التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ
١٠
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١١
قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
١٢
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
١٣
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الوقود - بفتح الواو - هو ما توقد به النار كالحطب وغيره. وأصله من وقدت النار تقد إذا اشتعلت. والوقود - بضم الواو - المصدر عند أكثر اللغويين.
والمعنى: إن الذين كفروا بالحق لما جاءهم، وعموا وصموا عن الاستجابة له، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم يوم القيامة، ولن تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله الذى استحقوه بسبب كفرهم، واغترارهم بكثرة المال، وعزة النفر، وقوة العصبية وقد أكد - سبحانه - هذا الحكم ردا على مزاعمهم الباطلة من أن ذلك سينفعهم فقد حكى القرآن عنهم أنهم قالوا:
{ { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } فبين - سبحانه - أنه بسبب كفرهم الذى أصروا عليه، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم أى نفع من وقوع عذاب الله عليهم.
ومن فى قوله { مِّنَ ٱللَّهِ } لابتداء الغاية و { شَيْئاً } منصوب على المصدرية. أى شيئا من الاغناء. أو النفع، لأن الذى ينفع الناس يوم القيامة إنما هو إيمانهم وعملهم الصالح.
والإِشارة فى قوله { وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } لأولئك الكافرين الذين غرهم بالله الغرور. أى: وأولئك الكافرون الذين اغتروا بأموالهم وأولادهم ولم يعيروا أسماعهم أى التفات إلى الحق هم وقود النار أى حطبها. أى أن النار يشتد اشتعالها فيهم حتى لكأنهم هم مادتها التى بها تتقد وتشتعل.
وجىء بالإِشارة فى قوله { وَأُولَـٰئِكَ } لاستحضارهم فى الأذهان حتى لكأنهم بحيث يشار إليهم، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيأتى من الخبر وهو قوله { هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ }. وكانت الاشارة للبعيد، للإِشعار بغلوهم فى الكفر، وانغماسهم فيه إلى منتهاه، ولذلك كانت العقوبة شديدة.
وقوله { وَأُولَـٰئِكَ } مبتدأ، وهم ضمير فصل والخبر قوله: { وَقُودُ ٱلنَّارِ } والجملة مستأنفة مقررة لعدم الإِغناء. وفى هذا التذييل تهديد شديد للكفار الذين اغتروا بأموالهم وأولادهم ببيان أن ما اغتروا به لن يحول بينهم وبين الخلود فى النار.
قال الفخر الرازى ما ملخصه: اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عن الإِنسان كل ما كان منتفعا به. ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة.
أما الأول فهو المراد بقوله { لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب فى الدنيا يفزع إلى المال والولد. فبين الله - تعالى - أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا. ونظير هذه الآية قوله - تعالى -
{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وأما القسم الثانى من أسباب العذاب فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة، وإليه الإِشارة بقوله: { وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } وهذا هو النهاية فى العذاب، فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها فى الحطب اليابس.
ثم بين - سبحانه - أن حال الكافرين بالحق الذى جاءهم به النبى صلى الله عليه وسلم كحال الذين سبقوهم فى الجحود والعناد فقال - تعالى -: { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }.
الدأب: أصله الدوام والاستمرار. يقال: دأب على كذا يداب دأباً ودأباً ودءوباً، إذا داوم عليه وجد فيه وتعب. ثم غلب استعماله فى الحال والشان والعادة، لأن من يستمر فى عمل أمدا طويلا يصير عادة من عاداته، وحالا من أحواله فهو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.
وآل فرعون: هم أعوانه ونصراؤه وأشياعه الذين استحبوا العمى على الهدى واستمروا على النفاق والضلال حتى صار ديدنا لهم.
قال الراغب: "والآل مقلوب عن الأهل. ويصغر على أهيل إلا أنه خص بالإِضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة. يقال آل فلان ولا يقال آل رجل... ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف والأفضل، فيقال آل الله وآل السلطان، والأهل يضاف إلى الكل فيقال أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا".
والمعنى: حال هؤلاء الكافرين الذين كرهوا الحق الذى جئت به - يا محمد - ولم يؤمنوا بك حالهم فى استحقاق العذاب، كحال آل فرعون والذين من قبلهم من أهل الزيغ والضلال، كفروا بآيات الله، وكذبوا بما جاءت به من هدايات فكانت نتيجة ذلك أن أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر حيث أهلكهم بسبب ما ارتكبوه من ذنوب، والله - تعالى - شديد العقاب لمن كفر بآياته.
والجار والمجرور بقوله { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } فى موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف. أى شأن هؤلاء فى تكذيبك يا محمد كشأن آل فرعون والذين من قبلهم فى تكذيبهم لأنبيائهم.
