التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً
١٠١
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
١٠٢
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أى: إذا سافرتم، وأطلق الضرب فى الأرض على السفر؛ لأن المسافر يضرب برجله وبراحلته على الأرض.
والمراد من الأرض: ما يشمل البر والبحر: أى إذا سافرتم - أيها المؤمنون - فى أى مكان يسافر فيه من بر أو بحر { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أى: حرج أو إثم فى { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } أى فى أن تنقصوا منها ما خففه الله عنكم رحمة بكم.
وقوله { تَقْصُرُواْ } من القصر وهو ضد المد. يقال قصرت الشئ أى جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه.
ومن فى قوله { مِنَ ٱلصَّلاَةِ } يجوز أن يكون زائدة للتأكيد فيكون لفظ الصلاة مفعولا به لتقصروا. ويجوز أن تكون للتبعيض فيكون المفعول محذوفا. والجار والمجرور فى موضع الصفة. أى: فليس عليكم جناح فى أن تقصروا شيئا من الصلاة.
وقوله { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } جملة شرطية وجوابها محذوف دل عليه ما قبله.
والمراد بالفتنة هنا: إنزال الأذى بالمؤمنين.
أى: إن خفتم أن يتعرض لكم المشركون بما تكرهونه من القتال أو غيره حين سفركم فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة.
وقوله { إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } تعليل لتأكيد أخ الحذر من الكفر دائما، لأن عداوتهم للمؤمنين ظارهة، وكراهتهم لهم شديدة.
أى: إن الكافرين كانوا وما زالوا بالنسبة لكم - أيها المؤمنون - يظهرون العداوة، وما تخفيه صدروهم لكم من أحقاد وكراهية أشد وأكبر.
وقد أكد - سبحانه - هذه العداوة بإن الدالة على التوكيد، وبكان المفيدة للدوام والاستمرار، وبوصف هذه العداوة بالسفور والظهور، لكى يحترس المسلمون منهم أشد الاحتراس.
هذا، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
1- أن قصر الصلاة فى السفر سنة. ومنهم من يرى أن المصلى مخير فيه كما يخير فى الكفارات. ومنهم من يرى أنه فرض.
قال القرطبى ما ملخصه: واختلف العلماء فى حكم القصر فى السفر؛ فروى عن جماعة أنه فرض وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين. واحتجوا بحديث عائشة "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين" ولا حجة فيه لمخالفتها له؛ فإنها كانت تتم فى السفر وذلك يوهنه...
وحكى ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض. ومشهور مذهبه وجل أصحابه، وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة. وهو الصحيح.
ومذهب عامة البغداديين من المالكيين أن الفرض التخيير. ثم اختلفوا فى أيهما أفضل، فقال بعضهم: القصر أفضل.. وقيل: الإِتمام أفضل".
أما بالنسبة لمسافة السفر التى يجوز معها قصر الصلاة للعلماء فيها أقوال منها: أن السفر الذى يسوغ القصر هو ما كان مسيرة ثلاثة أيام بلياليها بالسير المعتاد.
وهذا رأى الأحناف. ومن حججهم قوله صلى الله عليه وسلم:
"يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام بلياليها" وأيضا ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم منع المرأة من السفر فوق ثلاث إلا مع زوج أو محرم، فدل هذا على أن ما دون الثلاث لا يعد سفرا، بل هو فى حكم الإِقامة، حيث جعل الثلاث فاصلا بين الخروج بدون محرم وعدمه. وأيضا فقد جرى عرف العرب أن الرجل كان لا يعتبر مسافرا إلا بسير نحو ثلاثة أيام.
أما المالكية والشافعية وأكثر الأئمة فيرون أن السفر الذى تقصر فيه الصلاة هو ما كان مسيرة يوم وليلة وقيل يوم فقط، وذلك لما رواه ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"يا أهل مكة لا تقصروا فى أدنى من أربعة برد. من مكة إلى عسفان" ، وقد قدرت هذه المسافة بمسيرة يوم وليلة أو يوم فقط.
ويرى داود الظاهرى وأتباعه أن القصر فى كل ما يسمى سفرا، سواء أكان قصيرا أم طويلا؛ لأن المدار عندهم فى تحقيق القصر على تحقيق شرطه وهو الضرب فى الأرض، ولأن كلمة الضرب فى الأرض قد جاءت على إطلاقها من غير تقييد بمدة معلومة ولا مسافة محدودة.
