التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٧
قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٢٨
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٩
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ
٣٠
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
٣١
-الزمر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

واللام فى قوله - تعالى -: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ... } موطئة للقسم.
أى: والله لقد ضربنا وكررنا بأساليب متنوعة فى هذا القرآن العظيم، من كل مثل يحتاج إليه الناس فى أمورهم وشئونهم، وينتفعون به فى دنياهم ودينهم.
وقوله - تعالى -: { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } تعليل لضرب المثل. أى فعلنا ذلك فى كتابنا الذى هو أحسن الحديث، كى يتعظوا ويعتبروا ويتذكروا ما أمرناهم به، أو نهيناهم عنه.
فلعل هنا بمعنى كى التعليلية، وهذا التعليل إنما هو بالنسبة إلى غيره - تعالى -.
وقوله - سبحانه - { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ... } ثناء آخر منه - تعالى - على كتابه الكريم.
والجملة الكريمة حال مؤكدة من قوله قبل ذلك: { هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ... }
أى: هذا القرآن قرآنا عربيا لا لبس فيه ولا اختلاف ولا اضطراب ولا تناقض.
قال صاحب الكشاف: قوله { قُرْآناً عَرَبِيّاً } حال مؤكدة كقولك: جاءنى زيد رجلا صالحا، وإنسانا عاقلا. ويجوز أن ينتصب على المدح { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أى: مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف.
فإن قلت: فهلا قيل مستقيما، أو غير معوج؟ قلت: فيه فائدتان:
إحداهما: نفى أن يكون فيه عوج قط، كما قال:
{ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعانى دون الأعيان... وقيل: المراد بالعوج: الشك واللبس، وأنشد:

وقد أتاك غير ذى عوجمن الإِله وقول غير مكذوب

وقوله: { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } علة أخرى لاشتمال القرآن على الامتثال المتكررة المتنوعة.
أى: كررنا الأمثال النافعة فى هذا القرآن للناس، كى يتقوا الله - تعالى - ويخشوا عقابه.
ثم ضرب - سبحانه - مثلا للعبد المشرك وللعبد المؤمن، فقال: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ... }
وقوله { مَثَلاً } مفعول ثان لضرب، و { رَّجُلاً } مفعوله الأول. وأخر عن المفعول الثانى للتشويق إليه، وليتصل به ما هو من تتمته، وهو التمثيل لحال الكافر والمؤمن.
وقوله { مُتَشَاكِسُونَ } من الشاكس بمعنى التنازع والتخاصم وسوء الخلق، يقال: رجل شَكْس وشكِس - بفتح الشين مع إسكان الكاف أو كسرها وفعله من باب كرم - إذا كان صعب الطباع، عسر الخلق.
وقوله "سلما" بفتح السين واللام - مصدر وصف به على سبيل المبالغة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : "سالما" أى خالصا لسيده دون أن ينازعه فيه منازع.
والمعنى: إن مثل المشرك الذى يعبد آلهة متعددة، كمثل عبد مملوك لجماعة متشاكسين متنازعين لسوء أخلاقهم وطباعهم، وهذا العبد موزع وممزق بينهم، لأن أحدهم يطلب منه شيئا معينا، والثانى يطلب منه شيئا يباين ما طلبه الأول، والثالث يطلب منه ما يتناقض مع ما طلبه الأول والثانى... وهو حائر بينهم جميعا، لا يدرى أو يطيع ما أمره به الأول أم الثانى أم الثالث...؟ لأنه لا يملك أن يطيع أهواءهم المتنازعة التى تمزق أفكاره وقواه.
هذا هو مثل المشرك فى حيرته وضلاله وانتكاس حاله.
أما مثل المؤمن فهو كمثل عبد مملوك لسيد واحد، وخالص لفرد واحد، وليس لغيره من سبيل إليه، فهو يخدم سيده بإخلاص وطاعة، لأنه يعرف ماله وما عليه، وفى راحة تامة من الحيرة والمتاعب التى انغمس فيها ذلك العبد الذى يملكه الشركاء المتشاكسون.
فالمقصود بهذين المثلين بيان ما عليه العبد المشرك من ضلال وتحير وتمزق، وما عليه العبد المؤمن من هداية واستقرار واطمئنان.
واختار - سبحانه - الرجل لضرب المثلين، لأنه أتم معرفة من غيره لما يتعبه ولما يريحه ولما يسعده ولما يشقيه.
قال صاحب الكشاف -رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية: واضرب - يا محمد - لقومك مثلا وقل لهم: ما تقولون فى رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء، بينهم اختلاف وتنازع. كل واحد منهم يدعى أنه عبده، فهم يتجاذبونه، ويتعاورونه فى مهن شتى، وإذا عنت له حاجة تدافعوه، فهو متحير فى أمره، قد تشعبت الهموم قلبه، وتوزعت أفكاره، لا يدرى أيهم يرضى بخدمته، وعلى أيهم يعتمد فى حاجاته.
وفى آخر: قد سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتنق لما لزمه من خدمته معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد، وقلبه مجتمع، أى هذين العبدين أحسن وأجمل شأنا؟
والمراد تمثيل حال من يثبت آلهة شتى... ويبقى متحيرا ضائعا لا يدرى أيهم يعبد، وممن يطلب رزقه؟ فَهمَّهُ شَعَاع - بفتح الشين أى: متفرق -، وقلبه أوزاع، وحال من لم يثبت إلا إلها واحدا، فهو قائم بما كلفه، عارف بما أرضاه وما أسخطه، متفضل عليه فى عاجله، مؤمل للثواب فى آجله.
والاستفهام فى قوله - تعالى -: { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } للإنكار والاستبعاد.
أى: لا يستوى الرجل الذى فيه شركاء متشاكسون، والرجل الذى سلم لرجل آخر، فى رأى أى ناظر، وفى عقل أى عاقل، فالأول فى حيرة من أمره، والثانى على بينة من شأنه.
وساق - سبحانه - هذا المعنى فى صورة الاستفهام، للإِشعار بأن ذلك من الجلاء والوضوح بحيث لا يخفى على كل ذى عقل سليم.
وانتصب لفظ "مثلا" على التمييز المحول عن الفاعل، لأن الأصل هل يستوى مثلهما وحالهما؟
وجملة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } تقرير وتأكيد لما قبلها من نفى الاستواء واستبعاده، وتصريح بأن ما عليه المؤمنون من إخلاص فى العبودية لله - تعالى - يستحق منهم كل شكر وثناء على الله - عز وجل - حيث وفقهم لذلك.
وقوله - تعالى -: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور، إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون هذه الحقيقة مع ظهورها ووضوحها لكل ذى عينين يبصرهما، وعقل يعقل به.
ثم أخبر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الموت سينزل به كما سينزل بأعدائه الذين يتربصون به ريب المنون، ولكن فى الوقت الذى يشاؤه الله - تعالى - فقال - : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ }.
أى: إنك - أيها الرسول الكريم - سيلحقك الموت، كما أنه سيلحق هؤلاء المشركين لا محالة، وما دام الأمر كذلك فأى موجب لتعجل الموت الذى يعم الخلق جميعا.
وجاء الحديث عن حلول الموت به صلى الله عليه وسلم وبأعدائه، بأسلوب التأكيد، للإِيذان بأنه لا معنى لاستبطائهم لموته صلى الله عليه وسلم ولا للشماتة به صلى الله عليه وسلم إذا ما نزل به الموت، إذ لا يشمت الفانى فى الفانى مثله.
ثم بين - سبحانه - ما يكون بينه وبينهم يوم القيامة فقال؛ { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ }.
أى: ثم إنكم جميعا يوم القيامة عند ربكم وخالقكم تختصمون وتحتكمون، فتقيم عليهم - أيها الرسول الكريم - الحجة، بأنك قد بلغت الرسالة، وهم يعتذرون بالأباطيل والتعليلات الكاذبة، والأقوال الفاسدة، وسينتقم ربك من الظالم للمظلوم، ومن المبطل للمحق.
هذا، وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية، جملة من الأحاديث والآثار فقال ما ملخصه: ثم إن هذه الآية - وإن كان سياقها فى المؤمنين والكافرين، وذكر الخصومة بينهم فى الدار الآخرة - فإنها شاملة لكل متنازعين فى الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة فى الدار الآخرة.
روى ابن أبى حاتم عن الزبير بن العوام - رضى الله عنه - قال:
"لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة؟ قال: نعم. قلت: إنَّ الأمر إذاً لشديد" .
وروى الإِمام أحمد عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ "والذي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا" .
وقال ابن عباس: يخاصم الصادقُ الكاذبَ، والمظلومُ الظالمَ، والمهدىُّ الضالَّ، والضعيفُ المُسْتَكْبِرَ.
ثم بين - سبحانه - أنه لا أحد أشد ظلما ممن كذب على الله - تعالى - وكذب بالصدق إذ جاءه، وأن من صفات المتقين أنهم يؤمنون بالحق، ويدافعون عنه، وأنه - سبحانه - سيكفر عنهم سيئاتهم... فقال - تعالى -:
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ... }.