والمقصود بآل فرعون أعوانه وبطانته، لأن الآل يطلق على أشد الناس التصاقا واختصاصا بالمضاف إليه، والاختصاص هنا فى المتابعة، والتواطؤ على الكفر، لأنه إذا وجد العناد فى التابع فهو فى الغالب يكون فى المتبوع أشد وأكبر. ولأنهم هم الذين حرضوه على الشرور والآثام والطغيان فلقد حكى القرآن عنهم ذلك فى قوله - تعالى -
{ وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } وخص القرآن آل فرعون بالذكر من بين الذين سبقوهم فى الكفر، لأن فرعون كان اشد الطغاة طغيانا، وأكبرهم غرورا وبطرا وأكثرهم استهانة بقومه، واحتقاراً لعقولهم وكيانهم، ألم يقل لهم - كما حكى القرآن - { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } ألم يبلغ به غروره أن يقول لهم: { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ألم يقل لوزيره: { يٰهَامَانُ ٱبْنِ لِي صَرْحاً لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ أَسْبَابَ ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً... } ولقد وصف الله - تعالى - قوم فرعون بهوان الشخصية، وتفاهة العقل، والخروج عن كل مكرمة فقال: { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } لأن الأمة التى تترك الظالم وبطانته يعيثون فى الأرض فسادا لا تستحق الحياة، ولا يكون مصيرها إلا إلى التعاسة والخسران.
وجملة { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } تفسير لصنيعهم الباطل، ودأبهم على الفساد والضلال. والمراد بالآيات ما يعم المتلوة فى كتب الله - تعالى - والبراهين والمعجزات الدالة على صدق الأنبياء فيما يبلغونه عن ربهم.
وفى إضافتها إلى الله - تعالى - تعظيم لها وتنبيه على قوة دلالتها على الحق والخير وقوله { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ } بيان لما أصابهم بسبب كفرهم وتكذيبهم للحق، وفى التعبير بالأخذ إشارة إلى شدة العقوبة، فهو - سبحانه - قد أخذهم كما يؤخذ الأسير الذى لا يستطيع فكاكا من آسره.
والباء للسببية أى أخذهم بسبب ما اجترحوه من ذنوب. أو الملابسة والمصاحبة. أى أخذهم وهم متلبسون بذنوبهم دون أن يتوبوا منها أو يقلعوا عنها، والجمل على الوجهين تدل على كمال عدل الله - تعالى - لأنه ما عاقبهم إلا لأنهم استحقوا ذلك.
وأصل الذنب: الأخذ بذنب الشىء، أى بمؤخرته ثم أطلق على الجريمة لأن مرتكبها يعاقب بعدها.
وفى قوله: { وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } إشارة إلى أن شدة العقاب سببها شدة الجريمة وتعليم للناس بأن كل فعل له جزاؤه، إن خيراً فخير وإن شرا فشر، وتقرير وتأكيد لمضمون ما قبلها.
ثم أنذر الله - تعالى - الكافرين بسوء المصير، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال - تعالى -: { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ }.
وقد وردت روايات فى سبب نزول هذه الآية والتى بعدها. من أشهرها: ما ذكره ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من قريش ما أصاب فى غزوة بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود فى سوق بنى قينقاع وقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أنى نبى مرسل تجدون ذلك فى كتابكم وعهد الله إليكم فقالوا يا محمد، لا يغرنك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة. إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس. فأنزل الله - تعالى - { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ } إلى قوله - تعالى - { لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ }" . والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود وأمثالهم من المشركين الذين يدلون بقوتهم، ويغترون بأموالهم وأولادهم وعصبيتهم.. قل لهم ستغلبون وتهزمون فى الدنيا على أيدى المؤمنين وتحشرون يوم القيامة ثم تساقون إلى نار جهنم لتلقوا فيها مصيركم المؤلم، { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أى بئس المكان الذى هيأوه لأنفسهم فى الآخرة بسبب سوء فعلهم. والمهاد: المكان الممهد الذى ينام عليه كالفراش.
ولقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتولى الرد عليهم. وأن يواجههم بهذا الخطاب المشتمل على التهديد والوعيد، لأنهم كانوا يتفاخرون عليه بأموالهم وبقوتهم، فكان من المناسب أن يتولى صلى الله عليه وسلم الرد عليهم، وأن يخبرهم بأن النصر سيكون له ولأصحابه، وأن الدائرة ستدور عليهم.
وقوله { سَتُغْلَبُونَ } إخبار عن أمر يحصل فى المستقبل، وقد وقع كما أخبر به الله - تعالى - فقد دارت الدائرة على اليهود من بنى قينقاع والنضير وقريظة وغيرهم، بعد بضع سنوات من الهجرة، وتم فتح مكة فى السنة الثامنة بعد الهجرة.
