التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً
٤١
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٤٢
هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً
٤٣
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً
٤٤
-الأحزاب

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمقصود بذكر الله - تعالى - فى قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } ما يشمل التهليل والتحميد والتكبير وغير ذلك من القوال والأفعال التى ترضيه - عز وجل -.
أى: يا من آمنتم بالله حق الإِيمان اكثروا من التقرب إلى الله - تعالى - بما يرضيه، فى كل أوقاتكم وأحوالكم، فإن ذكر الله - تعالى - هو طب النفوس ودواؤها، وهو عافية الأبدان وشفاؤها، به تطمئن القلوب، وتنشرح الصدور..
والتعبير بقوله: { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } يشعر بأن من شأن المؤمن الصادق فى إيمانه، أن يواظب على هذه الطاعة مواظبة تامة.
ومن الأحاديث التى وردت فى الحض على الإِكثار من ذكر الله، ما رواه الإِمام أحمد عن أبى الدرداء.. رضى الله عنه.. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها فى درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والوَرِقِ - أى: الفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم، قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله - عز وجل -" .
وعن عمرو بن قيس قال: سمعت عبد الله بن بسر يقول: " جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله، أى الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله.
وقال الآخر: يا رسول الله، إن شرائع الإِسلام قد كثرت علينا، فمرنى بأمر أتشبث به. قال: لا يزال لسانك رطبا بذكر الله"
.
وقال ابن عباس: لم يفرض الله - تعالى - فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها فى حال العذر، غير الذكر، فإن الله - تعالى - لم يجعل له حدا ينتهى إليه، ولم يعذر أحداً فى تركه إلا مغلوبا على عقله، وأمرهم به فى الأحوال كلها. فقال - تعالى -: { { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ... } وقال - سبحانه -: { { فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلاَةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ.. } أى: بالليل وبالنهار، فى البر والبحر، وفى السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال...
وقوله: { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } معطوف على { ٱذْكُرُواْ... } والتسبيح: التنزيه. مأخوذ من السبح، وهو المر السريع فى الماء أو فى الهواء. فالمسبح مسرع فى تنزيه الله وتبرئته من السوء. والبكرة: أول النهار. والأصيل: أخره.
أى: اكثروا - أيها المؤمنون - من ذكر الله - تعالى - فى كل أحوالكم، ونزهوه - سبحانه - عن كل ما لا يليق به، فى أول النهار وفى آخره.
وتخصيص الأمر بالتسبيح فى هذين الوقتين، لبيان فضلهما، ولمزيد الثواب فيهما، وهذا لا يمنع أن التسبيح فى غير هذين الوقتين له ثوابه العظيم عند الله - تعالى -.
- وأيضا - خص - سبحانه - التسبيح بالذكر مع دخوله فى عموم الذكر، للتنبيه على مزيد فضله وشرفه..
قال صاحب الكشاف: والتسبيح من جملة الذكر. وإنما اختصه - تعالى - من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة، ليبين فضله على سائر الأذكار، لأنه معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال...
وقوله - سبحانه -: { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ.. } استئناف جار مجرى التعليل لما قبله، من الأمر بالإِكثار من الذكر ومن التسبيح.
والصلاة من الله - تعالى - على عباده معناها: الرحمة بهم، والثناء عليهم، كما أن الصلاة من الملائكة على الناس معناها: الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة.
قال القرطبى: قوله - تعالى -: { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ }.. قال ابن عباس: لما نزل:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ... } قال المهاجرون والأنصار: هذا لك يا رسول الله خاصة، وليس لنا فيه شئ، فأنزل الله هذه الآية.
ثم قال القرطبى: قلت: وهذه نعمة من الله - تعالى على هذه الأمة من أكبر النعم، ودليل على فضلها على سائر الأمم. وقد قال:
{ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } }. والصلاة من الله على العبد هى رحمته له، وبركته لديه. وصلاة الملائكة: دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم، كما قال - تعالى -: { { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } }. وقوله: { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } متعلق بقوله: { يُصَلِّي } أى: يرحمكم - سبحانه - برحمته الواسعة، ويسخر ملائكته للدعاء لكم، لكى يخرجكم بفضله ومنته، من ظلمات الظلال والكفر إلى النور والهداية والإِيمان.
{ وَكَانَ } - سبحانه - وما زال { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } رحمة عظيمة واسعة، تشمل الدنيا والآخرة.
أما رحمته لهم فى الدنيا فمن مظاهرها: هدايته إياهم إلى الصراط المستقيم.
وأما رحمته - سبحانه - لهم فى الآخرة فمن مظاهرها: أنهم يأمنون من الفزع الأكبر.
وفى صحيح البخارى عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه -،
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبى قد أخذت صبيا لها فألصقته إلى صدرها وأرضعته فقال: أترون هذه تلقى ولدها فى النار وهى تقدر على ذلك؟ قالوا: لا. قال: فوالله لله أرحم بعباده من هذه لولدها" .
ثم بين - عز وجل - ما أعده للمؤمنين فى الآخرة فقال: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ }.
والتحية: أن يقول قائل للشخص: حياك الله، أى: جعل لك حياة طيبة.
وهذه التحية للمؤمنين فى الآخرة، تشمل تحية الله - تعالى - لهم، كما فى قوله - سبحانه -:
{ { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } }. وتشمل تحية الملائكة لهم، كما فى قوله - تعالى -: { { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } }. كما تشمل تحية بعضهم لبعض كما فى قوله - عز وجل -: { { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } }. أى: تحية المؤمنين يوم يلقون الله - تعالى فى الآخرة، أو عند قبض أرواحهم، سلام وأمان لهم من كل ما يفزعهم أو يخيفهم أو يزعجهم..
{ وَأَعَدَّ لَهُمْ } - سبحانه - يوم القيامة { أَجْراً كَرِيماً } هو الجنة التى فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ثم وجه - سبحانه - نداء إلى النبى صلى الله عليه وسلم حدد له فيه وظيفته، وأمره بتبشير المؤمنين بما يسرهم، ونهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ...وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً }.