التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٧٧
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً
٧٨
مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً
٧٩
مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
٨٠
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والإِستفهام فى قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ } للتعجيب من حال أولئك الذين كانوا يظهرون التشوق إلى القتال فلما فرض عليهم جبنوا عنه.
وقوله { كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ } من الكف بمعنى الامتناع أى: امتنعوا عن مباشرة القتال إلى أن تؤمروا به.
والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد أو ألم تنظر بعين الدهشة والغرابة إلى حال أولئك الذين كانوا يظهرون شدة الحماسة للقتال، فقيل لهم { كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ } أى: عن القتال لأنكم لم تؤمروا به بعد { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } فإن الصلاة تخلص النفس من أدران المآثم، وتجعلها تتجه إلى الله وحده { وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } فإن الزكاة تطهر النفوس من الشح والبخل، وتربط بين الناس برباط المحبة والتعاون.
ثم بين - سبحانه - حالهم بعد أن فرض عليهم القتال فقال: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً }.
أى: فحين فرض عليهم القتال وأمروا بمباشرته بعد أن صارت للمسلمين دولة بالمدينة، حين حدث ذلك، إذا فريق منهم - وهم الذين قل إيمانهم، وضعف يقينهم، وارتابت قلوبهم - { يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ } أى يخافونهم خوفا شديدا { كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } أى: يخافون من الكفار أن يقتلوهم كما يخافون من الله أن ينزل بهم بأسه، أو أشد من ذلك.
فالمراد بالناس فى قوله { يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ } أولئك الأعداء الذين كتب الله على المؤمنين قتالهم.
وعبر عن هؤلاء الأعداء بقوله { ٱلنَّاسَ } زيادة فى توبيخ أولئك الذين خافوا منهم هذا الخوف الشديد، لأنهم لو كانوا مؤمنين حقا، لاستقبلوا ما فرضه الله عليهم بالسمع والطاعة، ولما خافوا هذا الخوف الشديد من أناس مثلهم.
وقوله { كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ } مفعول مطلق، أي يخشونهم خشية كخشية الله.
وهو بيان لشدة خورهم وهلعهم، ولفساد تفكيرهم، حيث جعلوا خشيتهم للناس فى مقابل خشيتهم لله، الذى يجب أن تكون خشيته - سبحانه - فوق كل خشية.
وقوله { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } معطوف على ما قبله. وأشد حال من خشية لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا.
وفى هذه الجملة الكريمة زيادة فى توبيخهم وذمهم؛ وترق فى توضيح حالتهم القبيحة، لأنه إذا كان من المقرر أنه لا يجوز للعاقل ان يجعل خشيته للناس كخشيته لله، فمن باب أولى لا يجوز له أن يجعل خشيته للناس أشد من خشيته لله - تعالى -.
قال الفخر الرازى ما ملخصه: فإن قيل: ظاهر { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } يوهم الشك. وذلك على علام الغيوب محال. أجيب بأن { أَوْ } بمعنى بل. أو هى للتنويع. على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها أو هى للإِبهام على السامع. على معنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة. وهو قريب مما فى قوله - تعالى -:
{ { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } يعنى أن من يبصرهم يقول: أنهم مائة ألف أو يزيدون.
ثم حكى - سبحانه - ما قاله أولئك الضعفاء عندما فرض عليهم القتال فقال: { وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ }.
أى: أن هؤلاء الضعفاء لم يكتفوا بما اعتراهم من فزع وجزع عندما كتب عليهم القتال وإنما أضافوا إلى ذلك أنهم قالوا على سبيل الضجر والألم: يا ربنا لم كتبت علينا القتال فى هذا الوقت { لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } أى: هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت موتة لا قتال معها عند حضور آجالنا، دون أن نتعرض لهذا التكليف الثقيل المخيف.
وهكذا يصور القرآن تخبط هؤلاء الضعفاء أكمل تصوير. إنهم قبل أن يفرض القتال يظهرون التحمس له، والتشوق لخوض معا معه، فإذا ما فرض عليهم القتال فزعوا وارتعدوا وقالوا ما قالوا من ضلال بضيق وهلع.
ويبدو أن هذه طبيعة أكثر المتهورين فى كل وقت، إنهم قبل أن يجد الجد أشد الناس حماسة للقاء الأعداء، فإذا ماجد الجد ووقعت الواقعة كانوا أول الفارين، وأول الناكصين على أعقابهم.
وذلك لأن الشجعان العقلاء لا يتمنون لقاء الأعداء، ولا ينشئون القتال إنشاء، وإنما يقدرون الأمور حق قدرها، ويضعون الأشياء فى مواضعها، فإذا ما اقتضت الضرورة خوض معركة من المعارك ثبتوا ثبات الأبطال.
أما المندفعون بدون إيمان يدفعهم، أو عقل يرشدهم، فإنهم لعدم تقديرهم للأمور يكونون فى ساعة الشدة أول الناس جزعا ونكولا وانهيارا.
ولكن من هؤلاء الذين تحدثت عنهم الآية الكريمة ووصفتهم بأنهم حين كتب عليهم القتال { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ.. }؟!!
إن الذى يراجع أقوال المفسرين يرى أن بعضهم يميل إلى أن الآية الكريمة فى شأن المؤمنين، ويرى أن بعضهم يرجع أنها فى شأن المنافقين، وقد لخص الإِمام الرازى هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال:
"هذه الآية صفة للمؤمنين أو المنافقين؟ فيه قولان:
الأول: أن الآية نزلت فى المؤمنين. قال الكلبى: نزلت فى عبد الرحمن بن عوف، والمقداد، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبى وقاص. كانوا مع النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجروا إلى المدينة، ويلقون من المشركين أذى شديدا، فيشكون ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويقولون: ائذن لنا فى قتالهم ويقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كفوا أيديكم فإنى لم أومر بقتالهم، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية.
ثم قال: واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الذين يحتاج الرسول أن يقول لهم: كفوا عن القتال هم الراغبون فى القتال؛ والراغبون فى القتال هم المؤمنون، فدل هذا على أن الآية فى حق المؤمنين.. وأن كراهتهم للقتال إنما هى بمقتضى الجبلة البشرية... وقولهم { لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ } محمول على التمنى فى التخفيف للتكليف لا على وجه الإِنكار لإِيجاب الله تعالى.
ثم قال: والقول الثانى: أن الآية نازلة فى حق المنافقين. واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الآية مشتملة على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين، لأن الله وصفهم بأنهم { يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق إلا بالمنافق، لأن المؤمن لا يجوز أن يكون خوفه من الناس أزيد من خوفه من الله - تعالى - ولأنه - سبحانه - حكى عنهم أنهم قالوا: ربنا لما كتبت علينا القتال، والاعتراض على الله ليس إلا من صفة الكفار أو المنافقين، ولأن الله قال للرسول: { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ } وهذا الكلام يذكر مع من كانت رغبته فى الدنيا أكثر من رغبته فى الآخرة، وذلك من صفات المنافقين.
ثم قال: والأولى حمل الآية على المنافقين لأنه - سبحانه - ذكر بعد هذه الآية قوله: { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } ولا شك أن هذا من كلام المنافقين، فإذا كانت هذه الآية معطوفة على الآية التى نحن فى تفسيرها ثم المعطوف فى المنافقين، وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضا.
ونحن نوافق الإِمام الرازى فيما ذهب إليه من حمل الآية الكريمة على أنها فى المنافقين هو الأولى للأسباب التى ذكرها.
ونضيف إلى ما ذكره الإِمام الرازى أن المتأمل فى سياق الآيات السابقة واللاحقة يراها واضحة فى شأن المنافقين، ومن هم على شاكلتهم من ضعاف الايمان، الذين أدى بهم ضعف نفوسهم، وحبهم للدنيا إلى كراهة القتال، والخوف من تكاليفه....
فأنت إذا قرأت الآيات التى قبيل هذه الآية تراها تتحدث عن إرادة تحاكمهم إلى الطاغوت مع زعمهم الايمان بما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل على الرسل من قبله. وتراها تتحدث عن تباطئهم عن القتال وفرحهم لنجاتهم من مخاطره.
ثم إذا قرأت الآيات التى ستأتى بعد هذه الآية تراها تتحدث عن نسبتهم الحسنة إلى الله، ونسبتهم السيئة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعن إذاعتهم لأسرار المؤمنين... ألخ، فثبت أن الآية الكريمة تتحدث عن صفات المنافقين، وعمن هم قريبو الشبه بهم من ضعاف الايمان الذين أخلدوا إلى الراحة. وأثروا القعود فى بيوتهم على القتال من أجل إعلاء كلمة الله، ودفع الظلم عن المظلومين.
