التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
٤٣
وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ
٤٤
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
٤٥
-سبأ

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله: { تُتْلَىٰ } من التلاوة، وهى قراءة الشئ بتدبر وتفهم.
أى: وإذا ما تليت آياتنا الدالة دلالة واضحة على وحدانيتنا وقدرتنا، وعلى صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنا.
{ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ } أى: قالوا على سبيل الإِنكار والاستهزاء، ما هذا التالى لتلك الآيات إلا رجل يريد أن يمنعكم عن عبادة الآلهة التى كان يعبدها آباؤكم الأقدمون.
ويعنون بقولهم { مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ } الرسول صلى الله عليه وسلم ويقصدون بالإِشارة إليه، الاستخفاف به، والتحقير من شأنه صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: { يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ } لإِثارة حمية الجاهلية فيهم فكأنهم يقولون لهم: احذروا اتباع هذا الرجل، لأنه يريد أن يجعلهم من أتباعه، وأن يقطع الروابط التى تربط بينكم وبين آبائكم الذين أنتم قطعة منهم.
ولم يكتفوا بالتشكيك فى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بل أضافوا إلى ذلك التكذب للقرآن الكريم، ويحكى - سبحانه - ذلك فيقول: { وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى }.
أى: وقالوا فى شأن القرآن الكريم: ما هذا الذى يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم علينا، إلا { إِفْكٌ } أى: كلام مصروف عن وجهه، وكذب فى ذاته { مُّفْتَرًى } أى: مختلق على الله - تعالى - من حيث نسبته إليه.
فقوله { مُّفْتَرًى } صفة أخرى وصفوا بها القرآن الكريم، فكأنهم يقولون - قبحهم الله - ما هذا القرآن إلا كذب فى نفسه، ونسبته إلى الله - تعالى - ليست صحيحة.
ثم أضافوا إلى تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن، تكذيبا عاما لكل ما جاءهم به الرسول من حق، فقالوا - كما حكى القرآن عنهم -: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }.
أى: وقال الكافرون فى شأن كل حق جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذى جئتنا به إلا سحر واضح.
وهكذا نراهم - لعنادهم وجهلهم - قد كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وكذبوا القرآن. وكذبوا كل توجيه قويم، وإرشاد حكيم، أرشدهم إليه صلى الله عليه وسلم إذ اسم الإِشارة الأول يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والثانى يعود إلى القرآن، والثالث يعود إلى تعاليم الإِسلام كلها.
ثم بين - سبحانه - أن أقوالهم هذه لا تستند إلى دليل أو ما يشبه الدليل، وإنما هم يهرفون بما لا يعرفون، فقال - تعالى -: { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ }.
أى: أن هؤلاء الذين قالوا ما قالوا من باطل وزور، لم نأتهم بكتب يدرسونها ويقرءونها ليعرفوا منها أن الشرك حق، فيكون لهم عذرهم فى التمسك به، وكذلك لم نرسل إليهم قبلك - أيها الرسول الكريم - نذيرا يدعوهم إلى عبادة الأصنام، ويخوفهم من ترك عبادتها.
وما دام الأمر كذلك، فمن أين أتوا بهذا التصميم على شركهم، وبهذا الإِنكار للحق الذى جاءهم؟ إن أمرهم هذا لهو فى غاية الغرابة والعجب.
فالمقصود من الآية الكريمة تجهيلهم والتهكم بهم، ونفى أن يكون عندهم حتى ما يشبه الدليل على صحة ما فيه من شرك.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } وقوله - عز وجل -: { { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } }. ثم بين لهم - سبحانه - بعد ذلك هوان أمرهم. وتفاهة شأنهم بالنسبة لمن سبقوهم، فقال: { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }.
والمعشار بمعنى العشر وهو لغة فيه. تقول: عندى عشر دينار ومعشار دينار، قال أبو حيان: والمعشار مفعال من العشر، ولم يبين على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع. ومعناهما: العشر والربع...
والضمير فى قوله { وَمَا بَلَغُواْ } يعود لكفار مكة، وقوله: { مَآ آتَيْنَاهُمْ } وفى قوله: { فَكَذَّبُواْ رُسُلِي } يعود إلى الأمم السابقة.
والنكير: مصدر كالإِنكار، وهو من المصادر التى جاءت على وزن فعيل.
والمعنى: لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لتكذيب قومك لك، فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم، وإن قومك لم يبلغوا من القوة والغنى والكثرة.. عشر ما كان عليه سابقوهم، ولكن لما كذب أولئك السابقون أنبياءهم، أخذتهم أخذ عزيز مقتدر، بأن دمرناهم جميعا.
والاستفهام فى قوله - تعالى - { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } للتهويل. والجملة الكريمة معطوفة على مقدر والمعنى: فحين تمادوا فى تكذيب رسلى، جاءهم إنكارى بالتدمير، فكيف كان إنكارى عليهم بالتدمير والإهلاك؟ لقد كان شيئا هائلا فظيعا تركهم فى ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها، فعلى قومك أن يحذروا من أن يصيبهم مثله.
وجعل - سبحانه - التدمير إنكارا، تنزيلا للفعل منزلة القول، كما فى قول بعضهم: ونشتم بالأفعال لا بالتكلم.
ويرى بعضهم أن الضمير فى قوله { وَمَا بَلَغُواْ } يعود على الذين من قبلهم، وفى قوله { آتَيْنَاهُمْ } يعود إلى كفار مكة.
وقد رجح الإِمام الرازى هذا الرأى فقال ما ملخصه: قال المفسرون: معنى الآية: ما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين.. ثم إن الله أخذ هؤلاء المتقدمين دون أن تنفعهم قوتهم، لما كذبوا رسلهم، فكيف حال هؤلاء الضعفاء - وهم قومك.
ثم قال -رحمه الله -: وعندى وجه آخر فى معنى الآية، وهو أن يقال: وكذب الذين من قبلهم، وما بلغوا معشار ما آتيناهم، أى: الذين من قبلهم ما بلغوا معشار ما آتينا قومك من البيان والبرهان. وذلك لأن كتابك يا محمد أكمل من سائر الكتب.
فإذا كنت قد أنكرت على المتقدمين لما كذبوا رسلهم - مع أنهم لم يؤتوا معشار ما أوتى قومك من البيان -، فكيف لا أنكر على قومك بعد تكذيبهم لأوضح الكتب، وأفصح الرسل..
ويبدو لنا أن المعنى الأول الذى عبر عنه الإِمام الرازى بقوله: قال المفسرون، هو الأرجح لأنه هو المتبادر من معنى الآية الكريمة، لأنه يفيد التقليل من شأن مشركى مكة، بالنسبة لمن سبقهم من الأمم، من ناحية القوة والغنى.
وفى القرآن الكريم آيات متعددة تؤيد هذا المعنى، منها قوله - تعالى -:
{ { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } }. وبعد هذا الحديث عن أقوال المشركين فى شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وفى شأن القرآن.. وبعد هذا الرد الملزم لهم والمزهق لباطلهم. بعد كل ذلك لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم الحجج القاطعة، والأقوال الحكيمة، التى تهدى إلى الرشد بأبلغ أسلوب، وأصدق بيان، فقال - تعالى -: { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ...إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ }.