنكار عليه عبث.
وقيل "من" للتبيين، بمعنى: وكونوا أمة تأمرون، كقوله - تعالى -
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } وقوله - تعالى - { وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } معطوف على قوله: { يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ } من باب عطف الخاص على العام.
وفائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا على هذين الوجهين وهما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لأنهما أشرف ألوان الدعوة إلى الخير.
وقوله: { يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ } المفعول فيه محذوف وكذلك فى قوله: "يأمرون وينهون" والتقدير يدعون الناس إلى الخير ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر.
وحذف المفعول للإِيذان بظهوره. أو للقصد إلى إيجاد نفس الفعل. أى يفعلون الدعاء إلى الخير، أو لقصد التعميم أى يدعون كل من تتأتى له الدعوة.
وقد ختم - سبحانه - الآية الكريمة بتبشير هؤلاء الداعين إلى الخير بالفلاح فقال { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } والفلاح هو الظفر وإدراك البغية.
أى: وأولئك القائمون بواجب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هم الكاملون فى الفلاح والنجاح، ولا يمكن أن يفلح سواهم ممن لم يقم بهذا الواجب الذى هو مناط عزة الجماعات والأفراد، وأساس رفعتهم وقوتهم وسعادتهم.
قال بعض العلماء: فى الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يرتفع سنامها ويكمل نظامها.
وقال الإِمام الغزالى: فى هذه الآية بيان الإِيجاب. فإن قوله: { وَلْتَكُن } أمر. وظاهر الأمر الإِيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوط به. إذ حصر وقال: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين وأنه إذا قام به البعض سقط الفرض عن الآخرين، إذ لم يقل كونوا كلكم آمرين بالمعروف، بل قال: { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } وإن تقاعد عنه الخلق جميعا عم الإِثم كافة القادرين عليه لا محالة.
هذا وقد وردت أحاديث متعددة فى فضل الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفى بيان العاقبة السيئة التى تترتب على ترك هذا الواجب، ومن ذلك:
ما رواه مسلم والترمذى وابن ماجة والنسائى عن أبى سعيد الخدرى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإِيمان" .
وروى الترمذى عن جابر بن عبد الله عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" .
وروى الشيخان عن جرير بن عبد الله قال: بايعت النبى صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقننى فيما استطعت والنصح لكل مسلم.
وروى أبو داود والترمذى وابن ماجه والنسائى عن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - قال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" .
وبعد أن أمر الله - تعالى - بالمواظبة على الدعوة إلى الخير، عقب ذلك بنهيهم عن التفرق والاختلاف فقال: { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ }.
أى: ولا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك اليهود والنصارى وغيرهم من الذين تفرقوا شيعا وأحزابا، وصار
{ { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } واختلفوا فيما بينهم اختلافا شنيعا، وقد ترتب على ذلك أن كفر بعضهم بعضا، وقاتل بعضهم بعضا، وزعم كل فريق منهم أنه على الحق وغيره على الباطل، وأنه هو وحده الذى يستطيع أن يدرك ما فى الكتب السماوية من حقائق، وهو وحده الذى يستطيع تفسيرها تفسيرا سليما.
ولقد كان تفرقهم هذا واختلافهم { مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } أى الآيات والحجج والبراهين الدالة على الحق، والداعية إلى الاتحاد والوئام لا إلى التفرق والاختلاف.
وقوله: { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ } معطوف على قوله { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ } ويرجع إلى قوله من قبل { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } لما فيه من تمثيل حال التفرق فى أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أحوال اليهود وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يفضى إلى التفرق والاختلاف إذ يترتب على هذا الترك أن تكثر المنازعات والأهواء والمظالم، وتنشق الأمة بسبب ذلك انشقاقا شديدا.
والمقصود بهذا النهى إنما هو التفرق والاختلاف فى أصول الدين وأسسه، أما الفروع التى لا يصادم الخلاف فيها نصا صحيحا من نصوص الدين فلا تندرج تحت هذا النهى، فنحن نرى أن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم والتابعين من بعدهم قد اختلفوا فيما بينهم فى بعض المسائل التى لا تخالف نصا صحيحا من نصوص الشريعة وتأولها كل واحد أو كل فريق منهم على حسب فهمه الذى أداه إليه اجتهاده.
ومن الأحاديث التى ذمت الاختلاف فى الدين ما رواه أبو داود والإِمام أحمد عن أبى عامر عبد الله بن يحيى قال:
"حججنا مع معاوية بن أبى سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى الظهر فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتابين افترقوا فى دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعنى الأهواء - كلها فى النار إلا واحدة - وهى الجماعة - وأنه سيخرج فى أمتى أقوام تجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه. لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاءكم به نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به" .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان سوء عاقبة المتفرقين، والمختلفين فى الحق فقال { وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أى وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الذميمة لهم عذاب عظيم بسبب تفرقهم واختلافهم الباطل.
فأنت ترى أن القرآن الكريم قد نهى المؤمنين عن التفرق والاختلاف بأبلغ تعبير وألطف إشارة، وذلك بأن بين لهم حسن عاقبة المعتصمين بحبل الله دون أن يتفرقوا، وما بشر به - سبحانه - المواظبين على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أنهم هم المفلحون الفائزون.
ثم بين لهم بعد ذلك سوء عاقبة التفرقة والاختلاف الذى وقع فيه من سبقهم من اليهود والنصارى وكيف أنه ترتب على تفرقهم واختلافهم أن كفر بعضهم بعضا. وقاتل بعضهم بعضا، ورمى بعضهم بعضا بالزيغ والضلال.
هذا فى الدنيا، أما فى الآخرة فلهؤلاء المتفرقين والمختلفين العذاب العظيم من الله - تعالى -
فالقرآن قد أتى بالأوامر ومعها الأسباب التى تدعو إلى الاستجابة لها، وأتى بالنواهى ومعها كذلك الأسباب التى تحمل على البعد عنها.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت مسلكا من مسالك اليهود الخبيثة لكيد الإِسلام والمسلمين، ووبختهم على ذلك توبيخا موجعا، وفضحتهم على مر العصور والدهور، وحذرت المؤمنين من شرورهم، وأرشدتهم إلى ما يعصمهم من كيدهم. وذكرتهم بنعم الله الجليلة عليهم، وأمرتهم بالمواظبة على الدعوة إلى الخير. ونهتهم عن التفرق والاختلاف لكى يسعدوا فى دينهم ودنياهم.
ثم حذر الله - تعالى - الناس من أهوال يوم القيامة، وأمرهم بأن يتسلحوا بالإِيمان وبالعمل الصالح حتى ينجوا من عذابه فقال: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ... }.