التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٢١
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٢
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هؤلاء المارقين بصفات ينفر منها كل عاقل وصفهم أولا بأنهم: { يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أى لا يكتفون بالكفر بالله - تعالى -، بل يكفرون بالآيات المثبتة لوحدانيته، وبالرسل الذين جاءوهم بالهدى والحق.
ووصفهم ثانيا بأنهم { يَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ } وقتل النبيين بغير حق فعل معروف عن اليهود، فهم الذين قتلوا زكريا - عليه السلام - لأنه حاول أن يخلص ابنه يحيى -عليه السلام - من القتل وقتلوا يحيى لأنه لم يوافقهم فى أهوائهم وحاولوا قتل عيسى - عليه السلام - ولكن الله تعالى نجاه من مكرهم، وقتلوا غيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فإن قيل إن اليهود ما قتلوا كل الأنبياء فلم أخبر القرآن عنهم أنهم يقتلون النبيين ولم يقل يقتلون بعض النبيين؟
فالجواب أنهم بقتلهم لبعض النبيين فقد استهانوا بمقام النبوة، ومن استهان بمقام النبوة بقتله لبعض الأنبياء فكأنه قد قتل الأنبياء جميعا، ونظير هذا قوله - تعالى -:
{ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } وقيد القتل بأنه { بِغَيْرِ حَقٍّ } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبداً، للتصريح بموضع الاستنكار، لأن موضع الاستنكار هو اعتداؤهم على الحق بقتلهم الأنبياء، وللإِشارة إلى أنهم لتوغلهم فى الظلم والعدوان قد صاروا أعداء للحق لا يألفونه ولا تميل إليه نفوسهم، وللتسجيل عليهم أن هذا القتل للأنبياء كان مخالفاً لما فى شريعتهم فإنها قد نهتهم عن قتلهم، بل عن مخالفتهم. فهذا القيد من باب الاحتجاج عليهم بما نهت عنه شريعتهم لتخليد مذمتهم فى كل زمان ومكان.
وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ حَقٍّ } بصيغة التنكير، لعموم النفى، بحيث يتناول الحق الثابت، والحق المزعوم، أى أنهم لم يكونوا معذروين بأى لون من ألوان العذر فى هذا الاعتداء فقد أقدموا على ما أقدموا عليه وهم يعلمون أنهم على الباطل، فكان فعلهم هذا إجراماً فى بواعثه وفى حقيقته، وأفظع أنواع الإِجرام فى موضوعه.
وقوله { بِغَيْرِ حَقٍّ } فى موضع الحال المؤكدة لمضمون جملة { يَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ } إذ لا يكون قتل النبيين إلا كذلك.
ووصفهم ثالثا بأنهم { وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ }.
والقسط : العدل. يقال: قسَط يقسِط ويقسُط قِسطا، وأقسط إقساطا إذا عدل.
أى: لا يكتفون بقتل النبيين الذين جاءوا لهدايتهم وسعادتهم، وإنما يقتلون مع ذلك الذين يأمرونهم بالعدل من مرشديهم ونصحائهم.
وفى قوله { مِنَ ٱلنَّاسِ } إشارة إلى أنهم ليسوا بأنبياء، بل من الناس غير المبعوثين.
وفى قرنهم بالأنبياء، وإثبات أن الاعتداء عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء، إشارة إلى بيان علو منزلتهم، وأنهم ورثتهم الذين يدعون بدعوتهم.
وعبرعن جرائمهم بصيغة الفعل المضارع - يكفرون ويقتلون لاستحضار صورة أفعالهم الشنيعة فى أذهان المخاطبين، ولإِفادة أن أفعالهم هذه متجددة كلما استطاعوا إليها سبيلا، وللإِشعار بأن اليهود المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم كانوا راضين بفعل آبائهم وأسلافهم، ولقد حاول اليهود فى العهد النبوى أن يقتلوا النبى صلى الله عليه وسلم ولكن الله - تعالى - نجاه من شرورهم.
هذا، وقد وردت آثار متعددة تصرح بأن اليهود قد دأبوا على قتل الأنبياء والمصلحين، ومن ذلك ما جاء عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال:
"قلت يا رسول الله: أى الناس أشد عذابا يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا، أو قتل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الآية. ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار فى ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلا منهم فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار فى ذلك اليوم" .
هذه بعض جرائمهم فماذا كانت نتيجتها؟ كانت نتيجتها العذاب الأليم الذى أخبرهم الله به فى قوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }.
والجملة الكريمة خبر إن، وجاز دخول الفاء على خبرها لتضمن اسمها وهو { ٱلَّذِينَ } معنى الشرط فى العموم.
وحقيقة التبشير: الإِخبار بما يظهر سرور المخبر - بفتح الباء - على بشرة وجهه، وهو هنا مستعمل فى ضد حقيقته على سبيل التهكم بهم، وذلك لأن هؤلاء المعتدين مع أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه وأولياءه، وفعلوا ما فعلوا من منكرات، مع كل ذلك زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، فساق لهم القرآن ما يخبرهم به على سبيل الاستهزاء بعقولهم أن بشارتهم التى يرتقبونها بسبب كفرهم ودعواهم الباطلة هى: العذاب الأليم.
واستعمال اللفظ فى ضده عند علماء البيان من باب الاستعارة التهكمية، لأن تشبيه الشىء بضده لا يروج فى عقل العقلاء إلا على معنى التهكم والاستهزاء.
ثم أخبر - سبحانه - بفساد أعمالهم فى الدنيا والآخرة فقال: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ }.
والحبوط - كما يقول الراغب - من الحبط، وهو أن تكثر الدابة الأكل حتى تنتفخ بطنها، وقد يؤدى إلى موتها.
والمراد بحبوط أعمالهم إزالة آثارها النافعة من ثواب فى الآخرة وحياة طيبة فى الدنيا، لأنهم عملوا ما عملوا وهم لا يرجون لله وقاراً.
وجىء باسم الإِشارة فى صدر الآية، لتمييز أصحاب تلك الأفعال القبيحة أكمل تمييز، وللتنبيه على أنهم أحقاء بما سيخبر به عنهم بعد اسم الإِشارة.
وكانت الإِشارة للبعيد، للإِيذان ببعدهم عن الطريق القويم، والخلق المستقيم، وقوله { أُولَـٰئِكَ } مبتدأ والموصول وصلته خبره.
أى: أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة بطلت أعمالهم فى الدنيا والآخرة، وسقطت عن حيز الاعتبار، وخلت عن الثمرة التى كانوا يؤملونها من ورائها، بسبب إشراكهم بالله واعتدائهم على حرماته.
وقوله { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } نفى لكل ما كانوا يتوهمونه من أسباب النصر، وقد أكد هذا النفى بمن الزائدة.
أى ليس لهم من أحد ينصرهم من بأس الله وعقابه، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، لأنهم بسبب كفرهم وأفعالهم القبيحة صاروا مستحقين للعقاب، وليس هناك من يدفعه عنهم.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصفهم بصفات ثلاث: بالكفر وقتل الأنبياء وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس.
وتوعدهم - أيضاً - بثلاثة أنواع من العقوبات: بالعذاب الأليم، وحبوط أعمالهم فى الدنيا والآخرة، وانتفاء من ينصرهم أو يدافع عنهم.
وبذلك نرى الآيتين الكريمتين تسوقان أشد ألوان التهديد والوعيد لهؤلاء المعتدين، بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة.
وبعد أن وصف القرآن هؤلاء المعاندين بالكفر وقتل الأنبياء والمصلحين وبين سوء مصيرهم، أتبع ذلك ببيان رذيلة من أفحش رذائلهم وهى أنهم يدعون إلى التحاكم إلى الكتاب الذى يزعمون أنهم يؤمنون به، فيمتنعون عن ذلك غرورا وعناداً، استمع إلى القرآن وهو يصور أحوالهم السيئة فيقول: { أَلَمْ تَرَ... }