التفاسير

< >
عرض

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ
٣٨
فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٣٩
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
٤٠
قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ
٤١
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى - { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } كلام مستأنف، وقصة مستقلة سيقت فى تضاعيف قصة مريم وأمها لما بينهما من قوة الارتباط، وشدة الاشتباك مع ما فى إيرادها من تقرير ما سيقت له قصة مريم وأمها من بيان اصطفاء آل عمران.
و "هنا" ظرف يشار به إلى المكان القريب كما فى قوله - تعالى -
{ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } وتدخل عليه اللام والكاف "هنالك" أو الكاف وحدها "هناك" فيكون للبعيد وقد يشار به للزمان اتساعا.
والمعنى: فى ذلك المكان الطاهر الذى كان يلتقى فيه زكريا بمريم ويرى من شأنها ما يرى من فضائل وغرائب، تحركت فى نفس زكريا عاطفة الأبوة، وهو الشيخ الكبير الذى وهن عظمه واشتعل رأسه شيباً، وبلغ من الكبر عتياً - فدعا الله تعالى - بقلب سليم، وبنفس صافية وبجوارح خاشعة، أن يرزقه الذرية الصالحة. ولقد حكى القرآن دعاءه بأسلوبه المؤثر فقال:
{ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ }.
أى، قال زكريا مناجيا ربه: يا رب أنت الذى خلقتنى، وأنت الذى لا يقف أمام قدرتك شىء، وأنت الذى جعلتنى أرى من أحوال مريم ما يشهد بقدرتك النافذة وفضلك العميم فهب لى يا خالقى من عندك ذرية صالحة تقر بها عينى، وتكون خلفا من بعدى { إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } أى إنك عليم بدعائى علم من يسمع، قريب الإِجابة لمن يدعوك، فإن أجبت لى سؤالى فبفضلك وإن لم تجبه، فبعدلك وحكمتك. فأنت ترى فى هذا الدعاء الذى صدر عن زكريا - عليه السلام - أسمى ألوان الأدب والخشوع والإِنابة. فقد رفع أكف الضراعة فى مكان مقدس طاهر، وفى التعبير بقوله { دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } إشارة إلى تسليمه لله وإلى شعوره بقدرة الله على كل شىء، فهو الذى خلقه ورباه وتولاه برعايته فى كل أدوار حياته.
وفى قوله { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ } إشعار بأنه يريد من خالقه - عز وجل - أن يعطيه هذه الذرية بلا سبب عادى، ولكن بإرادته وقدرته لأنه لو كان الأمر فى هذا العطاء يعود إلى الأسباب والمسببات العادية لكان الحصول على الذرية مستبعداً إذ هو قد بلغ من الكبر عتيا وزوجته قد تجاوزت السن التى يحصل فيها الانجاب فى العادة.
أى هب لى من عندك لا من عندى، لأن الأسباب عندى أصبحت مستبعدة. وفى تقييد الذرية بكونها طيبة، إشارة إلى أن زكريا لقوة إيمانه، ونقاء سريرته، وحسن صلته بربه، لا يريد ذرية فحسب وإنما يريد ذرية صالحة يرجى منها الخير فى الدنيا والآخرة.
وجملة { إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } تعليلية، أى إنى ما التجأت إليك يا إلهى إلا لأنك مجيب للدعاء غير مخيب للرجاء.
قال القرطبى ما ملخصه "دلت هذه الآية على طلب الولد وهى سنة المرسلين والصديقين. قال الله - تعالى -
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } )... وقد ترجم البخارى على هذا "باب طلب الولد" وقال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى طلحة حين مات ابنه "أعرستم الليلة قال نعم. قال: بارك الله لكما فى غابر ليلتكما فقال رجل من الأنصار فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن" ، والأخبار فى هذا المعنى كثيرة. تحث على طلب الولد لما يرجوه الإِنسان من نفعه فى حياته وبعد مماته. قال صلى الله عليه وسلم إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث: فذكر منها "أو ولد صالح يدعو له" ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.
