التفاسير

< >
عرض

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ
١٤
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ
١٥
ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ
١٦
ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْمُنْفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ
١٧
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فأنت ترى فى هذه الآيات الكريمة بيانا حكيما من الله - تعالى - لأهم متع الحياة الدنيا وشهواتها، ولما هو خير من هذه المتع والشهوات، مما أعده الله لعباده المتقين من جنات وخيرات.
وقوله { زُيِّنَ } من التزيين وهو تصيير الشىء زينا أى حسنا. والزينة هى ما فى الشىء من المحاسن التى ترغب الناظرين فى اقتنائه.
قال الراغب: "والزينة بالقول المجمل ثلاث: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة، وزينة بدنية كالقوة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه.. وقد نسب الله التزيين فى مواضع إلى نفسه كما فى قوله - تعالى -
{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } ونسبه فى مواضع إلى الشيطان كما فى قوله { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } وذكره فى مواضع غير مسمى فاعله كما فى قوله - تعالى - { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ }.
والشهوات جمع شهوة، وهى ثوران النفس وميلها نحو الشئ المشتهى. والمراد بها هنا الأشياء المشتهاة من النساء والبنين... إلخ. وعبر عنها بالشهوات للإِشارة - كما يقول الآلوسي - إلى ما ركز فى الطباع من محبتها والحرص عليها حتى لكأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض: ما تشتهى؟ فقال: أشتهى أن أشتهى. أو تنبيها على خستها: لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففى ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله، ثم قال: والتزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها فى القلوب، وهو بهذا المعنى مضاف إليه - تعالى - حقيقة؛ لأنه لا خالق إلا هو. ويطلق ويراد به الحض على تعاطى الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثانى مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها".
ثم بين - سبحانه - أهم المشتهيات التى يحبها الناس، وتهفو إليها قلوبهم، وترغب فيها نفوسهم، فأجملها فى أمور ستة.
أما أولها: فقد عبر عنه القرآن بقوله: "من النساء ولا شك أن المحبة بين الرجال والنساء شىء فطرى فى الطبيعة الإنسانية، ويكفى أن الله - تعالى - قد قال فى العلاقة بين الرجل والمرأة
{ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } وقال تعالى - فى آية ثانية { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } وإن بعض الرجال قد يستهين بكل شىء فى سبيل الوصول إلى المرأة التى يهواها ويشتهيها والأمثال على ذلك كثيرة ولا مجال لذكرها هنا وصدق رسول الله حيث يقول: "ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء" ، ولذا قدم القرآن اشتهاءهن على كل شهوة. و { مِنَ } فى قوله { مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ } بيانية، وهى مع مجرورها فى محل نصب على الحال من الشهوات. واكتفى القرآن بذكر محبة الرجل للمراة مع أن المرأة كذلك تحب الرجل بفطرتها لأن ذكر محبة أحدهما للآخر يغنى عن ذكر الطرفين معاً، وما يستفاد بالإِشارة يستغنى فيه عن العبارة خصوصاً فى هذا المجال الذى يحرص فيه القرآن على تربية الحياء والأدب فى النفوس، ولأن المرأة فى هذا الباب يهمها أن تكون مطلوبة لا طالبة. وحتى لو كانت محبتها للرجل أشد فإنها تحاول أن تثير فيه ما يجعله هو الذى يطلبها لا هى التى تطلبه.
وأما ثانى المشتهيات: فقد عبر عنه القرآن بقوله { وَٱلْبَنِينَ } جمع ابن، وهو معطوف على ما قبله، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء لأن البنين ثمرة حب النساء، واكتفى بذكر البنين، لأنهم موضع الفخر فى العادة وحب الأولاد طبيعة فى النفس البشرية فهم ثمرات القلوب، وقرة الأعين ومهوى الأفئدة، ومطمح الآمال، ولقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يقول:
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } وسيدنا زكريا يقول: { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ } والإِنسان فى سبيل حبه لأولاده يضحى براحته، وقد يجمع المال من أجلهم من حلال ومن حرام، وقد يرتكب بعض الأعمال التى لا يريد ارتكابها إرضاء لهم، وقد يمتنع عن فعل أشياء هو يريد فعلها لأن مصلحتهم تقتضى ذلك.
وصدق الله إذ يقول:
{ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة" أى أن الأبناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من الموت لئلا يصيب أبناءهم اليتم وآلامه، ويجعلونهم يبخلون فلا ينفقون فيما ينبغى أن ينفق فيه إيثاراً لهم بالمال، ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه.
أما الأمر الثالث من المشتهيات: فقد عبر عنه القرآن بقوله { وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ } والقناطير جمع قنطار، وهو مأخوذ من عقد الشىء وإحكامه، تقول العرب: قنطرت الشىء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها.