وقد رد جمهور العلماء عليهم بردود منها: أن الضرب فى الأرض حقيقته الانتقال من كان إلى مكان. وظاهر أن مجرد الانتقال من مكان إلى آخر لا يكون سببا فى الرخصة، فلا بد أن يكون السفر المرخص فيه بالقصر سفرا مخصوصا، وقد بينت السنة النبوية الشريفة مقداره على خلاف فى الروايات.
هذا، وقد حكى القرطبى أقوال بعض العلماء فى نقد أولئك الذين يأخذون الأمور بظواهرها بدون فهم سليم فقال:
قال ابن العربى: وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره أكل وقصر وقائل هذا أعجمى لا يعرف السفر عند العرب، أو مستخف بالدين. ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عينى، ولا أفكر فيه بفضول قلبى. ولم يذكر حد السفر الذى يقع به القصر لا فى القرآن ولا فى السنة. وإنما كان كذلك، لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين خاطبهم الله بالقرآن؛ فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لا لغة ولا شرعا. وإن من مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه يكون مسافرا قطعا. كما أننا نحكم على من مشى يوما وليلة أنه كان مسافرا، لحديث
"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذى محرم منها" وهذا هو الصحيح لأنه وسط بين الحالين. وعليه عول مالك. ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقا عليه، فقد روى مرة "يوما وليلة" ومرة "ثلاثة أيام"...
ثم قال القرطبى: واختلفوا فى نوع السفر الذى تقصر فيه الصلاة. فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم.. واختلفوا فيما سوى ذلك. فالجمهور على جواز القصر فى السفر المباح كالتجارة وغيرها. وعلى أنه لا قصر فى سفر المعصية كالباغى وقاطع الطريق وما فى معناهما.
ثم قال: واختلف العلماء فى مدة الإِقامة التى إذا نواها المسافر أتم. فقال مالك والشافعى والليث بن سعد: إذا نوى الإِقامة أربعة أيام أتم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا نوى الإِقامة خمس عشرة ليلة أتم، وإن كان أقل من ذلك قصر.
2- ذهب جمهور العلماء إلى أن الآية الكريمة المقصود منها تشريع صلاة السفر، وأن المراد بالقصر فى قوله { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } هو القصر فى الكمية أى فى عدد الركعات، بأن يصلى المسافر الصلاة الرباعية ركعتين، وأن حكمها للمسافر فى حال الأمن كحكمها فى حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقا.
وقد وضح هذه المسألة الإمام ابن كثير توضيحا حسنا فقال ما ملخصه: وقوله - تعالى - { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } الشرط فيه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية. إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة فى مبدئها مخوفة. بل كانوا لا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو سرية خاصة، وسائر الأحياء حرب للإِسلام وأهله. والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. كقوله - تعالى -
{ { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } وقوله - تعالى - { وَرَبَائِبُكُمُ ٱللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ } }. ومما يشهد بأن للمسافر أن يقصر سواء أكان آمنا أم خائفا ما رواه الترمذى والنسائى عن ابن عباس. أن النبى صلى الله عليه وسلم: خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله رب العالمين فصلى ركعتين.
وروى البخارى عن حارثة بن وهب الخزاعى قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين.
وروى البخارى عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة. فكان يصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة.
وروى مسلم وأحمد وأهل السنن
"عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب. قلت له: قوله - تعالى -: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ }. وقد أمن الناس. فقال لى عمر: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" .
وروى أبو بكر بن أبى شيبة عن أبى حنظلة الحذاء قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال: ركعتان، فقلت له: أين قوله، { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } ونحن آمنون؟ فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأنت ترى من هذه النصوص أنها تدل على أن الآية الكريمة مسوق فى تشريع صلاة السفر سواء أكان المسافر آمنا أم خائفا، وأن قوله - تعالى - { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } المراد من القصر هنا قصر عدد الركعات من أربع إلى اثنين كما كان يفعل النبى صلى الله عليه وسلم فى أسفاره، وأن القصر للصلاة فى السفر بالنظر لما كانت عليه فى الحضر.
