التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً
١٠٥
وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
١٠٦
وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً
١٠٧
يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
١٠٨
هَٰأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً
١٠٩
وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً
١١٠
وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
١١١
وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
١١٢
وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
١١٣
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة السياق إلا أنها متقاربة المعانى. ومن ذلك ما ذكره صاحب الكشاف من أن رجلا اسمه طعمة بن أبيرق - أحد بنى ظفر - سرق درعا من جار له اسمه قتادة ابن النعمان فى جراب دقيق. فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه. وخبأ طعمة الدرع عند رجل من اليهود اسمه زيد بن السمين.
فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها، وماله بها علم، فتركوه واتبعوه أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودى فأخذوها. فقال اليهودى: دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر - أقارب طعمة -: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصلوا إليه سألوه أن يجادل - أى يدافع - عن صاحبهم طعمة وقالوا: إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودى. فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودى. وقيل هم أن يقطع يده فنزلت.
وهذه الآيات الكريمة وإن كانت قد نزلت فى حادثة معينة، إلا أن توجيهاتها وأحكامها تتناول جميع المكلفين فى كل زمان ومكان.
وقوله تعالى { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ } تشريف للنبى صلى الله عليه وسلم وإرشاد إلى ما يجب أن يكون عليه الحاكم أو القاضى من عدالة ونزاهة.
أى: إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن الكريم، إنزالا ملتبسا بالحق وبالعدل لكى تحكم بين الناس فى قضاياهم بما أراك الله. أى بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك وقوله { بِٱلْحَقِّ } فى محل نصب على الحال المؤكدة فيتعلق بمحذوف. وصاحب الحال هو الكتاب. أى: أنزلناه ملتبسا بالحق.
وقوله { بِمَآ أَرَاكَ } الفعل هنا متعد لاثنين أحدهما العائد المحذف والآخر كاف الخطاب أى: بما أراكه الله. أى: بما عرفك وأعلمك.
وسمى ذلك العلم بالرؤية، لأن العلم اليقينى المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية فى القوة والظهور.
قال ابن كثير: احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية. وبما ثبت فى الصحيحين
"عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصوم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر. وإنما أقضى بنحو مما أسمع. ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها" .
وفى رواية للإِمام أحمد عن السيدة أم سلمة - أيضا - قالت: "جاء رجلان من النصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مواريث بينهما قد درست. ليس عندهما بينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلى وإنما أنا بشر. ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض. فإنى أقضى بينكم على نحو ما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار.. فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقى لأخى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إذا قلتما ذلك فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما. ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه" .
وقوله { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } معطوف على كلام مقدر يفهم من المقام. والخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع عن غيره فهو اسم فاعل بمعنى مخاصم وجمعه الخصماء. وأصله من الخصم وهو ناحية الشئ وطرفه. وقيل للخصمين خصمان، لأن كل واحد منهما فى ناحية من الحجة والدعوى.
والمعنى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاحكم به ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما للبرآء، بأن تجعل فكرك ينحاز إلى أولئك الخائنين - الذين يظهرون الإِسلام - قبل سماع البينات الهادية المرشدة إلى الحق.
وسماهم - سبحانه - خائنين، لأنهم فى علمه - تعالى - كانوا كذلك وقد أخبر نبيه بخيانتهم ليحذرهم ولا يحسن الظن بهم.
قال القرطبى: قال العلماء: لا ينبغى إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم. فإن هذا قد وقع على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله - تعالى - { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }. وقوله { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ }.
والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين:
أحدهما: أنه - تعالى - أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله { هَا أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا }. والآخر: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره فدل على أن القصد لغيره.
ثم قال - تعالى - { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }. أى: واستغفر الله مما هممت به من تبرئة طعمة وإدانة اليهودى، حيث إن ظاهر الأمر يقتضى ذلك، وهذا وإن لم يكن ذنبا. إلا أنه - سبحانه - أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار من ذلك، لعلو مقامه على حد قول العلماء: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
أو المعنى: واستغفر الله لهؤلاء الخائنين لكى يتوبوا إلى الله - تعالى - ببركة استغفارك لهم، إن الله - تعالى - كان كثير المغفرة لمن تاب إليه، وكثير الرحمة لمن آمن به واتقاه. وهذا الأمر بالاستغفار والإِنابة إلى الله موجه إلى كل مكلف فى شخص النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال - تعالى { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً }.