قال الفخر الرازى "القنطار مال كثير يتوثق الإنسان به فى دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون: إنه وزن لا يحد. واعلم أن هذا هو الصحيح، ومن الناس من حاول تحديده. فعن ابن عباس: القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية".
ولفط { ٱلْمُقَنْطَرَةِ } مأخوذ من القنطار. ومن عادة العرب أن يصفوا الشىء بما يشتق منه للمبالغة أى والقناطير المضاعفة المتكاثرة المجموعة قنظاراً قنطاراً كقولهم: دراهم مدرهمة وإبل مؤبلة.
وقوله { مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ } بيان للقناطير، وهو فى موضع الحال هنا.
والمراد أن الإِنسان محب للمال حباً شديداً، قال - تعالى -
{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } وقال تعالى - { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } وفى الحديث الشريف الذى رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب" والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة.
وقالت السيدة - عائشة - رضى الله عنها - "رأيت ذا المال مهيبا، ورأيت ذا الفقر مهينا" وقالت: "إن أحساب ذوى الدنيا بنيت على المال".
وإنما كان الذهب والفضة مبحوبين، لأنهما - كما يقول الرازى - جعلا ثمنا لجميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء" وصفة المالكية هى القدرة، والقدرة صفة كمال، والكمال محبوب لذاته، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذى هو محبوب لذاته - وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب - لا جرم كانا محبوبين".
وأما المشتهيات الرابعة والخامسة والسادسة فتتجلى فى قوله - تعالى - { وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ }.
ولفظ الخيل يرى سيبويه أنه اسم جمع لا واحد له من لفظه، بل مفرده فرس فهو نظير قوم - ورهط ونساء. ويرى الأخفش أنه جمع تكسير وواحده خائل، فهو نظير راكب، وطائر وطير. وهو مشتق من الخيلاء لأنها تختال فى مشيتها.
والمسومة: أى الراعية فى المروج والمسارح. يقال: سوم ماشيته إذا أرسلها فى المرعى. أو المطهمة الحسان، من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة.
والخيل كانت وما زالت زينة محببة مرغوبة، مهما تفنن البشر فى اختراع صنوف من المراكب براً وبحراً فمع وجود هذه المراكب المتنوعة ما زال للخيل عشاقها الذين يعجبهم ما فيها من جمال وانطلاق وألفة. ويقتنونها للركوب والمسابقات... { وَٱلأَنْعَامِ } جمع نعم، وهى الإِبل والبقر والغنم. ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإِبل خاصة فإنها غلبت عليها.
والأنعام فيها زينة. والإنسان فى حاجة شديدة إليها فى مركبه ومطعمه وغير ذلك. قال - تعالى -
{ وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } و { وَٱلْحَرْثِ } مصدر بمعنى المفعول أى المحروث. والمراد به المزروع سواء أكان حبوباً أم بقلا، أم ثمراً إذ من هذه الأشياء يتخذ الإِنسان مطعمه وملبسه وأدوات زينته.
تلك هى أهم المشتهيات فى هذه الحياة إلى نفس الإِنسان قد جمعها القرآن فى آية واحدة، وقد اختصها - سبحانه - بالذكر لأنها أوضح من غيرها فى الاحتياج إليها والتلذذ بها، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها سواء أكانت متعة جسدية أم روحية، أم مالية، أم غير ذلك من ألوان المتع، ومن مستلزمات الحياة.
وقد ختم - سبحانه - الآية بقوله { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ }. واسم الإِشارة { ذٰلِكَ } يعود إلى كل ما تقدم ذكره من الأمور الستة التى سبق الحديث عنها، والمآب: مصدر ميمى بوزن مفعل، من آب. كقال - إياباً وأوباً ومآباً، إذا رجع. وأصله مأوب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ثم قلبت الواو ألفاً مثل مقال.
أى ذلك المذكور من النساء والبنين وما عطف عليهما هو موضع الزينة، ومطلب الناس الذى يستمتعون به، .........
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المشتهيات التى جبل الإِنسان على الميل إليها، وصياغة الفعل للمجهول { زُيِّنَ لِلنَّاسِ } للإِشارة إلى أن محبة هذه الأشياء واشتهاءها مركوز فى الفطرة الإِنسانية منذ أوجد الله الإِنسان فى هذه الحياة الدنيا.
وهذه المشتهيات ليست خسيسة فى ذاتها، ولا يقصد الإِسلام إلى تخسيسها فى ذاتها أو إلى التنفير منها، وإنما الإِسلام يريد من أتباعه أن يقتصدوا فى طلبها، وأن يطلبوها من وجوهها المشروعة، وأن يضعوها فى مواضعها المشروعة، وأن يشكروا الله عليها، وألا يجعلوها غاية مقصدهم فى هذه الحياة إن الإِسلام لا يحارب الفطرة الإِنسانية التى تشتهى هذه الأشياء، وإنما يهذبها ويضبطها ويرشدها إلى أن تضع هذه الاشياء فى موضعها المناسب، بحيث لا تطغى على غيرها ولا تستعمل فى غير ما خلقها الله من أجله، وبذلك يسعد الإِنسان فى دينه ودنياه وآخرته.
وللإِمام ابن كثير كلام حسن عند تفسيره لهذه الآية فقد قال ما ملخصه: يخبر الله - تعالى - عما زين للناس فى هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد.. فأما إذا كان القصد بهن الإِعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه كما وردت الأحاديث بذلك.. وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر... فيكون مذموما، وتارة يكون للنفقة فى وجوه البر فيكون محموداً.. وحب الخيل على ثلاثة أقسام، تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون. وتارة تربط فخرا ومناوأة لأهل الإِسلام فهذه على صاحبها وزر. وتارة تربط للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس صاحبها حق الله فيها فهذه لصاحبها ستر. وفى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة" والسكة النخل المصطف، والمأبورة الملقحة،. وفى الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم غرس أو زرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقه" .
هذا، وختام الآية الكريمة بقوله { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } إشارة إلى أن متع الدنيا مهما كثرت وتنوعت وتلذذ بها الإِنسان فهى زوال، وأما اللذائذ الباقية الخالدة فهى التى أعدها الله - تعالى - لعباده المتقين فى الدارة الآخرة، ولذا قال - سبحانه - بعد ذلك { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ }.
أى قل يا محمد للناس الذين مالوا إلى شهوات الدنيا من النساء والبنين وغيرهما، قل لهم ألا تحبون أن أخبركم بما هو خير من تلك المشتهيات الدنيوية؟
والاستفهام للتقرير، والمراد به التحقيق والتثبيت فى نفوس المخاطبين، أى تحقيق وتثبيت خيرية ما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا، وحضهم على الاستجابة لما سيلقى عليهم.
وافتتح الكلام بكلمة { قُلْ } للاهتمام بالمقول وتنبيه السامعين إلى أن ما سيلقى عليهم أمر يهمهم ومما يقوى هذا التنبيه هنا: التعبير بقوله { أَؤُنَبِّئُكُمْ } لأن الإِنباء معناه الخبر العظيم الشأن، والتعبير بقوله { ذٰلِكُمْ } لاشتماله على الإِشارة التى للبعيد الدالة على عظم شأن ما سيخبرهم به، والتعبير بقوله { بِخَيْرٍ } الذى يدل على الأفضلية، لأن نعيم الآخرة خير محض ونعيم الدنيا مشوب بالشرور والأضرار. ثم بين - سبحانه - المخبر عنه بعد أن مهد له بتلك التنبيهات التى تشوق إلى سماعه وتغرى بالاستجابة له فقال: { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ }.
هذه هى اللذائذ والمتع التى أعدها الله - تعالى - لمن اتقاه، أى أدى ما أمره به، وابتعد عما نهاه عنه.
وأول هذه النعم: { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أى بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار، وفى هذه الجنات مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقوله { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا }، خبر مقدم، وقوله { جَنَّاتٌ } مبتدأ مؤخر، وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } فى محل نصب على الحال من جنات. وقوله { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } صفة لجنات.
وعلى هذا يكون منتهى الاستفهام عند قوله { مِّن ذٰلِكُمْ } وهذا هو المشهور عند العلماء. ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا } ثم يبتدأ فيقال: عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار. ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله - تعالى - { عِندَ رَبِّهِمْ } ثم يبدأ فيقال: جنات تجرى من تحتها الأنهار.
قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من جعل الاستفهام منتهيا عند قوله - تعالى - { بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله: { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } فيكون مخرج ذلك مخرج الخير. وهو إبانة عن معنى الخير الذى قال: أنبئكم به، فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير".
وثانى هذه النعم عبر عنه - سبحانه - بقوله { خَالِدِينَ فِيهَا } أى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم خالدين فى تلك الجنات التى فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خلوداً أبدياً، بخلاف أولئك المنعمين بنعم الدنيا فإن نعيمهم إلى فناء وزوال.
وثالث هذه النعم قوله - تعالى - { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ }.
والأزواج: جمع زوجة وهى المرأة يختص بها الرجل. أى ولهم فى تلك الجنات أزواج مطهرة غاية التطهير من كل دنس وقذر حسى ومعنوى، فقد وصف - سبحانه - هؤلاء الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل ما يتمناه الرجل فى المرأة.