ونضيف أيضا أن القول الأول - الذى ذكره الإِمام الرازى وهو أن الآية نزلت فى المؤمنين - غير صحيح لأسباب من أهمها:
1- أن الرواية التى ذكرها الامام الرازى نقلا عن الكلبى وهى أن الآية نزلت فى عبد الرحمن بن عوف والمقداد وقدامة بن مظعون... الخ هذه الرواية يبدو عليها الضعف، لأنها لم ترد فى كتب الحديث الموثوق بها، ولأن الكبلى نفسه قد عرف عنه عدم التثبت فى النقل.
ولقد علق الإِمام الشيخ محمد عبده على هذه الرواية بقوله: "إننى أجزم ببطلان هذه الرواية مهما كان سندها، لأننى أبرئ السابقين الأولين كسعد وعبد الرحمن مما رموا به. وهذه الآية متصلة بما قبلها، فإن الله - تعالى - أمر بأخذ الحذر والإِستعداد للقتال، والنفر له، وذكر حال المبطئين لضعف قلوبهم. وبعد هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمر الإسلام أتباعه بالسلم وتهذيب النفوس بالعبادة والكف عن الاعتداء والقتال.. إلى أن اشتدت الحاجة إليه ففرضه الله عليهم فكرهه الضعفاء منهم".
2- أن المؤمنين لم يعهد عنهم ما ذكرت الآية من خوف من القتال، ومن تمن لعدم حضوره، وإنما المعهود عنهم أنهم كانوا يبادرون إليه كلما اقتضت الضرورة ذلك ويتسابقون لخوض ساحته دفاعا عن دينهم، وانتصارا ممن بغى عليهم.
ولقد قال المقداد بن عمرو للرسول صلى الله عليه وسلم. فى غزوة بدر يا رسول الله، إمض لما أمرك الله فنحن معك. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولكن نقول لك إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه...
إلى غير ذلك من الأقوال والمواقف التى تدل على شجاعتهم وقوة إيمانهم.
ولقد رجح الإِمام القرطبى عند تفسيره للآية الكريمة أنها فى المنافقين فقال: قال مجاهد: هى فى اليهود. وقال الحسن: هى فى المؤمنين لقوله "يخشون الناس" أى مشركى مكة "كخشية الله" فهى على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة. وقال السدى: هم قوم أسملوا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه. وقيل: هو وصف للمنافقين. والمعنى: يخشون القتل من المشركين كما يشخون الموت من الله { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } أى عندهم وفى اعتقادهم.
ثم قال: قلت وهذا أشبه بسياق الآية لقوله ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابى كريم، يعلم أن الآجال محدودة، والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول الى الدار الآجلة خيرا من المقام فى الدار العاجلة، على ما هو المعروف من سيرتهم - رضى الله عنهم - اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ فى الإِيمان قدمه، ولا انشرح بالاسلام جنانه، فإن أهل الإِيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص، وهو الذى تنفر نفسه عما تؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة".
والخلاصة: أن الذى تطمئن إليه نفوسنا أن الآية الكريمة تحكى ما كان عليه المنافقون وضعاف الإِيمان، من بعد عن طاعة الله، ومن جبن فى النفوس ومن حب للحياة الدنيا وزينتها.
وأن المؤمنين بعيدون كل البعد عما اشتملت عليه الآية الكريمة من صفات وأحوال؛ لأن ما عرف عنهم من إيمان وإقدام ينأى بهم عن أن يكونوا ممن قال الله فيهم { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } وعن أن يقولوا: { رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ }.
هذا، وقوله - تعالى - { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } رد على التصرفات الذميمة، والأقوال الفاسدة التى صدرت عن المنافقين وضعاف الإِيمان! وإرشاد من الله - تعالى - لعباده إلى أن متاع الحياة الدنيا قليل بالنسبة لما اشتملت عليه الآخرة من نعيم للمؤمنين الصادقين.
والمتاع: اسم لما يتمتع به الإِنسان فى هذه الحياة من مال وغيره.
