التفاسير

< >
عرض

يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٢٦
وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً
٢٧
يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً
٢٨
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى -: { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } استئناف مقرر لما سبق من الأحكام، وقد ساقه - سبحانه - لإِيناس قلوب المؤمنين حتى يمتثلوا عن اقتناع وتسليم لما شرعه الله لهم من أحكام.
قال الآلوسى: ومثل هذا التركيب - قوله { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ }. وقع فى كلام العرب قديما وخرجه النحاة على مذاهب:
فقيل مفعول { يُرِيدُ } محذوف أى: يريد الله تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه. واللام للتعليل... ونسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين.
فتعلق الإِرادة غير التبيين، وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف.
وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك، كما قيل به فى قولهم: "تسمع بالمعيدى خير من أن تراه" أى إرادتى كائنة للتبين. وفيه تكلف.
وذهب الكوفيون إلى أن اللام هى الناصبة للفعل من غير إضمار أن، وهى وما بعدها مفعول للفعل المقدم أى: يريد الله البيان لكم.
والمعنى: يريد الله - تعالى - بما شرع لكم من أحكام، وبما ذكر من محرمات ومباحات أن يبين لكم ما فيه خيركم وصلاحكم وسعادتكم، وأن يميز لكم بين الحلال والحرام والحسن والقبيح.
وقوله: { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } معطوف على ما قبله.
والسنن: جمع سنة وهى الطريقة وفى أكثر استعمالها تكون للطريقة المثلى الهادية إلى الحق.
أى: ويهديكم مناهج وطرائق من تقدمكم من الأنبياء والصالحين، لتقتفوا آثارهم وتسلكوا سبيلهم.
وليس المراد أن جميع ما شرعه من حلال أو من حرام كان مشروعا بعينه للأمم السابقة. بل المراد أن الله كما قد شرع للأمم السابقة من الأحكام ما هم فى حاجة إليه وما اقتضته مصالحهم، فكذلك قد شرع لنا ما نحن فى حاجة إليه وما يحقق مصالحنا، فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة فى ذاتها إلا أنها متفقة فى باب المصالح.
وقوله: { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } معطوف على ما قبله.
والتوبة معناها: ترك الذنب مع الندم عليه والعزم على عدم العود، وذلك مستحيل فى حقه - سبحانه - لذا قالوا: المراد بها هنا المغفرة لتسببها عنها. أو المراد بها قبول التوبة.
أى: ويقبل توبتكم متى رجعتم إليه بصدق وإخلاص، فقد تكفل - سبحانه - لعباده أن يغفر لهم خطاياهم متى تابوا إليه توبة صادقة نصوحا وفى التعبير عن قبول التوبة بقوله { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } إشارة إلى ما يتضمنه معنى قبول التوبة من ستر للذنوب، ومنع لكشفها، فهى غطاء على المعاصى يمنعها من الظهور حتى يذهب تأثيرها فى النفس:
فالآية الكريمة تحريض على التوبة، لأن الوعد بقبولها متى كانت صادقة يغرى الناس. بطرق بابها وبالإِكثار منها..
وقوله: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أى والله - تعالى - ذو علم شامل لجميع الأشياء، فيعلم أن ما شرع لكم من أحكام مناسب لكم، وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم، ومتى تكون توبة أحدكم صادقة ومتى لا تكون كذلك { حَكِيمٌ } يضع الأمور فى مواضعها. فيبين لمن يشاء، ويهدى من يشاء، ويتوب على من يشاء.
فأنت ترى أن هذه الآية قد بينت جانبا من مظاهر فضل الله ورحمته بعباده، حيث كشفت للناس أن الله - تعالى - يريد بإنزاله لهذا القرآن أن يبين لهم التكاليف التى كلفهم بها ليعرفوا الخير من الشر، وأن يرشدهم إلى سبل من تقدمهم من أهل الحق، وأن يغفر لهم ذنوبهم متى أخلصوا له التوبة.
ثم أخبر - سبحانه - عما يريده لعباده من خير وصلاح وما يريده لهم الفاسقون من شر وفساد فقال - تعالى -: { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً }.
أى: والله - تعالى - يريد منكم أن تفعلوا ما يجعلكم أهلا لمغفرته ورضوانه وما يفضى بكم إلى قبول توبتكم، وارتفاع منزلتكم عنده، بينما يريد الذين يتبعون الشهوات من أهل الكفر والفسوق والعصيان أن تبتعدوا عن الحق والخير ابتعادا عظيما. والميل: أصله الانحراف من الوسط إلى جانب من الجوانب: ولما كان الاعتدال عبارة عن العدل والتوسط، أطلق الميل على الجور والابتعاد عن الحق.
ووصف الميل بالعظم للإِشعار بأن الذين يتبعون الشهوات لا يكتفون من غيرهم بالميل اليسير عن الحق، وإنما يريدون منهم انحرافا مطلقا عن الطريق المستقيم الذى أمر الله بسلوكه والسير فيه.
وهؤلاء الذين وصفهم الله بما وصف موجودون فى كل زمان، وتراهم دائما يحملون لواء الرذيلة والفجور تارة باسم الحرية وتارة باسم المدينة. وقد حذر الله - تعالى - عباده منهم حتى يتأثروا بهم، وحتى يقاوموهم ويكشفوا عن زيفهم وضلالهم
{ { وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } }. ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان رحمته ورأفته بعباده فقال: { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً }.
أى: يريد الله بما شرعه لكم من أحكام، وبما كلفكم به من تكاليف هى فى قدرتكم واستطاعتكم أن يخفف عنكم فى شرائعه وأوامره ونواهيه، لكى تزدادوا له فى الطاعة والاستجابة والشكر.
{ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } أى لا يصبر على مشاق الطاعات، فكان من رحمة الله - تعالى - به أن خفف عنه فى التكاليف.
وهذا السير والتخفيف فى التكاليف من أبرز مميزات الشريعة الإِسلامية، وقد بين القرآن الكريم ذلك فى كثير من آياته، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } }. وقوله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } }. وقوله - تعالى - { { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } }. ولقد كان من هدى النبى صلى الله عليه وسلم التخفيف والتيسير، ففى الحديث الشريف: "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" .
وكان من وصاياه لمعاذ بن جبل وأبى موسى الأشعرى عندما أرسلهما إلى اليمن "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا" .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت لنا الوانا من مظاهر فضل الله على عباده ورحمته بهم، لكى يزدادوا له شكرا وطاعة وخضوعا.
ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنيين بين لهم فيه بعض المحرمات المتعلقة بالأنفس والأموال، بعد أن بين لهم قبل ذلك المحرمات من النساء والمحللات منهن ومظاهر فضله - سبحانه - بعباده ورحمته بهم فقال - تعالى -: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ...كَرِيماً }.