أى: ولا تخاصم وتدافع عن هؤلاء الذين { يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } أى يخونونها بشدة وإصرار إن الله - تعالى - لا يحب ولا يرضى عمن كانت الخيانة وصفا من أوصافه، وخلقا من أخلاقه، وكذلك لا يحب ولا يرضى عمن كان الانهماك فى الإِثم والمعصية عادة من عاداته.
وجاء - سبحانه - بلفظ { يَخْتَانُونَ } بمعنى يخونون، لقصد وصفهم بالمبالغة فى الخيانة لأن مادة الافتعال تدل على التكلف والمحاولة.
وجعلت خيانة هؤلاء لغيرهم خيانة لأنفسهم، لأن سوء عاقبة هذه الخيانة سيعود عليهم. ولأن المسلمين جميعا كالجسد الواحد؛ فمن تظاهر بأنه منهم ثم خان أحدهم فكأنما خان نفسه، وأوردها موارد البوار والتهلكة باعتدائه على حقوق الجماعة الإِسلامية، وزعزعة أمنها واستقرارها.
والمراد بالموصول فى قوله { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } طعمة وأمثاله من الخائنين أو هو ومن عاونه وشهد ببراءته من أبناء عشيرته.
وقال - سبحانه - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } بصيغة المبالغة؛ لإِفادة أن الخيانة والإِثم صارا وصفا ملازما لهؤلاء الخائنين الآثمين.
أى أن صيغة المبالغة هنا ليست للتخصيص حتى لا يتوهم متوهم أن الله - تعالى - يحب من عنده أصل الخيانة والاثم.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله: فإن قلت: لم قيل "خوانا أثيما" على المبالغة؟ قلت: كان الله عالما من طعمة بالإِفراط فى الخيانة وركوب المآثم، ومن كانت تلك خاتمة أمره لم يشك فى حاله. وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر - رضى الله عنه - أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكى وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه. فقال لها كذبت. إن الله لا يؤاخذ عبده فى أول مرة.
وقوله { يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ } بيان لأحوالهم القبيحة التى تجعلهم محل غضب الله وسخطه.
والاستخفاء معناه الاستتار. يقال استخفيت من فلان. أى: تواريت منه واستنرت.
أى: أن هؤلاء الذين من طبيعتهم الخيانة والوقوع فى الآثام يستترون من الناس عندما يقعون فى المنكرات حياء منهم وخوفا من ضررهم { وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ } أى: ولا يشعرون برقابه الله عليهم، واطلاعه على جميع أحوالهم، بل يرتكبون ما يرتكبون من آثام بدون حياء منه مع أنه - سبحانه - هو الأحق بأن يستحى منه، ويخشى من عقابه.
وقوله { وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } بيان لشمول علمه - سبحانه - بكل حركاتهم وسكناتهم.
أى: أن هؤلاء الخائنين يرتكبون السوء بدون حياء من الله، مع أنه - سبحانه - معهم فى كل حركاتهم وسكناتهم بعلمه واطلاعه على أقالهم وأعمالهم ولا يخفى عليه شئ من أمرهم حين "يبيتون" أى يضمرون ويدبرون فى أذهانهم مالا يرضاه الله - من القول كأن يرتكبوا المنكرات ثم يمسحونها فى غيرهم حتى لا يفتضح أمرهم.
قال صاحب الكشاف: وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم - إن كانوا مؤمنين - أنهم فى حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح.
وقوله { يُبَيِّتُونَ } أى: يدبرون ويزورون وأصله أن يكون ليلا { مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ } وهو تدبير طعمة أن يرمى الدرع فى دار غيره.
فإن قلت: كيف سمى التدبير قولا وإنما هو معنى فى النفس؟ قلت: لما حدث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز. ويجوز أن يكون المراد بالقول: الحلف الكاذب الذى حلف به طعمة بعد أن بيته وتوريكه الذنب على اليهودى.
وقوله { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } تذييل قصد به التهديد والوعيد. أى وكان الله - تعالى - محيطا إحاطة تامة بما يعمله هؤلاء الخائنون وغيرهم ولا يغيب عن علمه شئ من تصرفاتهم، وسيحاسبهم عليها يوم القيامة.
ثم وبخ - سبحانه - أولئك الذين دافعوا عن الخائنين وجادلوا عنهم بالباطل فقال: { هَا أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً }.