وقوله { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } إما من تمام ما يقال لهم، أو استئناف لتهويل شأن جهنم، وتفظيع حال أهلها.
ثم ساق القرآن مثلا مشاهداً يدل على نصر الله - تعالى - لأوليائه وخذلانه لأعدائه، فقال: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ }.
والمراد بالآية هنا العلامة والبرهان والشاهد على صدق الشىء المخبر عنه.
والفئة - كما يقول القرطبى - الجماعة من الناس، وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها، أى يرجع إليها فى وقت الشدة، ولا خلاف فى أن الإِشارة بهاتين الفئتين هى إلى يوم بدر. ثم قال: ويحتمل أن يكون المخاطب بهذه الآية جميع المؤمنين، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة، وبكل احتمال منها قد قال قوم. وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها، حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع.
والمعنى: قد كان لكم أيها الناس علامة عظيمة، ودلالة واضحة على أن الكافرين سيغلبون والمؤمنين سينصرون بما جرى فى غزوة بدر، فقد رأيتم كيف أن الله - تعالى - قد نصر المؤمنين مع قلة عددهم، وهزم الكافرين مع كثرة عددهم وعددهم. ولقد كان المؤمنون يرون أعداءهم أكثر منهم عدداً وعدة ومع ذلك لم يهابوهم ولم يجبنوا عن لقائهم، بل أقدموا على قتالهم بإيمان وشجاعة فرزقهم الله النصر على أعدائهم.
ووصف - سبحانه - الفئة المؤمنة بأنها تقاتل فى سبيل الله، على سبيل المدح لها، والإِعلاء من شأنها، وبيان الغاية السامية التى من أجلها قاتلت، ومن أجلها تم لها النصر فهي لم تقاتل لأجل عرض من أعراض الدنيا، وإنما قاتلت لإِعلاء كلمة الله ونصرة الحق.
ووصف الفئة الأخرى بأنها كافرة؛ لأنها لم تؤمن بالحق، ولم تتبع الطريق المستقيم، بل كفرت بكل ما يصلحها فى دينها ودنياها.
ولم يصفها بالقتال كما وصف الفئة المؤمنة. إسقاطا لقتال تلك الفئة الكافرة عن درجة الاعتبار، وإيذانا بأن الرعب الذى ألقاه الله فى قلوبهم عند لقائهم للمؤمنين، جعلهم بأنهم ليسوا أهلا لأن يوصفوا بالقتال.
هذا وللعلماء أقوال فى المراد من قوله - تعالى - { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ } وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه الأقوال فقال: { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ } أى: يرى المشركون المسلمين مثلى عدد المشركين أى قريبا من ألفين، أو مثلى عدد المسلمين أى ستمائة ونيفا وعشرين. أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم. وكان ذلك مدداً لهم من الله كما أمدهم بالملائكة. والدليل عليه قراءة نافع "ترونهم" بالتاء، أى ترون يا مشركى قريش المسلمين مثلى فئتكم الكافرة، أو مثلى أنفسهم. فإن قلت فهذا مناقض لقوله فى سورة الأنفال
{ وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ } قلت: قللوا أولا فى أعينهم حتى اجترؤا عليهم: فلما لاقوهم كثروا فى أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير فى حالين مختلفين... وتقليلهم تارة وتكثيرهم تارة أخرى فى أعينهم أبلغ فى القدرة وإظهار الآية. وقيل: يرى المسلمون المشركين مثلى المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين فى قوله { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة فى قوله - تعالى - { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } والذى نراه أن الرأى الذى عبر عنه صاحب الكشاف بقوله: وقيل: يرى المسلمون المشركين مثلى المسلمين ... إلخ هذا الرأى هو أقرب الأقوال إلى الصواب؛ لأن المسلمين فى غزوة بدر كانوا أقل عددا وعدة من المشركين، ولأن التعبير بقوله - تعالى - { رَأْيَ ٱلْعَيْنِ } يفيد أن رؤية هذه الكثرة من المشركين كانت رؤية بصرية بالمشاهدة، وليست بالتقدير أو التخيل، وهذا يتحقق فى رؤية المؤمنين للمشركين:
فإن قيل: إن المشركين فى بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا - كما حكى لنا التاريخ - ولم يكونوا مثليهم أى ضعفهم؟
فالجواب على ذلك أن هذا التقدير للمشركين من جانب المؤمنين كان تقديراً تقريبيا وليس تقديرا عدديا، فثلاثة الأمثال قد ترى رأى العين مثلين أو نقول: إن المراد بكلمة مثلين مجرد التكرار وليس المراد بها التثنية على الحقيقة، كما فى قوله - تعالى -
{ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } فالمراد تكرار النظر مرة ومرات وليس المراد التحديد بكرتين.