قالوا: ومما يدل على أن لفظ القصر كان مخصوصا فى عرفهم بنقص عدد الركعات، ما رواه البخارى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "انصرف من اثنتين - أى صلى الصلاة الرباعية ركعتين عن سهو - فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله"؟....
هذا؛ ويرى بعض العلماء أن هذه الآية نزلت فى صلاة الخوف، وأن المقصود بالقصر هنا هو قصر الكيفية لا الكمية - أى تخفيف ما اشتملت عليه من قراءة وتسبيح وغير ذلك - لأنهم يرون أن كمية صلاة المسافر ركعتان فهى تام غير قصر.
قال ابن كثير ما ملخصه: ومن العلماء من قال: إن المراد من القصر ها هنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدى واعتقدوا بما رواه الإِمام مالك عن عائشة أنها قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فى السفر والحضر، فأقرت صلاة السفر، وزيد فى صلاة الحضر.
قالوا: فإذا كان أصل الصلاة فى السفر حتى اثنتين فيكف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية. لأن ما هو الأصل لا يقال فيه { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ }. وروى الإِمام أحمد والنسائى وابن ماجه عن عمر - رضى الله عنه - قال: صلاة السفر ركعتان؛ وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم".
وقال القرطبى: وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هى مبيحة للقصر فى السفر للخائف من العدو فمن كان آمنا فلا قصر له. روى عن عائشة أنها كانت تقول فى السفر: أتموا صلاتكم. فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر. فقالت: إنه كان فى حرب وكان يخاف وهل أنتم تخافون؟...
وذهب جماعة إلى أن الله - تعالى - لم يبح القصر فى كتابه إلا بشرطين: السفر والخوف وفى غير الخوف بالسنة.
ويبدو لنا أن الأولى ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الآية الكريمة المقصود منها تشريع صلاة السفر؛ وأن المراد بالقصر فيها قصر كمية الصلاة بحيث يصلى المسافر الصلاة الرباعية ركعتين تخفيفا من الله - تعالى - عليه، سواء أكان فى حالة أمن أم حالة خوف، لأن النصوص التى ساقها الجمهور لتأييد رأيهم صريحة فى صحة ما ذهبوا إليه، ولأن القصر فى اللغة معناه أن تقتصر من الشئ على بعضه، وهذا أظهر ما يكون فى قصر الركعات على اثنين بدل أربع، أما القصر فى الصفة أو الكيفية فهو تغيير فى الصلاة لا إتيان بالبعض، إذ هو إحلال للإِيماء محل الركوع والسجود - مثلا -. وأيضا فإن { مِنَ } فى قوله { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلاَةِ } تكون أظهر فى الاقتصار على بعض الركعات عند من يجعل هذا الحرف للتبعيض.
ومن أراد مزيد بيان لتلك المسائل فليرجع إلى أمهات كتب الفقه والتفسير.
ثم شرع - سبحانه - فى بيان صفة صلاة الخوف فى جماعة فقال - تعالى - { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ }.
والمعنى: وإذا كنت يا محمد فى أصحابك وشهدت معهم القتال { فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ } أى: فأردت أن تقيم لهم الصلاة فى جماعة لتزدادوا أجراً ورعاية من الله وأنتم تقاتلون أعداءه، فعليك فى هذه الحالة أن تقسم أصحابك إلى قسمين، ثم بعد ذلك { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ } أى فلتقم جماعة من أصحابك معك فى الصلاة، أما الطائفة الأخرى فلتكن بإزاء العدو ليحرسوكم منهم.
والضمير فى قوله { وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ } يعود إلى الرجال الذين معه فى الصلاة.. أى: ولتأخذ الطائفة القائمة معك فى الصلاة أسلحتها معها وهى فى الصلاة حتى تكون على أهبة القتال دائما.
وقوله { فَإِذَا سَجَدُواْ } أى: الرجال القائمون معك فى الصلاة سجدوا فى الركعة الأولى وأتموا الركعة { فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } أى: فلينصرفوا بعد ذلك من صلاتهم ليكونوا فى مقابلة العدو للحراسة. فالضمير فى الكل يعود إلى المصلين معه.
