التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٩
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ
٣٠
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣١
قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ
٣٢
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وقل لغيرهم ممن يوجه إليهم الخطاب، قل لهم على سبيل الإِرشاد والتحذير { إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } من ولاية الكفار أو غيرها من الأقوال والأفعال { يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } فيجازيكم عليه بما تستحقون.
وفى أمر النبى صلى الله عليه وسلم بتوجيه هذا القول إلى المخاطبين ترهيب لهم من الآمر وهو الله - تعالى - لأن هذا التنويع فى الخطاب من شأنه أن يربى المهابة فى القلوب. وذلك - والله المثل الأعلى - كأن يقول الملك للمخالفين من رعيته: أحذركم من مخالفتى، ثم يأمر أحد أصفيائه بأن يكرر هذا التحذير وأن يبين لهم سوء عاقبة المخالفين.
وقوله { وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } جملة مستأنفة وليست معطوفة على جواب الشرط وهو { يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ }، وذلك لأن علمه - سبحانه - بما فى السماوات والأرض ليس متوقفا على شرط فلذلك جىء به مستأنفا. وهذا من باب ذكر العام بعد الخاص وهو علم ما فى صدوركم تأكيدا له وتقريراً.
وقوله { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شِيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل قصد به الإِخبار بأنه مع علمه الواسع المحيط، ذو قدرة نافذة على كل شىء وهذا لون من التهديد والتحذير لأن الذى يتوعد غيره بشىء لا يحول بينه وبين تحقيق هذا الشىء إلا أحد أمرين: الجهل بجريمة المجرم، أو العجز عن تنفيذ وعيده، فلما أعلمهم - سبحانه - بأنه محيط بكل شىء وقادر على كل شىء، ثبت أنه - سبحانه - متمكن من تنفيذ وعيده.
قال صاحب الكشاف: "وقوله { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أى: هو قادر على عقوبتكم وهذا بيان لقوله { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } لأن نفسه وهى ذاته المميزة من سائر الذوات، متصفة بعلم ذاتى لا يختص بمعلوم دون معلوم. فهى متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهى قادرة على المقدورات كلها فكان حقها أن تحذر وتتقى فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب فإنه مطلع عليه لا محالة فلاحق به العقاب. ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله، فوكل همه بما يورد ويصدر، ونصب عليه عيونا، وبث من يتجسس عن بواطن أموره: لأخذ حذره وتيقظ فى أمره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم أن العالم بالذات - يعنى أن علمه بذاته لا بعلم زائد عن ذاته كعلم الحوادث وهذا عند المعتزلة - الذى يعلم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن. اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك".
ثم كرر - سبحانه - التحذير من الحساب يوم القيامة وما يقع فيه من أهوال ورغب المؤمنين فى العمل الصالح فقال: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً }.
قال الآلوسى: الأمد: غاية الشىء ومنتهاه والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة والأمد مدة لها حد مجهول، والمراد هنا الغاية الطويلة، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة، ولعله الأظهر، فالتمنى هنا من قبيل التمنى فى قوله - تعالى -
{ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ } والمعنى: راقبوا ربكم أيها المؤمنون. وتزودوا من العلم الصالح واذكروا { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } فى الدنيا { مِنْ خَيْرٍ } وإن كان مثقال ذرة { مُّحْضَراً } لديها مشاهدا فى الصحف، حتى لكأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأى العين { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ } تراه أيضاً ظاهراً ثابتا مسجلا عليها، وتتمنى لو أن بينها وبين هذا العمل السىء زمنا طويلا، ومسافة بعيدة وذلك لأن الإِنسان يتمنى دائما أن يكون بيعدا بعدا شاسعاً عن الشىء المخيف المؤلم خصوصاً فى هذا اليوم العصيب وهو يوم القيامة.
وقوله { يَوْمَ } متعلق بمحذوف تقديره اذكروا، وهو مفعول به لهذا المحذوف. و "تجد" يجوز أن يكون متعديا لواحد فيكون بمعنى تصيب وتصادف، ويكون "محضراً" على هذا منصوبا على الحال. قال الجمل: وهذا هو الظاهر. ويجوز أن يكون بمعنى تعلم فيتعدى لاثنين أولهما { مَّا عَمِلَتْ } والثانى { مُّحْضَراً }.
وقوله { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ } معطوف على قوله { مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ }.
ويرى بعضهم أن "ما" فى قوله { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ } متبدأ، وخبرها جملة { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } فيكون المعنى: ما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمدا بعيدا.
أتى - سبحانه - بقوله { مُّحْضَراً } فى جانب الخير فقط من أن عمل السوء أيضاً يكون محضراً للإِشعار يكون عمل الخير هو المراد بالذات. وهو الذى يتمناه الإِنسان ويرجو حضوره فى هذا لما يترتب عليه من ثواب وأما عمل الشر فتتمنى كل نفس اقترفته لو بعد عنها ولم تره بسبب ما يترتب عليه من عقاب.
وقوله - سبحانه - { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } تكرير للتحذير الأول الذى جاء فى قوله - تعالى -
{ لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } والسر فى هذا التكرير زيادة التحذير من عقاب الله وانتقامه، فإن تكرار التحذير من شأنه أن يغرس فى القلوب التذكر والاعتبار والوجل.
وقيل: إن التحذير الأول ذكر للنهى عن موالاة الكافرين. والذى هنا ذكر للحث على عمل الخير والتنفير من عمل الشر.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَٱللَّهُ رَؤُوفُ بِٱلْعِبَادِ } ومن مظاهر رأفته ورحمته أنه حذر عباده قبل أن يعاقبهم، وأنه يعفو عن كثير من ذنوب عباده، وأنه فتح لهم باب التوبة حتى يقلعوا عن خطاياهم. إلى غير ذلك من مظاهر رأفته ورحمته.