والفتيل: هو الخيط الدقيق الذى يكون فى شق نواة التمرة. ويضرب به المثل فى القلة والتفاهة.
والمعنى: قل - يا محمد - لهؤلاء الذين يخشون لقاء الأعداء، ويفزعون من القتال طمعا فى التمتع بزينة الحياة الدنيا، قل لهم: إن منافع الدنيا ولذاتها قليلة مهما كبرت فى أعينكم؛ لأنها زائلة فانية، أما الآخرة بما فيها من نعيم دائم فهى خير ثوابا، وأعظم أجراً لمن اتقى الله، وجاهد فى سبيله. وإذا كان الأمر كذلك فاجعلوا خشيتكم من الله وحده، وبادروا إلى الجهاد فى سبيل إعلاء كلمة الله، لكى تنالوا الثواب الجزيل من الله دون أن يذهب من ثوابكم شيئا مهما كان هذا الشئ ضئيلا أو قليلا، ودون أن ينقص من أعماراكم شيئا؛ لأن الجبن لا يؤخر الحياة كما أن الإِقدام لا ينقص شيئا منها.
ثم بين - سبحانه - أنه لا مفر لهم من الموت، وأنهم مهما فروا منه فإنه سيلقاهم آجلا أو عاجلا فقال - تعالى -: { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ }.
والبروج: جمع برج وهو الحصن المنيع الذى هو نهاية ما يصل إليه البشر فى التحصن والمنعة. وأصل البروج من التبرج بمعنى الظهور. يقال: تبرجت المرأة، إذا أظهرت محاسنها. والمراد بها الحصون والقلاع الشاهقة المنيعة.
والمشيدة: أى المحكمة البناء، والعظيمة الارتفاع من شاد القصر إذا رفعه، والمعنى: إنكم أيها الخائفون من القتال إن ظننتم أن هذا الخوف منه أو القعود عنه سينجيكم من الموت، فأنتم بهذا الظن مخطئون، لأن الموت حيثما سيدرككم، ولو كنتم فى أقوى الحصون، وأمنعها وأحكمها بناء، وما دام الأمر كذلك فليكن موتكم وأنتم مقبلون بدل أن تموتوا وأنتم مدبرون.
والجملة الكريمة لا محل لها من الإِعراب، لأنها مسوقة على سبيل الاستئناف لتبكيت هؤلاء الكارهين للقتال، وتحريض غيرهم من المؤمنين على الإِقدام عليه من أجل نصرة الحق.
ويحتمل أنها فى محل نصب، فتكون داخلة فى حيز القول المأمور به الرسول صلى الله عليه وسلم أى: قل لهم يا محمد متاع الدنيا قليل. وقل لهم { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ }.
وأين: اسم شرط جازم ظرف مكان يجزم فعلين، و"ما" زائدة للتأكيد، وتكونوا فعل الشرط ويدرككم جوابه.
والتعبير بقوله { يُدْرِككُّمُ } للإِشعار بأن الموت كأنه كائن حى يطلب الإِنسان ويتبعه حيثما كان، وفى أى وقت كان، فهو طالب لابد أن يدرك ما يطلبه ولا بد أن يصل إليه مهما تحصن منه، أو هرب من لقائه.
وجواب (لو) محذوف اعتماداً على دلالة ما قبله عليه أى: ولو كنتم فى بروج مشيدة لأدرككم الموت.
وقريب فى المعنى من هذه الآية قوله - تعالى -
{ { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } وقوله - تعالى - { { قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } }. فالجملة الكريمة صريحة فى بيان أن الموت أمر لا مفر منه، ولا مهرب عنه سواء أقاتل الإِنسان أم لم يقاتل. وما أحسن قول زهير بن أبى سلمى:

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم

ثم حكى - سبحانه - ما كان يتفوه به المنافقون وإخوانهم فى الكفر من باطل وزور فقال - تعالى: { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ }.
أى: إن هؤلاء المنافقين وأشباههم، من ضعاف الإِيمان وإخوانهم فى الكفر بلغ بهم الفجور أنهم إذا أصابتهم حال حسنة من نعمة أو رخاء أو خصب أو غنيمة أو ظفر قالوا هذه الحال من عند الله، وإذا أصابتهم حال سيئة من جدب أو مصيبة أو هزيمة قالوا هذه الحال من عندك يا محمد بسبب شؤمك وسوء قيادتك - وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم -.