وقيل المعنى: فإذا سجد الرجال الذين قاموا معك للصلاة، فليكن الرجال الآخرون الذين ليسوا فى الصلاة من ورائكم لحماية ظهوركم، ولمنع نزول الأذى بكم من أعدائكم. وعليه فيكون الضمير فى قوله { فَلْيَكُونُواْ } يعود إلى الطائفة الثانية التى ليست فى الصلاة.
وقوله: { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } بيان لما يجب أن تفعله الطائفة الأخرى التى لم تدخل فى الصلاة بعد. أى: فإذا ما انصرفت الطائفة الأولى للحراسة فلتأت الطائفة التى كانت قبل ذلك فى الحراسة والتى لم تصل بعد { فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } الركعة الأوفى وأنت يا محمد فى الركعة الثانية. وعليهم أيضا أن يكونوا كمن سبقهم حاملين لأسلحتهم التى لا تشغلهم عن الصلاة كالسيف والحنجر وما يشبه ذلك، حتى إذا ما باغتكم المشركون بالهجوم كنتم دائما على استعداد لمواجهتهم، وكنتم دائما على يقظة من مكرهم.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أمر المؤمنين بالمحافظة على الصلاة حتى فى حالة الحرب، وأمرهم فى الوقت ذاته بأن يكونوا يقظين آخذين حذرهم وأسلحتهم من مباغتة أعدائهم لهم حتى لا يتوهم أولئك الأعداء أن الصلاة ستشغل المؤمنين عن الدفاع عن أنفسهم.
وقوله { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } استعمل لفظ الأخذ فيه الحقيقة والمجاز. لأن أخذ الحذر كناية عن شدة اليقظة ودوام الترقب. وأخذ الأسلحة حقيقة فى حملها للدفاع بها عن النفس.
وقدم - سبحانه - الأمر بأخذ الحذر على أخذ الأسلحة؛ لأن أخذ الأسلحة نوع من الحذر، ولأن الحذر عند انتقال الصفوف وتحركها واجب حتى لا يباغتهم الأعداء وهم يتحولون من مكان إلى مكان، وهذا أشبه بتغيير الخطط وقت القتال، وهو أمر له خطورته فوجب أن تشتد يقظة المسلمين حينئذ.
وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله: فإن قلت لما ذكر فى أول الآية الأسلحة فقط، وذكر هنا الحذر والأسلحة؟ قلت: لأن العدو قلما يتنبه للمسلمين فى أول الصلاة بل يظنون كونهم قائمين فى المحاربة والمقاتلة. فإذا قاموا إلى الركعة الثانية ظهر للكفار أن المسلمين فى الصلاة، فحينئذ ينتهزون الفرصة فى الإِقدام على المسلمين فلا جرم أن الله - تعالى - أمرهم فى هذا الموضع بزيادة الحذر من الكفار مع أخذ الأسلحة.
وقوله - تعالى - { وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً } بيان لما من أجله أمروا بأخذ الحذر والسلاح. والخطاب لجميع المؤمنين.
وقوله { وَدَّ } من الود وهو محبة الشئ وتمنى حصوله.
والأسلحة: جمع سلاح. وهو اسم جنس لآلات الحرب التى يستعلمها الناس فى حروبهم وقتالهم.
والأمتعة. جمع متاع. وهو كل ما ينتفع به من عروض وأثاث. والمراد به هنا: ما يكون مع المحاربين من أشياء لا غنى لهم عنها كبعض ملابسهم وأطعمتهم ومعداتهم.
و { لَوْ } فى قوله { لَوْ تَغْفُلُونَ } مصدرية. وقوله { مَّيْلَةً } منصوب على المفعول المطلق لبيان العدد.
والمعنى: كونوا دائماً - أيها المؤمنون - فى أقصى درجات التنبه والتيقظ والحذر، فإن أعداءكم الكافرين يودون ويحبون غفلتكم وعدم انتباهكم عن أسلحتكم وأمتعتكم التى تستعملونها فى قتالكم لهم، وفى هذه الحالة يحملون عليكم حملة واحدة قوية شديدة ليقتلوا منكم من يستطعيون قتله. فعليكم - أيها المؤمنون - أن تجمعوا بين الصلاة والجهاد جمعا مناسبا حكيما بحيث لا يشغلكم أحد الأمرين عن الآخر أو عن حسن الاستعداد لمجابهة أعدئاكم الذين يتربصون بكم الدوائر.