وقد رجح ابن جرير الطبرى هذا الرأى، فقد قال بعد سرده لجملة من أقوال العلماء: وأولى هذه القراءات بالصواب: قراءة من قرأ { يَرَوْنَهُمْ } بمعنى: وأخرى كافرة يراهم المسلمون مثليهم، يعنى: مثلى عدد المسلمين، لتقليل الله إياهم فى أعينهم فى حال. فكان حزرهم إياهم كذلك.. ثم قال: وأما قوله: { رَأْيَ ٱلْعَيْنِ } فإنه مصدر رأيته, يقال رأيته رأياً ورؤية، ويقال هو منى رأى العين، ورأى العين - بالنصب والرفع - يراد حيث يقع عليه بصرى.. فمعنى ذلك: يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم وتراهم عيونهم مثليهم".
وقوله - تعالى - { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ }.. إلخ من تمام القول المأمور به جىء به لتقرير وتحقيق ما قبله. و { كَانَ } هنا ناقصة، و { آيَةٌ } اسمها، وترك التأنيث فى - كان - لوجود الفاصل بينها وبين اسمها، ولأن المرفوع بها وهو اسمها مجازى التأنيث أو باعتبار أن الآية برهان ودليل. وقوله { لَكُمْ } خبر كان. وقوله { فِئَةٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى. إحداهما فئة تقاتل فى سبيل الله. وقوله { وَأُخْرَىٰ } نعت لمقدر أى وفئة أخرى كافرة. والجملة مستأنفة لتقرير "ما فى الفئتين من الآية" ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ }.
أى: والله - تعالى - يؤيد بنصره من يشاء نصره وفوزه، فهو القادر على أن يجعل الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة، لاراد لمشيئته ولا معقب لحكمه وإن الذين يغترون بقوتهم وحدها، ويغترون بما بين أيديهم من أموال وعتاد ورجال، ولا يعملون حسابا للقدر، الذى يجريه الله على حسب مشيئته وإرادته هؤلاء الذين غرهم بالله الغرور، تداهمهم الهزيمة من حيث لا يحتسبون، وقد يفجؤهم الخسران والخذلان من الطريق الذى توهموا فيه الكسب والانتصار.
لذا أمر الله - تعالى - عباده بالاعتبار والاتعاظ فقال: { إِنَّ فى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } واسم الإشارة ذلك يعود إلى المذكور الذى رأوه وشاهدوه وهو أن الفئة القليلة المؤمنة غلبت الفئة الكثيرة الكافرة.
والعبرة - الاعتبار والاتعاظ وأصله من العبور وهو النفور من أحد الجانبين إلى الآخر، وسمى الاتعاظ عبرة، لأن المعتبر المتعظ يعبر عن الجهل إلى العلم، ومن الهلاك إلى النجاة.
أى: إن فى ذلك الذى شاهده الناس وعاينوه من انتصار الفئة القليلة التى تقاتل فى سبيل الله، على الفئة الكثيرة التى تقاتل فى سبيل الطاغوت، لعبرة عظيمة، ودلالة واضحة، لأصحاب المدارك السليمة والعقول الواعية التى تفهم الأمور على حقيقتها، وتؤمن بأن الله - تعالى - قادر على كل شىء، أما أصحاب القلوب المطموسة والنفوس المغرورة بقوتها. فهى عن الاعتبار والاتعاظ بمعزل.
قال الفخر الرازى ما ملخصه: "واعلم أن العلماء ذكروا فى تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وعبرة واضحة - وجوها: منها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور منها قلة العدد، وأنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا، ومنه قلة السلاح، ومنها أنها كانت ابتداء غارة فى الحرب لأنها أول غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعانى من الكثرة والتأهب وغير ذلك ومع هذا فقد انتصر المؤمنون، ولما كان ذلك خارجا عن العادة كان معجزا".
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أنذرت الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم، وساقت لهم ما يؤيد ذلك من واقع ما شاهدوه، وبشرت المؤمنين بنصر الله لهم، وحثنهم على الاتعاظ والاعتبار، لأن من شأن المعتبرين أن يكونوا مراقبين لله - تعالى - ومنفذين لأوامره، ومبتعدين عن نواهيه، ومن كان كذلك كان الله معه بنصره وتأييده.
ثم بين - سبحانه - أهم الشهوات التى يؤدى الانهماك فى طلبها إلى الانحراف فى التفكير، وإلى عدم التبصر والاعتبار، ودعا الناس إلى التزود من العمل الصالح الذى يفضى بهم إلى رضاه - سبحانه - فقال: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ... }.