وهذا القول منهم قريب من قول قوم فرعون لموسى - عليه السلام - كما حكاه القرآن عنهم فى قوله:
{ { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } }. قال القرطبى: نزلت هذه الآية فى اليهود والمنافقين، وذلك أنهم لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا: ما زلنا نعرف النقص فى ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. قال ابن عباس: ومعنى { مِنْ عِندِكَ } أى: بسوء تدبيرك. وقيل { مِنْ عِندِكَ } أى بشؤمك الذى لحقنا، قالوه على جهة التطير".
وقوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرد على مزاعمهم الباطلة. أى قل لهم يا محمد كل واحدة من النعمة والمصيبة هى من جهة الله - تعالى خلقا وإيجاداً من غير أن يكون لى مدخل فى وقوع شئ منها بوجه من الوجوه كما تزعمون:
وقوله { فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } جملة معترضة مسوقة لتعييرهم بالجهل والغباوة، والفاء فى قوله { فَمَالِ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها والمعنى. وإذا كان الأمر كذلك وهو أن كل شئ من عند الله، فمال هؤلاء القوم من المنافقين وإخوانهم فى الكفر وضعف الإِيمان لا يكادون - لانطماس بصيرتهم - يفقهون ما يلقى عليهم من مواعظ، ولا يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون، إذ لو فقهوا شيئا مما يوعظون به لعلموا أن الله هو القابض الباسط، وأنه المعطى المانع.
قال - تعالى -
{ { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } }. وقوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } الخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد كل مكلف من أمته.
والمراد بالحسنة ما يسر له الإِنسان ويفرح به، والمراد بالسيئة ما يسوءه ويحزنه.
والمعنى: { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أى من نعمة وأمور حسنة تفرح بها { فَمِنَ ٱللَّهِ } أى فبتوفيقه لك وتفضله عليك، وإرشادك إلى الوسائل التى أوصلتك إلى ما يسرك. { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ } أى من مصيبة أو غيرها مما يحزن { فَمِن نَّفْسِكَ } أى: فمن نفسك بسبب وقوعها فيما نهى الله عنه، وتركها للأسباب الموصلة إلى النجاح، كما قال - تعالى:
{ { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } }. وروى الترمذى عن أبى موسى الأشعرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصيب عبداً نكتة فما فوقها أو دونها إلا بذنب. وما يعفو الله عنه أكثر" . قال وقرأ: { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }.
وروى ابن عساكر عن البراء - رضى الله عنه - عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيدكم. وما يعفو الله أكثر" .
وعلى هذا يكون قوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ }.. إلخ من كلام الله - تعالى - والخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد به كل مكلف - كما سبق أن أشرنا - وقد ساقه - سبحانه - على سبيل الاستئناف ردا على مزاعم المنافقين ومن هم على شاكلتهم فى الكفر وضعف الإِيمان.
وقيل إن هذه الآية حكاية من الله - تعالى - لأقوال المنافقين السابقة، فكأنهم لم يكتفوا بأن ينسبوا للرسول صلى الله عليه وسلم أنه السبب فيما أصابهم من جدب وهزيمة. بل أضافوا إلى ذلك قولهم له: إن ما أصابك من حسنة فمن الله ولا فضل لك فيما نلت من نصر أو غنيمة، وما أصابك من سيئة أى هزيمة أو مصيبة فمن سوء صنعك وتصرفك.
ومقصدهم من ذلك - قبحهم الله - تجريد النبى صلى الله عليه وسلم من كل فضل، وإلقاء اللوم عليه فى كل ما يصبهم من مصائب.
وقد أشار القرطبى إلى هذين القولين بقوله: قوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. أى ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم أى من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم.
وقيل: فى الكلام حذف تقديره: يقولون. وعليه يكون الكلام متصلا، والمعنى: { فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } حتى يقولوا { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ }.