ورابع هذه النعم قوله - تعالى - { وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ } وهذه النعمة هى أعظم النعم وأجلها أى لهم رضا عظيم من خالق الخلق، ومبدع الكون، ومنشىء الوجود. وهو مصدر كالرضا، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم.
وقوله { مِّنَ ٱللَّهِ } صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة.
روى الشيخان عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله - عز وجل - يقول لأهل الجنة يوم القيامة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: أنا اعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: يا ربنا وأى شىء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبداً".
هذه هى اللذائذ والمتع والنعم التى أعدها الله - تعالى - لعباده المتقين.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } أى أنه - سبحانه - عليم بأحوال عباده، لا تخفى عليه خافية من شئونهم. وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى. ففى هذا التذييل وعد للمتقين ووعيد للمسيئين.
ثم حكى - سبحانه - أقوال هؤلاء المتقين ومدحهم على إيمانهم وصلاحهم فقال - تعالى - { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } أى أن هذه الجنات وغيرها من أنواع النعم قد أعدها الله - تعالى - لهؤلاء المتقين الذين يضرعون إلى الله ملتمسين منه المغفرة فيقولون: يا ربنا إننا آمنا بك وصدقنا رسولك فى كل ما جاء به من عندك، فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا فى أمرنا فأنت الغفار الرحيم، { وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } أى جنبنا هذا العذاب الأليم يا أرحم الراحمين.
وفى حكاية هذا القول عنهم بصيغة المضارعة { يَقُولُونَ } إشعار بأنهم يجددون التوبة إلى الله دائما لقوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم، وإحساسهم بأنهم مهما قدموا من طاعات فهى قليلة بجانب فضل الله عليهم، ولذلك فهم يلتمسون منه الستر والغفران، والوقاية من النار، وهذا شأن الأخيار من الناس.
وقوله - سبحانه - { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ } بدل أو عطف بيان من قوله { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا } ويجوز أن يكون فى محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة منهما جواب عن سؤال كأنه قيل: من أولئك المتقون؟ فقيل: هم الذين يقولون ربنا إننا آمنا... ويجوز أن يكون فى موضع نصب على المدح. ثم وصفهم - سبحانه - بخمس صفات كريمة من شأنها أن تحمل العقلاء على التأسى بهم فقال: { ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْمُنْفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ }.
وفى كل صفة من صفاتهم دليل على قوة إيمانهم، وإذعانهم للحق حق الإِذعان. فهم صابرون، والصبر فى البأساء والضراء وحين البأس من أكبر البراهين على سلامة اليقين، وقد حث القرآن أتباعه على التحلى بهذه الصفة فى أكثر من سبعين موضعا. وهم صادقون، والصدق من أكمل الصفات الإِنسانية وأشرفها، وقد أمر الله عباده أن يتحلوا به فى كثير من آيات كتابه، ومن ذلك قوله - تعالى -
{ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } وهم قانتون، والقانت هو المداوم على طاعة الله - تعالى - غير متململ منها ولا متبرم بها، ولا خارج على حدودها. فالقنوت يصور الإِذعان المطلق لرب العالمين.
وهم منفقون أموالهم فى طاعة الله - تعالى -، وبالطريقة التى شرعها وأمر بها. وهم مستغفرون بالأسحار. أى يسألون الله - تعالى - أن يغفر لهم خطاياهم فى كل وقت، ولا سيما فى الأسحار.
والأسحار جمع سحر وهو الوقت الذى يكون قبل الفجر. روى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ينزل ربنا - عز وجل - إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك من ذا الذى يدعونى فأستجيب له، من ذا الذى يسألنى فأعطيه، من ذا الذى يستغفرنى فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر" .
وخص وقت الأسحار بالذكر لأن النفس تكون فيه أصفى، والقلب فيه أجمع، ولأنه وقت يستلذ فيه الكثيرون النوم فإذا أعرض المؤمن عن تلك اللذة وأقبل على ذكر الله كانت الطاعة أكمل وأقرب إلى القبول.
وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد كشفت عن المشتهيات التى يميل إليها الناس فى دنياهم بمقتضى فطرتهم، وأرشدتهم إلى ما هو أسمى وأعلى وأبقى من ذلك وبشرتهم برضوان الله وجناته، متى استقاموا على طريقه، واستجابوا لتعاليمه،
{ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وبعد أن بين - سبحانه - ما أعده للمتقين، وذكر صفاتهم عقب ذلك ببيان أساس التقوى وهو عقيدة التوحيد، وببيان أن الإِسلام هو الدين الذى ارتضاه الله - تعالى - للناس، وأن من يعارض فى ذلك معارضته داحضة وسيعاقبه الله بما يستحقه. استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك بأسلوبه الحكيم فيقول: { شَهِدَ ٱللَّهُ... }.