أى: ها أنتم أيها المدافعون عن الخائنين كطعمة وأمثاله قد جادلتم عنهم فى الدنيا مبرئين إياهم من الخيانة بدون حق، فمن ذا الذى يستطيع منكم ان يدافع عنهم أمام الله يوم القيامة، بل من يكون عليهم يومئذ وكيلا. أى: قائما بتدبير أمورهم، ومدافعا عنهم؟ لا شك أنه لن يكون هناك أحد يدافع عنهم يوم القيامة لأن كل إنسان سيجازى بعمله، ولن ينفعه دفاع المدافعين، أو جدال المجادلين.
وقوله { هَا } حرف تنبيه. أى المخاطبين على خطئهم فى المجادلة عن السارق، وقوله { أَنْتُمْ } مبتدأ. وقوله { هَـٰؤُلاۤءِ } منادى بحرف نداء محذوف مبنى على الكسر فى محل نصب. وجملة { جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ }. خبر المبتدأ. وبعضهم أعرب هؤلاء خبر أول. وجعل جملة جادلتهم خبرا ثانيا.
وقوله { جَادَلْتُمْ } من الجدل بمعنى الفتل ومنه رجل مجدول الفتل أى قوى البنية فالجدال معناه تقوية الحجة التى يدافع بها الإِنسان عن نفسه أو عن غيره. وقيل إن الجدال مأخوذ من الجدالة وهى وجه الأرض. فكأن كل واحد من الخصمين يكون كالمصارع الذى يريد أن يلقى صاحبه عليها. ومنه قولهم: تركته مجدلا أى مطروحا على الأرض.
و{ أَمْ } فى قوله { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } منقطعة للإِضراب الانتقالى.
والاستفهام إنكارى بمعنى النفى فى الموضعين. أى لا أحد يجادل عنهم أمام الله - تعالى - ولا أحد يستطيع أن يقوم بتدبير أمورهم يوم القيامة.
ثم فتح - سبحانه - بعد هذا التوبيخ الشديد للخائنين - باب التوبة لعباده فقال: { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } أى: ومن يعمل عملا سيئا يؤذى به غيره كما فعل طعمة باليهودى، أو يظلم نفسه باتركاب الفواحش، التى يعود معظم ضررها على نفسه كشرب الخمر، وترك فرائض الله التى فرضها على عباده؛ ثم بعد كل ذلك { يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ } بأن يتوب إليه توبة صادقة نصوحا "يجد الله" بفضله وكرمه { غَفُوراً رَّحِيماً } أى كثير الغفران لعباده التائبين، واسع الرحمة إليهم.
والمراد بظلم النفس: الأعمال السيئة التى يعود ضررها ابتداء على فاعلها نفسه كشرب الخمر، وترك الصلاة أو الصيام وما يشبه ذلك.
وإنما فسروا كل جملة بهذا التفسير للآخر لوجود المقابلة بينهما.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً } أى عملا قبيحا يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودى { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } بما يختص به كالحلف الكاذب. وقيل ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالشرك. وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة أو لقومه لما فرط منهم من نصرته والذنب عنه.
والتعبير "بثم" فى قوله { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ } للإِشارة إلى ما بين المعصية والاستغفار من تفاوت معنوى شاسع. إذ المعصية تؤدى بفاعلها إلى الخسران أما الاستغفار الذى تصحبه التوبة الصادقة فيؤدى إلى الفلاح والسعادة.
وقوله { يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } يفيد أن الله - تعالى - يستجيب لطلب الغفران من عبده متى تاب إليه وأناب، لأنه - سبحانه - قد وصف نفسه بأن كثير المغفرة والرحمة لعباده متى أقبلوا على طاعته بقلب سليم، ونية صادقة.
ثم بين - سبحانه - بأن الأفعال السيئة يعود ضررها على صاحبها وحده فقال - تعالى - { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }.
والكسب كما يقول الراغب - ما يتحراه الإِنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ، ككسب المال. وقد يستعمل فيما يظن الإِنسان أنه يجلب منفعة له ثم استجلب به مضرة. وقد ورد فى القرآن فى فعل الصالحات والسيئات فما استعمل فى الصالحات قوله:
{ { أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَانِهَا خَيْراً } }. ومما استعمل فى السيئات قوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلإِثْمَ } }. ومنه قوله - تعالى - هنا { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ }.
أى. ومن يرتكب إثما من الآثام التى نهى الله عن ارتكابها، فإن ضرر ذلك يعود على نفسه وحدها. وما دام الأمر كذلك فعلى العاقل أن يبتعد عن الذنوب والآثام حتى ينجو من العقاب.
وقوله { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } تذييل قصد به التحذير من سوء عاقبة اكتساب الآثام.
