التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١٣٥
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَٰبِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً
١٣٦
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله { قَوَّامِينَ } جمع قوام وهو صيغة مبالغة من قائم. والقوام: هو المبالغ فى القيام بالشئ وفى الإِتيان به على أتم وجه وأحسنه.
وقوله { شُهَدَآءَ } جمع شهيد بوزن فعيل. والأصل فى هذه الصغية أنها تدل على الصفات الراسخة فى النفس ككريم وحكيم.
والمعنى: يأيها الذين آمنوا بالحق إيمانا صادقا. كونوا مواظبين على إقامة العدل فيما بينكم فى جميع الظروف والأحوال دون أن يصرفكم عن ذلك صارف، وكونوا "شهداء لله" أى: مقيمين للشهادة بالحق ابتغاء وجه الله لا لغرض من الأغراض الدنيوية. ولا لمطمع من المطامع الشخصية، فإن الإِيمان الحق يستلزم منكم أن تعدلوا فى أحكامكم وأن تؤدوا الشهادة على وجهها.
وفى ندائه - سبحانه - لهم بقوله { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } تنبيه إلى الأمر الخير الذى ناداهم من أجله ودعاهم إلى تنفيذه وهو التزام العدالة فى كل أمورهم، وتحريك لعاطفة الإِيمان فى قلوبهم بمقتضى وصفهم - بهذه الصفة الجليلة.
وعبر - سبحانه - بقوله { كُونُواْ قَوَّامِينَ } بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة والمداومة على الشئ، لتمكين صفة العدالة فى نفوسهم، وترسيخها فى قلوبهم.
فكأنه - سبحانه - يقول لهم: رضوا أنفسكم على التزام كلمة الحق، وعودوها على نصرة المظلوم وخذلان الظلم، وليكن ذلك خلقا من أخلاقكم. وسجية من سجاياكم، فلا يكفى أن تعدلوا فى أحكامكم مرة أو مرتين، وإنما الواجب عليكم أن تداوموا على إقامة العدل فى كل الأحوال، ومع كل الأشخاص.
قال صاحب المنار: وهذه العبارة - وهى قوله - تعالى - { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ } أبلغ ما يمكن أن يقال فى تأكيد أمر العدل والعناية به فالأمر بالعدل والقسط مطلقا يكون بعبارات مختلفة بعضها آكد من بعض تقول: اعدلوا أو اقسطوا. وتقول: كونوا عادلين أو مقسطين. وهذه العبارة أبلغ؛ لأنها أمر بتحصيل الصفة لا بمجرد الإِتيان بالقسط الذى يصدق بمرة.
وتقول: أقيموا القسط. وأبلغ منه: كونوا قائمين بالقسط. وأبلغ من هذا وذاك: كونوا قوامين بالقسط. أى: لتكن المبالغة والعناية بإقامة القسط على وجهه صفة من صفاتكم، بأن تتحروه بالدقة التامة حتى تكون ملكة راسخة فى نفوسكم. والقسط يكون فى العمل كالقيام بما يجب من العدل بين الزوجات والأولاد ويكون فى الحكم بين الناس...
وقوله { شُهَدَآءَ } خبر ثان لكونوا. وقوله { للَّهِ } متعلق بمحذوف حال من ضمير { شُهَدَآءَ }.
أى: كونوا ملازمين للعدل فى كل أمروكم وكونوا مقيمين للشهادة على وجهها حالة كونها لوجه الله، لا لعرض من أعراض الدنيا.
قال الفخر الرازى: وإنما قدم - سبحانه - الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه:
الأول: أن أكثر الناس من عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان فى محل المسامحة وأحسن الحسن. وإذا صدر عن غيرهم كان محل المنازعة. فالله - تعالى - نبه فى هذه الآية على سوء هذه الطريقة. وذلك أنه - سبحانه - أمرهم بالقيام بالقسط أولا، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيا، تنبيها على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإِنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير.
الثانى: أن القيام بالشهادة عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير، وهو الذى عليه الحق. ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير.
الثالث: أن القيام بالقسط فعل، والشهادة قول والفعل أقوى من القول.
وقوله { وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } تأكيد للأمر بالتزام الحق فى الأحكام والشهادات.
