التفاسير

< >
عرض

قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٦
تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٢٧
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبي: قال ابن عباس وأنس بن مالك: "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات! من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع فى ملك فارس والروم. فأنزل الله هذه الآية.
والأمر بقوله { قُلِ } للنبى صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى له الخطاب من المؤمنين.
وكلمة { ٱللَّهُمَّ } يرى الخليل وسيبويه أن أصلها يا الله فلما استعملت دون حرف النداء الذى هو "يا" جعلوا هذه الميم المشددة التى فى آخرها عوضا عن حرف النداء، وهذا التعويض من خصائص الاسم الجليل، كما اختص بجواز الجمع فيه بين "يا" و "أل" وبقطع همزته، ودخول تاء القسم عليه.
والمعنى. قل أيها المخاطب على سبيل التعظيم لربك، والشكر له، والتوكل عليه والضراعة إليه، قل: يا الله يا مالك الملك أنت وحدك صاحب السلطان المطلق فى هذا الوجود، بحيث تتصرف فيه كيف تشاء، إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة، وتعذيبا وإثابة، من غير أن ينازعك فى ذلك أى منازع.
فكأن فى هذه الجملة الكريمة { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } دعاءين خاشعين:
أما الدعاء الأول فهو بلفظ الجلالة المعبر عنه بقوله { ٱللَّهُمَّ } أى يا الله، وفى هذا النداء كل معانى العبودية والتنزيه والتقديس والخضوع.
وأما الدعاء الثانى فهو المعبر عنه بقوله { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } أى يا مالك الملك، وفى هذا النداء كل معانى الإِحساس بالربوبية، والضعف أمام قدرة الله وسلطانه.
فقوله { مَالِكَ } منصوب بحرف النداء المحذوف. كما فى قوله
{ قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى يا فاطر السماوات والأرض.
ثم فصل - سبحانه - بعض مظاهر خلقه التى تدل على أنه هو مالك الملك على الحقيقة فقال - تعالى - { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ }.
أى أنت وحدك الذى تعطى الملك من تشاء إعطاءه من عبادك، وتنزعه ممن تشاء، نزعه منهم، فأنت المتصرف فى شئون خلقك لا راد لقضائك ولا معقب لحكمك.
وعبر بالإِيتاء الذى هو مجرد الإِعطاء دون التمليك المؤذن بثبوت المالكية، للتنبيه على أن المالكية على الحقيقة إنما هى مختصة بالله رب العالمين، أما ما يعطيه لغيره من ملك فهو عارية مستردة، وهو شىء زائل لا يدوم.
والتعبير عن إزالة الملك بقوله { وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } يشعر بأنه - سبحانه - فى قدرته أن يسلب هذا العطاء من أى مخلوق مهما بلغت سعة ملكه، ومهما اشتدت، قوته، وذلك لأن لفظ النزع يدل على أن المنزوع منه الشىء كان متمسكا به، فسلبه الله منه بمقتضى قدرته وحكمته.
والمراد بالملك هنا السلطان، وقيل النبوة، وقيل غير ذلك.
قال الفخر الرازى: وقوله { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ } محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة، وملك العقل، والصحة، والأخلاق الحسنة. وملك النفاذ والقدرة، وملك المحبة، وملك الأموال، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز".
ومفعول المشيئة فى الجملتين محذوف أى: تؤتى الملك من تشاء إيتاءه وتنزعه ممن تشاء نزعه منه.
أما الأمر الثانى الذى يدل على أنه - سبحانه - هو مالك الملك على الحقيقة فهو قوله { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ }.
العزة - كما يقول الراغب - حالة مانعة للإِنسان من أن يغلب، من قولهم: أرض عزاز: أى صلبة، وتعزز اللحم: اشتد وعز، كأنه حصل فى عزاز يصعب الوصول إليه.... والعزيز الذى يقهر ولا يغلب.
وتذل، من الذل، وهو ما كان عن قهر، يقال: ذل يذل ذلا إذا قهر وغلب والعزة صفة نفسية يحس بها المؤمن الصادق فى إيمانه، لأنه يشعر دائما بأنه عبد الله وحده وليس عبدا لأحد سواه، قال - تعالى -
{ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فالمؤمنون الصادقون أعزاء ولو كانوا فى المال والجاه فقراء. أما الكافرون فهم أذلاء، لأنهم خضعوا لغير الله الواحد القهار.