أى: وكان الله عليما بما فى قلوب الناس وبما يقولون ويفعلون، حكيما فى كل ما قدر وقضى.
وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر ثم بين - سبحانه - المصير السئ الذى ينتظر أولئك الذين يرتكبون السوء ثم يرمون به غيرهم فقال: { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }.
وقد قيل: إن الخطئية والإِثم هنا بمعنى واحد وقد جئ بهما على اختلاف لفظيهما للتأكيد المعنوى. ولم يرتض كثير من العلماء هذا القيل بل قالوا هما متغايران. وأن المراد بالخطيئة: المعصية الصغيرة. والمراد بالإِثم: المعصية الكبيرة. وقال آخرون: الفرق بين الخطئية والإِثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد. والإِثم لا يكون إلا عن عمد.
ويبدو لنا من تعبير القرآن عن الخطيئة أن المراد بها الذنوب التى يرتكبها صاحبها عن استهانة وعدم اكتراث، لأنه لكثرة ولوغه فى الشرور صار يأتيها بلا مبالاة. قال - تعالى -
{ { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ } وقال - تعالى - { { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } }. وأن المراد بالإِثم هنا: الذنوب التى يرتكبها الإِنسان عن تعمد وإصرار فتؤدى به إلى الإِبطاء عن الاتجاه إلى الله بالاستغفار والتوبة، لأن الإِثم كما يقول الراغب -: اسم للأفعال المبطئة عن الثواب.
والبهتان كما يقول القرطبى من البهت - بمعنى الدهش والتحير من فظاعة ما رمى به الإِنسان من كذب - وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه برئ. وروى مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه
"أن النبى صلى الله عليه وسلم قال. أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال. ذكرك أخاك بما يكره قال. أفرأيت أن كان فى أخى ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته. وإن لم يكن فيه فقد بهته" . ثم قال القرطبى وهذا نص. فرمى البرئ بهت له. يقال. بهته بهتا وبهتانا إذا قال عليه ما لم يفعله.
والمعنى: { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً } أى ذنبا من الذنوب التى يرتكبها صاحبها عن استهانة لكثرة تعوده على ارتكاب السيئات، أو يرتكب { إِثْماً } من الآثمام التى تبطئه عن رضا الله ورحمته { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } أى: ينسبه إلى غيره من الأبرياء مع أنه هو الذى اقترفه { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ } أى: فقد تحمل بسبب فعله ذلك { بُهْتَاناً } أى كذبا يجعل من رمى به فى حيرة ودهشة، وتحمل أيضا { وَإِثْماً مُّبِيناً } أى ذنبا واضحا بينا لاخفاء فيه يؤدى به إلى غضب الله وسخطه.
قال الجمل وقوله (به) فى هذه الهاء أقوال:
أحدها: أنها تعود على { إِثْماً } والمتعاطفان بأن يجوز أن يعود الضمير على المعطوف كما فى هذه الآية وعلى المعطوف عليه كما فى قوله - تعالى -
{ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } }. الثانى: أنها تعود على الكسب المدلول عليه بالفعل نحو { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } أى العدل.
الثالث: أنها تعود على أحد المذكورين الدال عليه العطف بأو فإنه فى قوة ثم يرم بأحد المذكورين.
وقال الفخر الرازى: واعلم أن صاحب البهتان مذموم فى الدنيا أشد الذم ومعاقب فى الآخرة أشد العقاب. فقوله: { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً } إشارة إلى ما يلحقه من الذم العظيم فى الدنيا. وقوله { وَإِثْماً مُّبِيناً } إشارة إلى ما يلحقه من العقاب العظيم فى الآخرة.
وبهذا نرى أن هذه الآيات الثلاثة قد بينت مراتب العصاة أمام الله - تعالى وفتحت لهم باب التوبة ليثوبوا إلى رشدهم، وتوعدت المصرين على معاصيهم بسوء المصير.
ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ }.
أى: ولولا فضل الله عليك ورحمته بك - يا محمد - بأن وهبك النبوة، وعصمك من كيد الناس وأذاهم، وأحاطك علما بما يبيتونه من سوء لولا ذلك { لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } أى: من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم وهم طعمة وأشياعه الذين دافعوا عنه، ومن كان على شاكلتهم فى النفاق والجدال بالباطل { أَن يُضِلُّوكَ } أى: لهمت طائفة من هؤلاء الذين فى قلوبهم مرض أن يضلوك عن القضاء بالحق بين الناس، ولكن الله - تعالى - حال بينهم وبين هذا الهم بإشعارهم بأن ما يفعلونه معك من سوء سيكشفه الله لك عن طريق الوحى.