أى: كونوا قوامين بالقسط، وكونوا مقيمين للشهادة بالحق خالصة لوجه الله، ولو كانت الشهادة على أنفسكم - بأن تقروا بأن الحق عليها إذا كان واقع الأمر كذلك - ولو كانت - أيضا. على والديكم وعلى أقرب الناس إليكم.
قال القرطبى: وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما. ثم ثنى بالأقربين إذهم مظنة المودة والتعصب فكان الأجنبى من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه... ولا خلاف بين أهل العلم فى صحة أحكام هذه الآية، وأن شهادة الولد على الوالدين ماضية، ولا يمنع ذلك من برهما، بل أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل. وكان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، لأنه لم يكن أحد يتهم فى ذلك من السلف. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم. وأجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا.
و { لَوْ } فى قوله { وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ } شرطية. والجار والمجرور خبر لكان المحذوفة مع اسمها. وجواب لو محذوف. والتقدير: ولو كانت الشهادة على أنفسهم فاشهدوا علهيا بأن تقروا على أنفسكم بالحق ولا تكتموه.
وقوله - تعالى - { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } تأكيد لوجوب التزام الحق مع الغنى والفقير والصغير والكبير.
أى: إن يكن المشهود عليه غنيا يرجى فى العادة ويخشى أو فقيراً يترحم عليه فى الغالب ولا يخشى، فلا تمتنعوا عن الشهادة، لأن الله - تعالى - هو الأولى والأجدر بحساب كل من الغنى والفقير، وهو الأعلم بمصالح الناس، والأرحم بهم منكم. وجواب الشرط محذوف، أى: إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تتركوا الشهادة لأن الشهادة فى مصلحتهما.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم ثنى الضمير فى "أولى بهما" وكان حقه أن يوحد؛ لأن قوله: إن يكن غنيا أو فقيرا فى معنى إن يكن أحد هذين؟
قلت قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله: { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } لا إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغنى وجنس الفقير. فكأنه قيل: فالله أولى بجنسى الغنى والفقير. أى: بالأغنياء والفقراء. وفى قراءة أبى: فالله أولى بهم وهى شاهدة على ذلك.
وقال ابن جرير: نزلت فى النبى صلى الله عليه وسلم إذا اختصم إليه رجلان: غنى وفقير: وكان ضعله - أى ميله - مع الفقير؛ لأنه يرى أن الفقير لا يظلم الغنى. فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط فى الغنى والفقير فقال: { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا }.
والذى يستفاد من هذه الرواية ومن ظاهر الآية أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا فى التفاوت فى الحكم. ويقاس عليهما غيرهما من أحوال الناس، لأن الله - تعالى هو الذى نظم الكون بحكمته، وهو أعلم بمصالح الناس من أنفسهم، وجعل فيهم الغنى والفقير لأن الغنى والفقر أمران ثابتان فى هذا الوجود، ولا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإِنسانية، لأن ذلك تنظيم الله - تعالى، وإرادته الخالدة، وهو الذى يتفق مع الطبيعة الإِنسانية، إذ العقول متفاوتة، والعزائم مختلفة، والأعمال متنوعة، ونتيجة لذلك كانت الثمار ليست متحدة.
والمراد بالهوى فى قوله: { فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ } الخضوع للشهوات والميل مع نزعات النفس الأمارة بالسوء.
وقوله { أَن تَعْدِلُواْ } فى موضع المفعول لأجله ويحتمل أن يكون بمعنى العدل فيكون علة للمنهى عنه، ويكون فى الجملة مضاف مقدر. والمعنى: فلا تتبعوا الهوى والميل مع الشهوات كراهة أن تعدلوا بين الناس ويحتمل أن يكون بمعنى العدول عن الحق فيكون علة للنهى بتقدير لا، أى: أنهاكم عن اتباع الهوى لئلا تميلوا عن الحق وتتركوا العدل.
قال ابن كثير: أى: لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم، على ترك العدل فى شئونكم. بل ألزموا العدل على أى حال كان. كما قال - تعالى -
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } }. ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبى صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلى. ولأنتم أبغض الخلق إلى. وما يحملنى حيى إياه وبغضى لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
وقوله - تعالى - { وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } تذييل قصد به تهديدهم ووعيدهم على ترك العدل، وعلى الامتناع عن الشهادة بالحق.
قال الفخر الرازى ما ملخصه: وفى الآية قراءتان. فقد قرأ الجمهور { تَلْوُواْ } - بواوين قبلهما لام ساكنة - بمعنى الدفع والإِعراض من قولهم: لواه حقه إذا مطله ودفعه. أو بمعنى التحريف والتبديل من قولهم لوى الشئ إذا فتله.
وقرأ ابن عامر وحمزة { تلوا } بلام مضمومة بعدها واو ساكنة - من الولاية بمعنى مباشرة الشئ والاشتغال به.
والمعنى على قراءة الجمهور: وإن تلووا ألسنتكم عن الشهادة بالحق بأن تحرفوها وتقيموها على غير وجهتها أو تعرضوا عنها رأسا وتتركوها يعاقبكم الله عقابا شديدا فإنه - سبحانه - عليم بدقائق الأشياء، خبير بخفايا النفوس، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه.
والمعنى على القراءة الثانية: وإن تلوا الشهادة فتباشروها على وجهها يعطكم الله أجرا حسنا، ون تعرضوا عنها وتتركوها بعاقبكم الله عقابا أليما، فإن الله - تعالى - خبير بكل أقوالكم وأعمالكم. وقيل: إن القراءتين بمعنى واحد لأن أصل (تلوا) - وهى قراءة حمزة وابن عامر - تلْووا - وهى قراءة الجمهور - نقلت حركة الواو - فى قراءة الجمهور - إلى الساكن قبلهما فالتقى واوان ساكنان فحذفت إحداهما فصارت الكلمة (تلوا).
هذا، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تبنى المجتمع الإِسلامى على أقوى القواعد، وأمتن الأسس وأشرف المبادئ. إنها تبنيه على قواعد العدل والقسط، وتأمر المؤمنين أن يلتزموا كملة الحق مع أنفسهم ومع أقرب المقربين إليهم مهما تكلفوا فى ذلك من جهاد شاق يقتضيه التزام الحق، فإن كلمة الحق كثيرا ما تجعل صاحبها عرضة للإِيذاء والاعتداء والاتهام بالباطل من الأشرار والفجار. بل إن كلمة الحق قد تفضى بصاحبها إلى الموت. ولكن لا بأس، فإن الموت مع التمسك بالحق، خير من الحياة فى ظلمات الباطل.
ثم أمر الله - تعالى - المؤمنين أن يثبتوا على إيمانهم فقال: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ } أى: يأيها المؤمنون اثبتوا على إيمانكم وداوموا على تصديقكم بوحدانية الله - تعالى - وعلى تصديقكم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذى نزله الله - تعالى - عليه وهو القرآن، وبالكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على الرسل الذين أرسلهم من قبله.
والمراد بالكتاب الذى أنزله على الرسل من قبله جنس الكتب السماوية كالتوراة والإِنجيل والزبور.
ثم بين - سبحانه - سوء مصير من يكفر بشئ مما يجب الإِيمان به فقال - تعالى -: { وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً }.
أى: ومن يكفر بالله بأن يجحد وحدانيته وألوهيته، ولا يخلص له العبادة، ويكفر بملائكته بأن ينكر بأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويكفر بكتبه التى أنزلها - سبحانه، على أنبيائه، وبرسوله الذين أرسلهم لهداية الخلق. وباليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، من يكفر بكل ذلك فقد خرج عن طريق الهدى وبعد عن السبيل القويم بعداً كبيراً، لأنه بكفره بذلك يكون قد خالف الفطرة، وانحرف عما يقتضيه العقل السليم، وأوغل فى الشرور والآثام إيغالا شديدا، يؤدى به إلى خزى الدنيا وعذاب الآخرة.
وبعد هذا الأوامر السديدة للمؤمنين. عادت السورة الكريمة إلى تحذيرهم من أعدائهم ومن المنافقين، فكشفت لهم عن طبيعتهم، ونهتهم عن القعود معهم، وبينت لهم أنماطا من خداعهم، وألوانا من أخلاقهم الذميمة، وأخبرتهم عن سوء مصير أولئك المنافقين والمتمادين فى الغى والضلال.
واستمع إلى السورة الكريمة وهى تحكى كل ذلك بأسلوبها الحكيم فتقول { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ....شَاكِراً عَلِيماً }.