وقال الجمل: فإن قلت: كيف وجه الجمع بين قوله - تعالى: { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } وبين قوله { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فأضاف السيئة إلى فعل العبد فى هذه الآية - بينما أضاف الكل إلى الله فى الآية السابقة -؟
قلت: أما إضافة الأشياء كلها إلى الله فى الآية السابقة فى قوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } فعلى الحقيقة، لأن الله هو خالقها وموجدها. وأما إضافة السيئة إلى فعل العبد فى قوله { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فعلى سبيل المجاز. والتقدير: وما أصابك من سيئة فمن أجلها وبسبب اقترافها الذنوب. وهذا لا ينافى أن خلقها من الله - كما سبق.
وقال بعض العلماء: والتوفيق بين قوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } وبين قوله قبل ذلك: { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } هو أن قوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } كان موضوعه الكلام فى تقدير الله. فهم إن انتصر المؤمنون لا ينسبون للنبى صلى الله عليه وسلم أى فضل، بل يجردونه من الفضل ويقولون هو من عند الله. وما قصدوا التفويض والإِيمان بالقدر، بل قصدوا الغض من مقام النبوة. فإن كان هناك خير نسبوه إلى الله وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبى صلى الله عليه وسلم إيذاء وتمردا. فالله تعالى - قال لهم: { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ }، أى كل ذلك بتقدير الله وإرادته.
أما قوله { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فموضوعه اتخاذ الأسباب. ومعناه: أن من أخذ بالأسباب وتوكل على الله فالله - تعالى - يعطيه النتائج ومن لا يتخذ الأسباب، أو يخالف المنهاج السليم الموصل إلى الثمرة، فإنه سيناله ما يسوؤه، وبسب منه.
فالأول: لبيان القدر.
والثاني: لبيان العمل.
هذا، وقوله - تعالى - { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } بيان لجلال منصبه وعلو مكانته صلى الله عليه وسلم عند ربه - عز وجل - بعد بيان بطلان زعمهم الباطل فى حقه عليه الصلاة والسلام.
أى: وأرسلناك - يا محمد - بأمرنا وبشريعتنا لتليغ الناس ما أمرناك بتبليغه، ولتخرجهم من ظلمات الجهالة والكفر إلى نور التوحيد والإِيمان { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } على صحة رسالتك، وعلى صدقك فيما تبلغه عنه، وإذا ثبت ذلك فالخير فى طاعتك والشر والشؤم فى مخالفتك.
والمراد بالناس جميعهم. أى: وأرسلناك لجميع الناس كما قال - تعالى -
{ { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } }. وقوله { رَسُولاً } حال مؤكدة لعاملها وهو أرسلناك.
وقوله { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } تثبيت وتقوية لقلب النبى صلى الله عليه وسلم.
أى: امض فى طريقك ولا تلتفت إلى أقوالهم، وكفى بالله عليك وعليهم شهيدا، فإنه - سبحانه - لا يخفى عليه أمرك وأمرهم.
ثم بين - سبحانه - أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هى طاعة له فقال: { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ }.
اى: من يستجب لما يدعوه إليه محمد صلى الله عليه وسلم ويذعن لتعاليمه، فإنه بذلك يكون مطيعا لله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ لأمر الله ونهيه.
وقوله { وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } بيان لوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أى: من أطاعك يا محمد فقد أطاع الله، ومن أعرض عن طاعتك وعصى أمرك، فعلى نفسه يكون جانيا، لأننا ما أرسلناك على الناس حافظا ورقيبا لأعمالهم، وإنما أرسلناك مبلغا ومنذرا.
وجواب الشرط فى قوله { وَمَن تَوَلَّىٰ } محذوف. أى ومن تولى فأعرض عنه فإنا ما أرسلناك عليهم حفيظا.
قال الآلوسى: وقوله - تعالى - { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } بيان لإِحكام رسالته إثر بيان تحققها. وإنما كان الأمر كذلك لأن الآمر والناهى فى الحقيقة هو الحق - سبحانه - والرسول إنما هو مبلغ للأمر والنهى فليست الطاعة له بالذات إنما هى لمن بلغ عنه. وفى بعض الآثار أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول:
"من أحبنى فقد أحب الله، ومن أطاعنى فقد أطاع الله" . فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل؟ لقد قارف الشرك، وهو نهى أن يعبد غير الله. ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى - عليه السلام - فنزلت".
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانبا آخر من صفات المنافقين ومن على شاكلتهم من ضعاف الإِيمان حتى يحذرهم المؤمنون الصادقون فقال - تعالى -: { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ....إِلاَّ قَلِيلاً }.