فالآية الكريمة من مطلعها إلى هنا تراها تأمر بشدة وتكرار بأخذ الحذر وحمل السلاح لمجابهة أى مباغتة من المشركين. ومع هذا فقد رخص الله - تعالى - للمؤمنين بوضع السلاح فى أحوال معينة دون أن يرخص لهم فى أخذ الحذر فقال - تعالى -؛ { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ }.
أى: ولا حرج ولا إثم عليكم - أيها المؤمنون - فى أن تضعوا أسلحتكم فى أغمادها فلا تحملوها { إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ } يثقل معه حمل السلاح { أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ } بحيث يشق عليكم حملها، ومع كل هذا فلا بد من أخذ الحذر من أعدائكم؛ بأن تكونوا على يقظة تامة من مكرهم، وعلى أحسن استعداد لدحرهم إذا ما باغتوكم بالهجوم.
وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } تذييل قصد به تشجيع المؤمنين على مقاتلة أعدائهم وأخذ الحذر منهم.
أى: إن الله - تعالى - أعد لأعدائكم الكافرين عذابا مذلا لهم فى الدنيا والآخرة. أما فى الدنيا فبنصركم عليهم وإذهاب صولتهم ودولتهم، كما قال - تعالى -
{ { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } }. وأما فى الآخرة فالبعذاب الذى يهينهم ويذلهم ولا يستطعيون منه نجاة أو مهربا. وإذا كان الأمر كذلك فباشروا - أيها المؤمنون - الأسباب التى توصلكم إلى النصر عليهم.
هذا، ومن الأحكام والآداب التى التى أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى:
1- قال الآلوسى: تعلق بظاهر قوله - تعالى - { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ }. من خص صلاة الخوف بحضرته صلى الله عليه وسلم كالحسن بن زيد ونسب ذلك أيضا لأبى يوسف، ونقله عنه الجصاص فى كتاب الأحكام، وعامة الفقهاء على خلافه فإن الأئمة بعده صلى الله عليه وسلم نوابه، وقوام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له عليه الصلاة والسلام كما فى قوله
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وقد أخرجه أبو داود والنسائى وابن حبان وغيرهم عن ثعلبة بن زهدم. قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. ثم وصف له ذلك فصلوا كما وصف، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكره أحد منهم. وهم الذين لا تأخذهم فى الله لومة لائم، وهذا يحل محل الإِجماع.
2- أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة مشروعية صلاة الخوف وصفتها وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر. وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الإِمام أحمد وأبو داود والنسائى وغيرهم عن أبى عياش الزرقى قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد. وهم بيننا وبين القبلة. فصلى بنا النبى صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا: قد كانوا على حال لو أصابنا غرتهم ثم قالوا: تأتى عليهم الآن صلاة هى أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم. فنزل جبريل بهذه الآية { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ }.. الخ بين الظهر والعصر".
3- وردت روايات متعددة يؤخذ منها أن النبى صلى الله عليه وسلم قد صلى صلاة الخوف على هيئات مختلفة وفى مواضع متعددة. ويشهد لهذا قول القرطبى. وقد اختلفت الروايات فى هيئة صلاة الخوف. واختلف العلماء لاختلافها. فذكر ابن القصار أنه صلى الله عليه وسلم صلاها فى عشر مواضع. وقال ابن العربى: روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة. وقال الإِمام أحمد بن حنبل - وهو إمام أهل الحديث والمقدم فى معرفة علل النقل فيه - لا أعلم أنه روى فى صلاة الخوف إلا حديث ثابت. وهى كلها صحاح ثابتة. فعلى أى حديث صلى منها المصلى صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله.
وقال ابن كثير: صلاة الخوف أنواع كثيرة فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون فى غير صوبها، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلى القبلة وغير مستقبليها لعذر القتال كما أخر النبى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب صلاة الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب والعشاء. وأما الجمهور فقالوا هذا منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك. ونظرا لاختلاف الروايات الواردة فى كيفية صلاة الخوف، فقد اختلف الفقهاء فى كيفية أدائها تبعا لما فهمه كل فريق من تلك الروايات. وهاك بعض مذاهبهم:
(أ) ذهب الإِمام أبو حنيفة ومن تابعه إلى أن كيفية صلاة الخوف أن يقسم الإِمام الناس طائفتين: طائفة تكون مع الإِمام والأخرى بإزاء العدو. فيصلى بالذين مع ركعة ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتى الطائفة الأخرى التى كانت بإزاء العدو فيصلى بهم الإِمام الركعة الثانية ويسلم هو.
