التفاسير

< >
عرض

تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١
إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ
٢
أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ
٣
لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٤
-الزمر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة "الزمر" بالثناء على القرآن الكريم، وببيان مصدره، قال - تعالى -: { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ }.
أى: هذا الكتاب وهو القرآن الكريم. قد نزل عليك - يا محمد - من لدن الله - تعالى - { ٱلْعَزِيزِ } أى: الغالب على كل شئ { ٱلْحَكِيمِ } فى كل تصرفاته وأفعاله، وليس هذا القرآن قولا مفترى كما زعم الجاحدون الذين انطمست بصائرهم، واستحبوا العمى على الهدى.
والذى يتتبع آيات القرآن الكريم، يرى أن الله - تعالى - إذا ذكر تنزيله لكتابه أتبع ذلك ببعض أسمائه الحسنى، المتضمنة لصفاته الجليلة.
ففى أول سورة غافر نجد قوله - تعالى -: { حـمۤ. تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ }.
وفى أول سورة الجاثية نجد قوله - تعالى -: { حـمۤ. تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ }.
وفى أول سورة الأحقاف نجد مثل هذا الافتتاح.
وفى أول سورة فصلت نجد قوله - تعالى -:
{ { حـمۤ. تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } }. وفى صدر سورة "يس" نجد قوله - سبحانه - { { تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ. لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ... } }. ولا يخفى أن ذكره - سبحانه - لبعض أسمائه الحسنى، بعد ذكره لتنزيل هذا القرآن على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم فيه ما فيه من الثناء على القرآن الكريم، ومن بيان أنه قد نزل من عند الله - تعالى - وحده، الذى له الخلق والأمر. تبارك الله رب العالمين.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدعو الناس إلى قبول هذا الكتاب، وإلى العمل بهداياته، فقال - تعالى -: { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقَّ.. }.
أى: هذا الكتاب هو تنزيل من عند الله - تعالى - الغالب على كل شئ. والحكيم فى أقواله وأفعاله. وقد أنزله - سبحانه - عليك - يا محمد - تنزيلا ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل، أو ما يشبه الباطل، وذلك يوجب قبوله والعمل بكل ما فيه.
قال الآلوسى: قوله - تعالى - : { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقّ } بيان لكونه نازلا بالحق، وتوطئة لما يذكر بعد.. أو شروع فى بيان المنزل إليه، وما يجب عليه إثر بيان شأن المنزل.. والباء متعلقة بالإِنزال، وهى للسببية، أى: أنزلناه بسبب الحق، أى: إثباته وإظهاره. أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وهى للملابسة. أى: أنزلناه ملتبسا بالحق والصواب.
والمراد أن كل ما فيه موجب للعمل والقبول حتما.
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والعبادة: أقصى درجات التذلل والخضوع للمعبود - عز وجل - والإِخلاص معناه: أن يقصد المسلم بعبادته وقوله وعمله وجه الله - تعالى - .
أى: أنزلنا إليك - أيها الرسول الكريم - هذا الكتاب بالحق الذى لا يشوبه باطل، وما دام الأمر كذلك فعليك أن تخلص لربك عبادتك وطاعتك ودينك إخلاصا تاما، لا يحوم حوله رياء أو تفاخر، أو غير ذلك مما يتنافى مع إخلاص الخضوع لله - تعالى - وحده.
قال الشوكانى: وفى الآية دليل على وجوب النية، وإخلاصها من الشوائب لأن الإِخلاص من الأمور القلبية التى لا تكون إلا بأعمال القلب، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأمر فى الأقوال والأفعال النية، كما فى حديث:
"إنما الأعمال بالنيات" وحديث: "لا قول ولا عمل إلا بنية" .
وجملة { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } مؤكدة ومقررة لمضمون ما قبلها من وجوب إفراد العبادة والطاعة لله - تعالى -: وزادها تأكيداً وتقريراً لما قبلها تصديرها بأداة الاستفتاح { ألا } واشتمالها على أسلوب القصر.
