التفاسير

< >
عرض

رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ
٨
رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ
٩
-آل عمران

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

اشتملت هاتان الآيتان على دعوات طيبات. ويرى بعض العلماء أن هذه الدعوات من مقول الراسخين فى العلم، فهم يقولون: { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } ويقولون أيضاً { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } ويرى بعضهم أن هذا الكلام جديد، وهو تعليم من الله - تعالى - لعباده ليكثروا من التضرع إليه بهذه الدعوات وأمثالها.
والزيغ - كما أشرنا فى الآية السابقة - الميل عن الاستقامة، والانحراف عن الحق، يقال: زاغ يزيغ أى مال ومنه زاغت الشمس إذا مالت.
والمعنى: نسألك يا ربنا ونضرع إليك ألا تميل قلوبنا عن الهدى بعد إذ ثبتنا عليه ومكنتنا منه. وأن تباعد بيننا وبين الزيغ الذى لا يرضيك. وبين الضلال الذى يفسد القلوب، ويعمى البصائر. { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً } أى وامنحنا من عندك ومن جهتك إنعاماً وإحسانا تشرح بهما صدورنا. وتصلح بهما أحوالنا { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } لا غيرك، فأنت مالك الملك وأنت القائل
{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد تضمنت سؤال المؤمنين ربهم تثبيت الإِيمان فى قلوبهم ومنحهم المزيد من فضله وإنعامه وإحسانه.
قال الفخر الرازى - ما ملخصه -: وقال - سبحانه - { رَحْمَةً } ليكون ذلك شاملا لجميع أنواعها التى تتناول حصول نور الإِيمان والتوحيد والمعرفة فى القلب، وحصول الطاعة فى الأعضاء والجوارح، وحصول سهولة أسباب المعيشة والأمن والصحة والكفاية فى الدينا وحصول سهولة سكرات الموت عند حضوره، وحصول سهولة السؤال فى القبر، وغفران السيئات والفوز بالجنات فى الآخرة. وقوله { مِن لَّدُنْكَ } يتناول كل هذه الأقسام. لأنه لما ثبت بالبراهين الباهرة أنه لا رحيم إلا هو أكد ذلك بقوله "من لدنك" تنبيها للعقل والقلب والروح على أن هذا المقصود لا يحصل إلا منه - سبحانه - ثم قال: { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } كأن العبد يقول: إلهى هذا الذى طلبته منك فى هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلى، حقير بالنسبة إلى كمال كرمك، فأنت الوهاب الذى من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها، فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك فلا تخيب رجاء هذا المسكين، ولا ترد دعاءه واجعله أهلا لرحمتك".
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير وغيره بعض الأحاديث النبوية عند تفسيرهم لهذه الآية ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائى وابن مردويه عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال "لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبى وأسألك رحمتك. اللهم زدنى علما، ولا تزغ قلبى بعد إذ هديتنى، وهب لى من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب".
وروى الترمذى عن شهر بن حوشب قال:
"قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك فقلت: يا رسول الله، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك؟ قال: يا أم سلمة إنه ليس آدمى إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ" فتلا معاذ - أحد رجال سند هذا الحديث - { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا }.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك، قلنا: يا رسول الله قد آمنا بك، وصدقنا بما جئت به، أفيخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها تبارك - وتعالى -" .
ثم حكى - سبحانه - ضراعة أخرى تضرع بها المؤمنون إلى خالقهم فقال: { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ }.
أي: يا ربنا إنك جامع الناس: محسنهم ومسيئهم، مؤمنهم وكافرهم. ليوم لا شك فى وقوعه وحصوله وهو يوم الحساب والجزاء، لتجازى الذين أساءوا بما عملوا وتجازى الذين أحسنوا بالحسنى. فأنت - سبحانك - لم تخلق الخلق عبثا، ولن تتركهم سدى، وإنما خلقتهم لرسالة عظمى هى عبادتك وطاعتك. فمن استجاب لك تفضلت عليه بالثواب العظيم، ومن أعرض عن طاعتك عاقبته بما يستحقه.
وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب فى وقوع يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب.
أى إنك يا مولانا لا تخلف ما أخبرت به عبادك من أن هناك يوما لا شك فى وقوعه، تجازى فيه الناس على أعمالهم بمقتضى إرادتك ومشيئتك.
وفى هذه الآية الكريمة إشعار بأن نهاية أمل المؤمنين أن يظفروا بالجزاء الحسن من خالقهم يوم القيامة، لأنهم بعد أن سألوه تثبيت الإِيمان وسعة الرحمة، توجهوا إليه بالمقصود الأعظم وهو حسن الثواب يوم القيامة. فكأنهم قالوا - كما يقول الرازى -: ليس الغرض من تلك الدعوات ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها فانية؛ وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء فى يوم القيامة، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا، وكلامك لا يكون كذبا فمن زاغ قلبه بقى هناك فى العذاب أبد الآباد، ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين، بقى هناك فى السعادة والكرامة أبد الآبدين فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة".
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملنا على دعوات كريمات بليغات، من شأنها أن تسعد الناس فى دينهم ودنياهم. والله نسأل أن ينفعنا بها إنه مجيب الدعاء، وأرحم الراحمين.
وبعد هذا الدعاء الجامع الحكيم الذى حكاه الله - تعالى - عن عباده المؤمنين عقب ذلك بالحديث عن الكافرين، وعن أسباب كفرهم وغرورهم، وعن سوء عاقبتهم فقال تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ.... }.