ثم تأتى الطائفة الأولى فتصلى ركعة بغير قراءة، لأنها فى رأيهم لاحقة. أى كأنها وراء الإِمام حكما طول الصلاة، ولا قراءة عندهم وراء الإِمام ثم تتشهد وتسلم. وتذهب إلى وجه العدو فتأتى الطائفة الثانية فتقضى ركعة بقراءة ثم تتشهد وتسلم. وإنما صلت هذه ركعتها بقراءة لأنها عندهم مسبوقة، فتكون كمن أدرك آخر صلاة الإِمام وفاتته ركعة. فتكون القراءة واجبة فى حقها.
وهذه الكيفية لصلاة الخوف التى أخذ بها الإِمام أبو حنيفة قد وردت فى روايات عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم:
(ب) الإِمام مالك فيرى أن كيفية صلاة الخوف تكون كالآتى: أن يقسم الإِمام الناس إلى طائفتين: طائفة تكون معه وطائفة تكون بإزاء العدو. ثم يصلى بالطائفة التى معه ركعة ولا يسلم وتتم هى الركعة الثانية وحدها ثم تتشهد وتسلم وتذهب إلى مكان الطائفة الثانية، وتأتى الطائفة الثانية فتقف خلف الإِمام فيصلى معها الركعة الثانية ثم يجلسون للتشهد ويسلم الإِمام وحده أماهم فيقومون فيصلون وحدهم الركعة التى بقيت ثم يتشهدون ويسلمون.
وقريب من هذه الكيفية ماذهب إليه الإِمام الشافعى فهو يوافق المالكية فيما ذهبوا إليه إلا أنه قال: لا يسلم الإِمام حتى تتم الطائفة الثانية صلاتها ثم يسلم معهم.
ويذهب الإِمام أحمد بن حنبل فى كيفية صلاة الخوف إلى ما ذهب إليه الإِمام مالك.
وفى رواية عنه أنه يوافق ما ذهب إليه الشافعية.
وهذا كله فيما إذا كانت الصلاة ثنائية فى الأصل كالفجر أو رباعية فإنها تقصر إلى ثنائية.
أما إذا كانت صلاة الخوف فى المغرب فيرى جمهور الفقهاء أن الإِمام يصلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعة ثم تتم كل طائفة ما بقى عليها بالطريقة التى سبق ذكرها عند الأئمة، والتى بسطها العلماء فى كتب الفقه.
4- ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية أهمية صلاة الجماعة، لأن الله - تعالى - أمر المسلمين بأن يؤدوا الصلاة فى جماعة حتى وهم فى حالة الاستعداد للقاء أعدائهم.
قال ابن كثير: ما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة. حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة. فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك.
5- كذلك من الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية أن الإِسلام دين يأمر أتباعه بأداء الصلاة حتى ولو كانوا فى ساحة المعركة، وذلك لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، ومتى حسنت هذه الصلة بين المجاهد وخالقه، فإنه - سبحانه - يكلؤه بعين رعايته، ويمده بنصره وتأييده. وأن الإِسلام بجانب هذا الاهتمام الشديد بشأن الصلاة فإنه يهتم أيضا بأن يأمر أتابعه بالحذر من مكر أعدائهم ومن مباغتهم لهم، بأن يكون المؤمنون مستعدين لصدهم وردهم على أعقابهم، وأن لا يغفلوا عن حمل أسلحتهم حتى ولو كانوا قائمين للصلاة.
وبهذا نرى أن الإِسلام يربى أتباعه تربية روحية وعقلية وبدنية من شأنها أن توصلهم - متى حافظوا عليها - إلى ما يعلى كلمتهم فى الدنيا، ويرفع درجاتهم فى الآخرة.
ثم أمر الله - تعالى - المؤمنين بالإِكثار من ذكره بعد الانتهاء من صلاتهم، وشجعهم على مواصلة قتال أعدائهم بدون خوف أو ممل فقال - تعالى: { فَإِذَا قَضَيْتُمُ...عَلِيماً حَكِيماً }.