أى: ألا إن الله - تعالى - وحده - وليس لأحد سواه - الدين الخالص من شوائب الشرك والرياء. والعبادة لوجهه وحده، والخضوع لقدرته التى لا يعجزها شئ.
ثم بين - سبحانه - ما عليه المشركون من ضلال فقال: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.. }
فالمراد بالموصول المشركون، ومحله الرفع على الابتداء، وخبره قوله - تعالى - بعد ذلك: { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } وجملة { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } فى محل نصب على الحال بتقدير القول، والاستثناء مفرغ من أعم العلل. والزلفى: اسم أقيم مقام المصدر الذى يتلاقى معه فى المعنى، والمأخوذ من قوله { لِيُقَرِّبُونَآ }.
أى: لله - تعالى - وحده الدين الخالص، والمشركون الذين اتخذوا معبودات باطلة ليعبدوها من دون الله، كانوا يقولون فى الرد على من ينهاهم عن ذلك: إننا ما نعبد هذه المعبودات إلا من أجل أن نتوسل بها، لكى تقربنا إلى الله قربى، ولتكون شفيعة لنا عنده حتى يرفع عنا البلاء والمحن.
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أى: بين هؤلاء المشركون وبين غيرهم من المؤمنين الذين أخلصوا لله - تعالى -العبادة والطاعة { فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من أمر التوحيد والشرك، بأن يجازى المؤمنين بحسن الثواب، ويجازى الكافرين بسوء العقاب.
{ إِنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - { لاَ يَهْدِي } أى: لا يوفق للاهتداء للحق { مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ }.
أى: من كان دائم الكذب على دين الله، شديد الجحود لآيات الله وبراهينه الدالة على وحدانيته، وعلى أنه لا رب لهذا الكون سواه.
ثم أبطل - سبحانه - كل تصور للشرك والشركاء، بأن نزه - تعالى - ذاته عن اتخاذ الولد فقال: { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ }.
أى: لو أراد الله - تعالى - على سبيل الفرض والتقدير - أن يتخذ ولدا، لاختار من خلقه ما يريده هو، لا ما يريده الضالون، لكنه - سبحانه - لم يختر أحدا ليكون ولدا له، فدل ذلك على بطلان زعم الزاعمين بأن الملائكة بنات الله، أو بأن عزيراً ابن الله، أو بأن المسيح ابن الله.
{ سُبْحَانَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } أى: تنزه - عز وجل - عن كل شئ من ذلك، فإنه هو الله الواحد فى ذاته وفى صفاته، القهار لكل مخلوقاته.
قال الإِمام ابن كثير: بيَّن - تعالى - فى هذه الآية أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين فى الملائكة، والمعاندون من اليهود والنصارى فى العزير وعيسى فقال: { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أى. لكان الأمر على خلاف ما يزعمون.
وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه، بل هو محال، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه، كما قال:
{ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } وكما قال: { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } كل هذا من باب الشرط، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لقصد المتكلم.
وقال بعض العلماء ما ملخصه: إرادة اتخاذ الولد هنا ممتنعة، لأن الإِرادة لا تتعلق إلا بالممكنات، واتخاذ الولد محال، كما ثبت بالبرهان القطعى فتستحيل إرادته. وجعلها فى الآية شرطا وتعليق الجواب عليها، لا يقتضى إمكانها فضلا عن وقوعها، وقد عرف فى فصيح الكلام: تعليق المحال على المحال جوازا ووقوعا.
على أن الولدية تقتضى التجانس بين الوالد والولد. إذ هو قطعة منه. وقد ثبت أن كل ما عداه - سبحانه - مخلوق له. فيلزم بموجب التجانس أن يكون المخلوق من جنس الخالق، وهو يستلزم حدوث الخالق، أو قدم المخلوق، وكلاهما محال.
ثم أقام - سبحانه - المزيد من الأدلة على وحدانيته وقدرته، عن طريق التأمل فى ملكوت السموات والأرض، وفى ظاهرة الليل والنهار، وفى تسخير الشمس والقمر، وفى خلق بنى آدم من نفس واحدة... فقال - تعالى -:
{ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ... }.