والمعنى: أنت يا الله يا ملك الملك، أنت وحدك الذى تؤتى الملك لمن تشاء أن تؤتيه له، وتنزعه ممن تريد نزعه منه، وأنت وحدك الذى تعز من تشاء إعزازه بالنصر والتوفيق، وتذل من تشاء إذلاله بالهزيمة والخذلان، ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التسليم المطلق من المؤمنين لذاته فقال - تعالى -: { بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
أى أنت وحدك الذى تملك الخير كله، وتتصرف فيه حسب إرادتك ومشيئتك، لأنك على كل شىء قدير.
وأل فى الخير للاستغراق الشامل، إذ كل خير فهو بيده - سبحانه - وقدرته، وتقديم الجار والمجرور { بِيَدِكَ } لإِفادة الاختصاص، أى بيدك وحدك على الحقيقة لا بيد غيرك، وجملة "إنك على كل شىء قدير" تعليلية.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: "كيف قال { بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ } فذكر الخير دون الشر؟ قلت: لأن الكلام إنما وقع فى الخير الذى يسوقه إلى المؤمنين وهو الذى أنكرته الكفرة فقال بيدك الخير، تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك، ولأن أفعال الله - تعالى - من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه".
ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا من مظاهر قدرته الباهرة فقال: { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فى ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ }.
الولوج فى الأصل: الدخول، والإِيلاج الإِدخال. يقال: ولج فلان منزله إذا دخله، فهو يلجه ولجا وولوجا. وأولجته أنا إذا أدخلته، ثم استعير لزيادة زمان النهار فى الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب.
أى أنت يا الله يا مالك الملك. أنت الذى بقدرتك تدخل طائفة من الليل فى النهار فيقصر الليل ويزيد النهار وتدخل طائفة من النهار فى الليل فيقصر النهار ويزيد الليل، وأنت وحدك الذى بقدرتك أن تجعلهما متعاقبين بأن تأتى بالليل رويداً رويداً فى أعقاب النهار، وتأتى بالنهار شيئاً فشيئاً فى أعقاب الليل، وفى كل ذلك دليل على سعة قدرتك، وواسع رحمتك. وتذكير واعتبار لأولى الألباب.
ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا آخر من مظاهر قدرته فقال: { وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ }.
قال الفخر الرازى: ذكر المفسرون فيه وجوها.
أحدها: يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح.
والثانى: يخرج الحيوان - وهو حى - من النطفة - وهى ميتة -، والدجاجة - وهى حية - من البيضة أو العكس.
والثالث: يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس: ثم قال: والكلمة محتملة للكل: أما الكفر والإِيمان فقال - تعالى -
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } يريد كان كافرا فهديناه، فجعل الكفر موتاً والإِيمان حياة، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل ما قبل ذلك ميتة فقال: { وَيُحْيِي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال: { فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } وفى الحق: إن المتدبر فى هذا الكون وما يعترى سكانه من موت وحياة ليشهد ويذعن بأن لهذا الكون خالقا قادرا هو الله الواحد القهار.
ثم ختم - سبحانه - مظاهر قدرته ورحمته بقوله { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } والرزق - كما يقول الراغب - يقال للعطاء الجارى تارة دنيويا كان أو أخرويا. وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة أخرى يقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علما، قال - تعالى -:
{ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ... } أى: من المال والجاه والعلم".
أى أنت يا الله يا مالك الملك، أنت وحدك الذى ترزق من تشاء أن ترزقه بغير حساب، أى رزقا واسعا عظيما لأنك أنت صاحب الجود والكرم، ولأنك ليس معك شريك فيحاسبك، بل أنت المعطى بدون محاسب، وبدون محاسبة من تعطيه، ولأن خزائن ملكك لا ينقصها العطاء مهما كثر.
ومن كانت هذه صفاته، وتلك بعض مظاهر قدرته: من إيتاء الملك لمن يشاء ونزعه ممن يشاء وإيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل، وإخراج الحى من الميت والميت من الحى، كان من حقه أن يفرد بالعبادة والخضوع
{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } قال ابن كثير: روى الطبرانى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسم الله الأعظم الذى إذا دُعى به أجاب فى هذه الآية: { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شىء قَدِيرٌ }" .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد وصفتا الخالق - عز وجل - بما هو أهله، من قدرة تامة وسلطان نافذ، ورحمة واسعة، وهذا الوصف من شانه أن يحمل كل عاقل على إخلاص العبادة له - سبحانه - وعلى الاستجابة لكل ما أمر به أو نهى عنه رغبة فى ثوابه، ورهبة من عقابه.
وبعد أن بين - سبحانه - أنه هو وحده مالك الملك، وأنه على كل شىء قدير، عقب ذلك بنهى المؤمنين عن موالاة أعدائه بسبب قرابة أو صداقة أو نحوهما، فقال - تعالى-: { لاَّ يَتَّخِذِ... }.