ثم أمر الله - تعالى - رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرشد الناس إلى الطريق الذى متى سلكوه كانوا حقا محبين لله، وكانوا ممن يحبهم - سبحانه - فقال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }.
قال بعضهم: عن الحسن البصرى قال: قال قوم على عهد النبى صلى الله عليه وسلم يا محمد إنا نحب ربنا، فأنزل الله الآية، وروى محمد بن إسحاق عن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: "نزلت فى نصارى نجران وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله وتعظيما له فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم".
ومحبة العباد لله - كما يقول الزمخشرى - مجاز عن إرادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها، ومحبة الله عباده أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم.
والمعنى: قل يا محمد للناس على سبيل الإِرشاد والتبيين: إن كنتم تحبون الله حقا كما تدعون، فاتبعونى، فإن اتباعكم لى يؤدى إلى محبة الله لكم، وإلى غفرانه لذنوبكم، وذلك لأن محبة الله ليست دعوة باللسان، وإنما محبة الله تتحقق باتباع ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذى أرسله رحمة للعالمين.
قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، بأنه كاذب فى نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدى، والدين النبوى فى كل أقواله وأعماله كما ثبت فى الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" .
وقوله { يُحْبِبْكُمُ } جواب الأمر، وهو قوله { فَٱتَّبِعُونِي }. وهذا رأى الخليل.
ويرى أكثر المتأخرين من النحاة أن قوله "يحببكم الله" جواب لشرط مقدر دل عليه المقام والتقدير: إن كنتم تحبون الله فاتبعونى، وإن اتبعتمونى يحببكم الله، أى يمنحكم الثواب الجزيل، والأجر العظيم، والرضا الكبير.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن أول علامات محبة العبد لربه، هى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وأن هذا الاتباع يؤدى إلى محبة الله - تعالى - لهذا العبد وإلى مغفرة ذنوبه.
ومحبة الله لعبده هى منتهى الأمانى، وغاية الآمال، ولذا قال بعض الحكماء: "ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تَحب". ومحبة الله إنما تتأتى بإخلاص العبادة والوقوف عند حدوده والاستجابة لتعاليم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكل من يدعى أنه محب لله وهو معرض عن أوامره ونواهيه فهو كاذب فى دعواه كما قال الشاعر الصوفى:

تعصى الإِله وأنت تظهر حبههذا لعمرى فى القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعتهإن المحب لمن يحب مطيع

ثم ختم - سبحانه - الآية بوصفين جليلين فقال: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى أنه - سبحانه - كثير الغفران والرحمة لمن تقرب إليه بالطاعة، واتبع رسوله فيما جاء به من عنده.
ثم كرر - سبحانه - الأمر لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحض الناس على اتباع ما يسعدهم فقال له: { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ }.
أى قل لهم يا محمد أطيعوا الله وأطيعوا رسوله فى جميع الأوامر والنواهى، وإن من يدعى أنه مطيع لله دون أن يتبع رسوله فإنه يكون كاذبا فى دعواه، ولذا لم يقل - سبحانه - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، للإِشعار بأن الطاعة واحدة وأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى، كما قال سبحانه:
{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } ثم ذكر - سبحانه - عاقبة العصاة المعاندين فقال: { فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ } أى: فإن أعرضوا عما تأمرهم به يا محمد ولم يستجيبوا لك واستمروا على كفرهم، فإنهم لا ينالون محبة الله، لأنهم كافرون.
ففى هذه الجملة الكريمة دلالة على أن محبة الله لا ينالها إلا من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه - سبحانه - نفى حبه عن الكافرين، ومتى نفى حبه عنهم فقد أثبت بغضه، ولأنه عبر عن تركهم اتباع رسوله بالتولى وهو أفحش أنواع الإِعراض، ومن أعرض عن طاعة رسول الله كان بعيداً عن محبة الله.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ساقت للناس من التوجيهات السامية، والآداب العالية ما من شأنه أن يغرس فى النفوس إخلاص العبادة لله، والخشية من عقابه، والأمل فى ثوابه، والإِكثار من العمل الصالح الذى يؤدى إلى رضا الله ومحبته.
وبعد هذا الحديث الحكيم المتنوع - من أول السورة إلى هنا - عن وحدانية الله، وقدرته النافذة وعلمه المحيط، وعن أحقيته للعبادة والخضوع، وعن الكتب السماوية وما اشتملت عليه من هدايات وعن محكم القرآن ومتشابهه، وعن رعاية الله - تعالى - لعباده المؤمنين، وعن تهديد الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم، وعن الشهوات التى يميل الإِنسان بطبعه إليها وعما هو أفضل منها، وعن دين الإِسلام وانه هو الدين الذى ارتضاه الله لعباده، وعن بعض الرذائل التى عرفت عن أكثر أهل الكتاب، وعن حث الناس على مراقبة الله - تعالى - وإخلاص العبادة له حتى يكونوا ممن يحبهم ويحبونه فيسعدوا فى دينهم ودنياهم وآخرتهم... بعد كل ذلك تحدث القرآن - فى أكثر من ثلاثين آية - عمن اصطفاهم الله من عباده، وعن جانب من قصة مريم، وقصة زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام - وعن قصة ولادة عيسى - عليه السلام - وما صاحبها من خرق للعادات، وما منحه - سبحانه - من معجزات وعن محاجة الكافرين من أهل الكتاب فى شأنه وكيف رد القرآن عليهم... استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول: { إِنَّ ٱللَّهَ... }.