وقوله { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } أى: أنهم بمحاولتهم إخفاءالحق والدفاع عن الخائن، وتعاونهم على الإِثم والعدوان، ما يضلون إلا أنفسهم، لأن سوء عاقبة ذلك ستعود عليهم وحدهم، أما أنت يا محمد فقد عصمك الله من شرورهم، وحماك من كل انحراف عن الحق والعدل.
وقوله { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } معطوف على ما قبله. أى هم بمحاولتهم إخفاء الحق ما يضرونك بأى قدر من الضر. لأنك إنما قضيت بينهم بما هو الظاهر من أحوالهم، وهو الذى تحكم بمقتضاه، أما الأمور الخفية التى تخالف الحق فمرجع علمها إلى الله وحده.
{ مِن } فى قوله { مِن شَيْءٍ } زائدة لتأكيد النفى. وشئ أصله النصب على أنه مفعول مطلق لقوله { يَضُرُّونَكَ }. أى: وما يضرونك شيئا من الضرر وقد جر لأجل حرف الجر الزائد.
وقوله { وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } معطوف على قوله { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } لزيادة التقري، ولزيادة بيان ما وهبه الله- تعالى - لنبيه من خير ورعاية وعصمة أى: أن الله - تعالى - قد امتن عليك يا محمد بأن أنزل عليك القرآن الذى يهدى للتى هى أقوم، وأنزل عليك الحكمة أى العلم النافع الذى يجعلك تصيب الحق فى قولك وعملك { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } من أخبار الأولين والآخرين، ومن خفيات الأمور، ومن أمور الدين والشرائع.
{ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } أى وكان فضل الله عليك عظيما عظماً لا تحده عبارة، ولا تحيط به إشارة.
فالآية الكريمة فهيا ما فيها من التنويه بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن مظاهر فضل الله عليه ورحمته به.
وبعد فإن المتأمل فى هذه الآيات الكريمة، ليراها تهدى الناس إلى ما يسعدهم فى كل زمان ومكان متى اتبعوا توجيهاتها وإرشاداتها.
إنها تأمرهم فى شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يتلزموا الحق فى كل أقوالهم وأعمالهم، حتى ولو كان الذى عليه الحق من أقرب الناس إليهم، وكان الذى له الحق من أعدى أعدائهم، وتنهاهم عن الدفاع عن الخائنين الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، وتبين لهم أن دفاعهم عنهم لن يفيده أمام الله - تعالى -.
ثم تفتح للعصاة باب التوبة لكى يفيئوا إلى رشدهم ويعودوا إلى طاعة ربهم وتخبرهم أن شؤم المعصية سيعود إليهم وحدهم... وتنبههم إلى أن من أشد الذنوب عند الله - تعالى - أن يفعل الشخص فاحشة ثم يقذف بها غيره.
ثم تسوق الآيات فى ختامها جانبا من فضل الله على نبيه ورحمته به، لكى يزداد ثباتا واطمئنانا" ويزداد أعداؤه خوفا وضعفا واضطرابا.
وهكذا نرى الآيات الكريمة تهدى الناس إلى الحق الذى لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية. ولا يتأرجح مع الحب أو البغض حتى ولو كان الذى عليه الحق ممن يظهرون الإِسلام ويعاملون معاملة المسلمين، وكان الذى له الحق من اليهود الذين لم يتركوا مسلكا لمحاربة الدعوة الإِسلامية إلا سلكوه والذين يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ومع ذلك أنكروه وحاربوه.
فهل رأيت - أخى القارئ - عدالة تقترب من هذه العدالة فى سموها ونقائها واستقامة منهجها؟
إن هذه الآيات لتشهد بأن هذا القرآن من عند الله، لأن البشر مهما استقامت طبائعهم، فإنهم ليس فى استطاتهم أن يصلوا إلى هذا المستوى الرفيع الذى تشير إليه الآيات، والذى يكشف لكل عاقل أن هذا القرآن من عند الله
{ { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } }. ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن كثيرا من كلام الناس لا خير فيه، وأن العاقل هو الذى يحرص على القول النافع والعمل الطيب. وأن الذين يتبعون الطريق المخالف لطريق الحق سينالهم عذاب شديد من خالقهم فقال - سبحانه -: { لاَّ خَيْرَ فِي....وَسَآءَتْ مَصِيراً }.