هذا، وقد حكى لنا القرآن فى سورة مريم دعاء زكريا بصورة أكثر تفصيلا فقال:
{ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } هذا هو دعاء زكريا كما حكاه الله - تعالى - فى أكثر من موضع فى كتابه الكريم فماذا كانت نتيجة هذا الدعاء الخاشع، والتضرع الخالص؟ لقد كانت نتيجته الإِجابة من الله - تعالى - لعبده زكريا، فقد قال - تعالى - { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فى ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ }.
أى: فنادت الملائكة زكريا - عليه السلام - وهو قائم يصلي فى المحراب، يناجى ربه. ويسبح بحمده بأن الله قد استجاب دعاءك ويبشرك بغلام اسمه يحيى، لكى تقر به عينك ويسر به قلبك.
والتعبير بالفاء فى قوله { فَنَادَتْهُ } يشعر بأن الله - تعالى - فضلا منه وكرما قد استجاب لزكريا دعاءه بعد فترة قليلة من هذا الدعاء الخاشع، إذ الفاء تفيد التعقيب.
ويرى فريق من المفسرين أن الذى ناداه هو جبريل وحده، ومن الجائز فى العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع.
قال ابن جرير: كما يقال فى الكلام: خرج فلان على بغال البريد وإنما ركب بغلا واحداً وركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وكما يقال: ممن سمعت هذا؟ فيقال: من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد، وقد قيل: إن منه قوله - تعالى -
{ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } والقائل كان فيما ذكر واحد. ويرى فريق آخر منهم أن الذى نادى زكريا وبشره بمولوده يحيى، جمع من الملائكة لأن الآية صريحة فى أن هذا النداء قد صدر من جمع لا من واحد، ولأن صدوره من جمع يناسب هذه البشارة العظيمة، فقد جرت العادة فى أمثال هذه البشارات العظيمة أن يقوم بها جمع لا واحد، ولا شك أن حالة زكريا وحالة زوجه تستدعيان عددا من المبشرين لإِدخال السرور على هذين الشخصين اللذين كادا يفقدان الأمل فى إنجاب الذرية.
وقد رجح هذا الاتجاه ابن جرير فقال "وأما الصواب من القول فى تأويله فأن يقال: إن الله - جل ثناؤه - أخبر أن الملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد، جبريل واحد فلا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل فى ألسن العرب دون الأقل ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفى من الكلام والمعاني".
وقوله { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء، و"يصلى" حال من الضمير المستكن فى قائم أو حال أخرى من مفعول النداء على القول بجواز تعدد الحال، وقوله { فِي ٱلْمِحْرَابِ } متعلق بيصلى. والمراد بالمحراب هنا المسجد، أو المكان الذى يقف فيه الإِمام فى مقدمة المسجد.
وقرأ جمهور القراء: { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } بفتح همزة أن - على أنه فى محل جر بباء محذوفه. أى: نادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى.
وقرأ ابن عامر وحمزة: { إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - بكسر الهمزة - على تضمين النداء معنى القول، أى: قالت له الملائكة إن الله يبشرك بيحيى.
وقوله: { بِيَحْيَـىٰ } متعلق بيبشرك، وفى الكلام مضاف أى يبشرك بولادة يحيى، لأن الذوات ليست متعلقا للبشارة.
وفى اقتران التبشير بالتسمية بيحيى، إشعار بأن ذلك المولود سيحيا اسمه وذكره بعد موته، وبذلك تتحقق الإِجابة لدعاء زكريا تحققا تاما، فقد حكى القرآن عنه فى سورة مريم أنه قال:
{ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } قال الجمل: و "يحيى، فيه قولان:
أحدهما: وهو المشهور عند أهل التفسير أنه منقول من الفعل المضارع، وقد سموا بالأفعال كثيراً نحو يعيش ويعمر.. وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعملية ووزن الفعل، نحو يزيد ويشكر وتغلب.
والثانى: أنه أعجمى لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهر، فامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة".
ثم وصف الله - تعالى - يحيى - عليه السلام - بأربع صفات كريمة فقال: { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }.
فالصفة الأولى: من صفات يحيى - عليه السلام - أنه كان { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } وللعلماء فى تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان:
أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه - وهم جمهور العلماء - أن المراد بكلمة الله هو عيسى - عليه السلام - لأنه كان يسمى بذلك أى أن يحيى كان مصدقا بعيسى ومؤمنا بأنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
وقد كان يحيى معاصرا لعيسى. وكانت بينهما قرابة قوية إذ أن والدة يحيى كانت أختا لأم مريم وقيل إن أم يحيى كانت أختا لمريم.
وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه أن المراد بكلمة الله كتابه، أى أن يحيى من صفاته الطيبة أنه كان مصدقا بكتاب الله وبكلامه، وذلك لأن الكلمة قد تطلق ويراد منها الكلام، والعرب تقول أنشد فلان كلمة أى قصيدة، وقال كلمة أى خطبة.
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب، لأن القرآن قد وصف عيسى بأنه كلمة الله فى أكثر من موضع فيه ومن ذلك قوله - تعالى -
{ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } وقوله تعالى - { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } ولأن فى التعبير عن عيسى الذى صدقه يحيى - بأنه كلمة من الله، إشعارا بأن ولادتهما متقاربة من حيث الزمن، وإيماء إلى أن زكريا - عليه السلام - قد أوتى علماً بأن المسيح عهده قريب، وأن يحيى - عليه السلام - سيعيش حتى يدرك عيسى.
وقوله { مُصَدِّقاً } منصوب على الحال المقدرة من يحيى، أى على الحال التى سيكون عليها فى المستقبل، والمراد بهذا التصديق الإِيمان بعيسى - كما سبق أن أشرنا - قيل: هو أول من آمن بعيسى وصدق أنه كلمة الله وروح منه.
و "من" فى قوله { مِّنَ ٱللَّهِ } للابتداء. والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة، أى مصدقاً بكلمة كائنة من الله - تعالى -.
والصفة الثانية: من صفات يحيى عبر عنها القرآن بقوله "وسيدا" والسيد - كما يقول القرطبى - الذى يسود قومه وينتهى إلى قوله. وأصله سيود يقال: فلان أسود من فلان على وزن أفعل من السيادة، ففيه دلالة على تسمية الإِنسان سيدا. وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبنى قريظة عندما دخل سعد بن معاذ -
"قوموا إلى سيدكم" وفى الصحيحين أنه قال فى الحسن "إن ابنى هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" .
والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون سيدا، أى يفوق غيره فى الشرف والتقوى وعفة النفس، بأن يكون مالكا لزمامها، ومسيطرا على أهوائها.
والصفة الثالثة: من صفاته عبر عنها القرآن بقوله: { وَحَصُوراً } وأصل الحصر: المنع والحبس. يقال حصرنى الشىء وأحصرنى إذا حبسنى.
والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون حابسا نفسه عن الشهوات، حتى لقد قيل عنه إنه امتنع عن الزواج وهو قادر على ذلك - زهادة منه واستعفافا، وليس صحيحا ما قيل من أنه كان لا يأتى النساء لعدم قدرته على ذلك.
قال ابن كثير: وقد قال القاضى عياض فى كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله على يحيى بأنه كان { وَحَصُوراً } معناه أنه معصوم من الذنوب، أى لا يأتيها كأنه حصور عنها. وقيل: مانعا نفسه من الشهوات، وقيل ليست له شهوة فى النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل فى كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله - تعالى - كيحيى - عليه السلام - ثم هى فى حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه: درجة عليا وهى درجة درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذى لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وهدايته لهن... والمقصود أن مدح يحيى بأنه حصور ليس معناه أنه لا يأتى النساء، بل معناه أنه معصوم من الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال: { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } كأنه قال ولداً له ذرية ونسل وعقب.
أما الوصف الرابع: من أوصاف يحيى - عليه السلام - فهو قوله - تعالى - { وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } وفى هذا الوصف بشارة ثانية لزكريا بأن ابنه سيكون من الأنبياء الذى اصطفاهم الله لتبليغ دعوته إلى الناس، وهذه البشارة أسمى وأعلى من الأولى التى أخبره الله فيها بولادة يحيى، لأن النبوة منزلة لا تعدلها منزلة فى الشرف والفضل.
ثم حكى القرآن بعد ذلك ما قاله زكريا بعد أن ساقت له الملائكة تلك البشارات السارة فقال - تعالى: { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } أنى هنا بمعنى كيف. و "عاقر" أى عقيم لا تلد لكبر سنها من العقر وهو العقم. يقال عقرت المرأة تعقر عقراً وعقراً فهى عاقر إذا بلغت سن اليأس من الولادة. أى قال زكريا على سبيل التعجب بعد أن نادته الملائكة وبشرته بما بشرته به: يا رب كيف يكون لي غلام والحال أننى قد أدركنى الكبر الكامل الذى أضعفنى، وفوق ذلك فإن امرأتى عاقر أى عقيم لا تلد لشيخوختها وبلوغها العمر الذى ينقطع معه النسل؟
قال بعضهم: وإنما قال ذلك استفهاما عن كيفية حدوث الحمل، أو استبعادا من حيث العادة، أو استعظاماً وتعجبا من قدرة الله - تعالى - لا استبعادا أو إنكارا فلا يرد: كيف قال زكريا ذلك ولم يكن شاكاً فى قدرة الله - تعالى -.
والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال زكريا عندما بشرته الملائكة؟ فكان الجواب: قال رب أنى يكون لى غلام.
وقد خاطب زكريا ربه مع أن النداء له صدر من الملائكة، للإِشعار بالمبالغة فى التضرع وأنه قد طرح الوسائط واتجه إلى خالقه مباشرة يشكره ويظهر التعجب من قدرته لأنه - سبحانه - أعطاه مالم تجر العادة به.
قال الآلوسي وقوله { يَكُونُ } يجوز أن تكون من كان التامة فيكون فاعلها هو قوله { غُلاَمٌ } ويكون الظرف { أَنَّىٰ } والجار والمجرور { لِي } متعلقان بها.
ويجوز أن تكون من كان الناقصة و { لِي } متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة. وفى الخبر حينئذ وجهان: أحدهما { أَنَّىٰ } لأنها بمعنى كيف أو من أين والثانى الخبر الجار والمجرور { أَنَّىٰ } منصوب على الظرفية".
وقوله { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ } جملة حالية من ياء المتكلم، أى أصابنى الكبر وأدركنى فأضعفنى وأفقدنى قوتى.
والكبر مصدر كبر الرجل إذا أسن. وقد قال زكريا { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ } ولم يقل وقد بلغت الكبر للإِشارة إلى أن الكبر قد تابعه ولازمه حتى أصابه بالضعف والآلام والأسقام.
وقوله { وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } جملة حالية أيضاً إما من ياء { لِي } أو ياء { بَلَغَنِي }.
فأنت ترى أن زكريا - عليه السلام - قد أظهر التعجب عندما بشرته الملائكة بغلامه يحيى لأنه كان شيخا مسنا ولأن امرأته كانت عقيما لا تلد إما لكبر سنها - أيضاً وإما لأنها من الأصل كانت على غير استعداد للحمل والإِنجاب.
قال ابن عباس: كان زكريا يوم بشر بيحيى ابن عشرين ومائة سنة وكانت أمرأته بنت ثمان وتسعين سنة".
ثم حكى القرآن أن الله تعالى قد رد على زكريا بما يزيل عجبه ويمنع حيرته فقال تعالى، { قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }.
أى قال - سبحانه -: مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذى رأيته من أن يكون لك غلام وأنت شيخ كبير وامرأتك عاقر مثل ذلك الفعل يفعل الله ما يشاء أن يفعله، لأنه - سبحانه - هو خالق الأسباب والمسببات ولا يعجزه شىء فى هذا الكون، وبقدرته أن يغير ما جرت به العادات بين الناس.
فالجملة الكريمة بجانب تضمنها إقناع زكريا وإزالة عجبه، تتضمن أيضاً تقرير قضية عامة وهى أن الله - تعالى - يفعل ما يشاء أن يفعله بدون تقيد بالأسباب والمسببات والعادات فهو الفعال لما يريد.
ثم حكى القرآن أن زكريا - لشدة لهفته على تحقق البشارة - سأل ربه أن يجعل له علامة تكون دليلا على تحقيق الحمل عند زوجته فقال - تعالى: { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً }.
أى قال زكريا مناجيا ربه: يا رب إنى أسألك أن تجعل لي { آيَةً } آي: علامة تدلنى على حصول الحمل عند زوجتى: لأبادر إلى القيام بشكر هذه النعمة شكراً جزيلا ولأقوم بحقها حق القيام.
وقد أجابه - سبحانه - إلى طلبه فقال: { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً }.
أى قال الله - تعالى - لعبده زكريا: آيتك أى علامتك ألا تقدر على كلام الناس من غير آفة فى لسانك لمدة ثلاثة أيام إلا { رَمْزاً } أى إلا عن طريق الإِيحاء والإِشارة.
وأصل الرمز الحركة. يقال ارتمز أى تحرك، ومنه قيل للبحر الراموز وفعله من باب نصر وضرب. ثم أطلق الرمز على الإِيماء بالشفتين أو بالحاجبين وعلى الإِشارة باليدين وهو المراد هنا.
قال صاحب الكشاف: قال الله - تعالى - لزكريا آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام: وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله. ولذلك قال: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } يعنى فى أيام عجزك عن تكليم الناس وهى من الآيات الباهرة، فإن قلت: لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت: ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها الذى طلب الآية من أجله، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر. وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه { إِلاَّ رَمْزاً } أى: إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما.
وعلى رأى صاحب الكشاف يكون احتباس لسان زكريا عن كلام الناس اضطراريا وليس عن اختيار منه.
ويمكن أن يقال. إن المراد بقوله - تعالى - { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً }... أن زكريا - عليه السلام - عندما طلب آية يعرف بها أن زوجته قد حملت بهذا الغلام الذى بشره الله به، أخبره - سبحانه - أن العلامة على ذلك أن يوفق إلى خلوص نفسه من شواغل الدنيا حتى أنه ليجد نفسه متجها اتجاها كليا إلى ذكر الله وتمجيده وتسبيحه، دون أن يكون عنده أى دافع إلى كلام الناس أو مخالطتهم مع قدرته على ذلك، وعلى هذا يكون انصراف زكريا - عليه السلام - عن كلام الناس اختياريا وليس اضطراريا كما يرى صاحب الكشاف.
ثم أمره الله - تعالى - بالإِكثار وتسبيحه فقال: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ }.
و { ٱلْعَشِيِّ } جمع عشية وقيل: هو واحد وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، وأما { ٱلإِبْكَارِ } فمصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر فى أول النهار... ومنه الباكورة لأول الثمرة. والمراد به هنا الوقت الذى يكون من طلوع الفجر إلى الضحى.
أى عليك أن تكثر من ذكر الله - تعالى - ومن تسبيحه فى أول النهار وفى آخره وفى كل وقت لا سيما فى تلك الأيام الثلاثة شكراً لله - تعالى - على ما أعطاك من نعم جليلة لا تحصى، فقد وهبك الذرية بعد أن بلغت من الكبر عتيا، وجعل هذا المولود من أنبياء الله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته.
وفي هذا الأمر الإِلهي لزكريا حصن لكل عاقل على الإِكثار من ذكر الله من تسبيحه وتمجيده لأن ذكر الله به تطمئن القلوب. وتسكن النفوس وتغسل الخطايا والذنوب ويكفى للدلالة على فضل الذكر أن الله - تعالى - أمر به حتى فى حالة الحرب فقال:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من قصد زكريا - عليه السلام - فيه الكثير من العبر والعظات لقوم يعقلون.
وبعد أن بين - سبحانه - ما يدل على مظاهر قدرته فى ولادة يحيى - عليه السلام - حيث وهبه لوالديه بعد أن بلغا مبلغاً كبيراً من العمر يستبعد معه فى العادة الإِنجاب... بعد أن بين كل ذلك ساق قصة أخرى أدل على قدرة الله ونفاذ إرادته من قصة ولادة يحيى، وهذه القصة هى قصة ولادة عيسى - عليه السلام - من غير أب. وقد مهد القرآن لولادة عيسى ببيان أن الله - تعالى - قد اصطفى أمه مريم وطهرها من كل فاحشة، وفضلها على نساء زمانها، وصانها من كل ما يخدش المروءة والشرف. استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول: { وَإِذْ قَالَتِ.... }.