التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً
٩٧
إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً
٩٨
فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً
٩٩
وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
١٠٠
-النساء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ } روايات منها ما أخرجه البخارى عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسوله صلى الله عليه وسلم يأتى السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله. أو يضرب فيقتل. فأنزل الله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ }... الآية.
ومنها ما أخرجه الطبرانى عن ابن عباس قال: كان قوم بمكة قد أسلموا. فلما هاجر رسول الله كرهوا أن يهاجروا - خوفا على أموالهم ونفورا من مفارقة أوطانهم - فأنزل الله الآية.
ومنها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا. وكانوا يخفون الإِسلام. فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر. فأصيب بعضهم. فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستفغروا لهم فنزلت الآية.
قال ابن كثير - بعد ذكره لهذه الروايات -. هذه الآية الكريمة عامة فى كل من أقام بين ظهرانى المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراما بالإِجماع وبنص هذه الآية.
وقوله: { تَوَفَّاهُمُ } يحتمل أن يكون فعلا ماضيا، وتركت علامة التأنيث للفصل، ولأن الفاعل ليس مؤنثاً تأنيثاً حقيقياً. ويحتمل أن يكون فعلا مضارعا وأصله "تتوفاهم" فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً. وهو من توفى الشئ إذا أخذه وافيا تام.
والمراد من التوفى: قبض أرواحهم وإماتتهم. وقيل المراد به: حشرهم إلى جهنم.
والمراد من الملائكة: ملك الموت وأعوانه الذين يتولون قبض الأرواح بإذن الله وأمره.
وظلم النفس معناه: أن يفعل الإِنسان فعلا يؤدى إلى مضرته وسوء عاقبته سواء أكان هذا الفعل كفراً أم معصية.
وإنما كان ظالما لنفسه لأنه قال قولا أو فعل فعلا ليس من شأن العقلاء أن يقولوه أو يفعلوه لو خامة عقباه.
والمعنى: إن الذين تقبض الملائكة أوراحهم وتميتهم حال كونهم قد ظلموا أنفسهم بسبب رضاهم بالذل والهوان، وإقامتهم فى أرض لم يستطيعوا أن يباشروا تعاليم دينهم فيها، وعدم هجرتهم إلى الأرض التى يقيم فيها إخوانهم فى العقيدة مع قدرتهم على الهجرة...
إن الذين تتوفاهم الملائكة وهم بهذه الحال، تسألهم الملائكة سؤال تقريع وتوبيخ عند قبض أرواحهم أو يوم القيامة فتقول لهم: "فيم كنتم" أى: فى أى حال كنتم؟ أكنتم فى عزة أم فى ذلة؟ وكيف رضيتم البقاء مع الكافرين الذين أذلوكم وسخروا من دينكم؟ أو المعنى: فى أى شئ كنتم من أمور دينكم؟
{ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ } أى: قال الذين ظلموا أنفسهم للملائكة: كنا فى الدنيا يستضعفنا أهل الشرك فى أرضنا وبلادنا، وصيرونا أذلاء لا نملك من أمرنا شيئاً. وهو اعتذار قبيح يدل على هوان المعتذرين به وضعف نفوسهم، ولذلك لم تقبل منهم الملائكة هذا العذر، بل ردت عليهم بما حكاه الله - تعالى - فى قوله: { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا }؟
فالاستفهام لإِنكار عذرهم، وعدم الاعتداد به.
أى أن الملائكة تقول لهم - كما يقول الآلوسى -: إن عذرهم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير، إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذى أخل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة. أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله - تعالى - بأنكم مقهورون غير مقبول، لأنكم متمكنون من المهاجرة ومن الخروج من تحت أيديهم.
وقوله { ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ } جملة حالية من ضمير المفعول فى قوله: { تَوَفَّاهُمُ } أى: تتوفاهم الملائكة فى حال ظلمهم لأنفسهم. والإِضافة فيه لفظية فلا تفيده تعريفا. والأصل ظالمين أنفسهم فحذفت النون تخفيفا.
قال الجمل ما ملخصه: وخبر إن فى قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ }. محذوف تقديره: إن الذين توفاهم الملائكة هلكوا. ويكون قوله: { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } مبينا لتلك الجملة المحذوفة. أو يكون الخبر قوله { فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ودخلت الفاء فى الخبر تشبيها للموصول باسم الشرط....
وقوله { قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ } جملة مستأنفة جواباً عن سؤال مقدر فكأنه قيل: فماذا قال أولئك الذين ظلموا أنفسهم للملائكة؟ فكان الجواب: كنا مستضعفين فى الأرض. قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف صح وقوع قوله { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ } جواباً عن قولهم: فيم كنتم وكان حق الجواب: كنا فى كذا أو لم نكن فى شئ؟ قلت معنى "فيم كنتم" التوبيخ بأنهم لم يكونوا فى شئ من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا. فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به، واعتلالا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا فى شئ. فبكتتهم الملائكة بقولهم: { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا }، أرادوا: إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التى تمنعون فيها من إظهار دينكم.
وهذا دليل على أن الرجل إذا كان فى بلد لا يتمكن فيه من إقامة دينه كما يجب لبعض الأسباب - والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر - أو علم أنه فى غير بلده أقوم بحق الله وأدوم للعبادة حقت عليه المهاجرة.
ويبدو أن الإِمام الزمخشرى كان عند تفسيره لهذه الآية قد هاجر من موطنه للإِقامة بجوار بيت الله الحرام، فقد قال خلاف تفسيره لها "اللهم إن كنت تعلم أن هجرتى إليك لم تكن إلا للفرار بدينى فاجعلها سببا فى خاتمة الخير، ودرك المرجو من فضلك، والمبتغى من رحمتك. وصل جوارى لك بعكوفى عند بيتك بجوارك فى دار كرامتك يا واسع المغفرة".
وقال القرطبى: يفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم فى تركهم الهجرة، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شئ من هذا. وإنما أضرب عن ذكرهم فى الصحابة لشدة ما واقعوه.
وقوله { فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً } بيان لسوء عاقبة هؤلاء الذين آثروا العيش فى أرض الكفر مع الذل على الهجرة إلى أرض الإِسلام.
أى: فأولئك الذين ماتوا ظالمين لأنفسهم { مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أى: مسكنهم الذى يأوون إليه فى الآخرة جهنم، وهى مصيرهم الذى سيصيرون إليه { وَسَآءَتْ مَصِيراً } أى: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها مصيرا ومسكنا ومأوى، لأنهم سيذوقون فيها العذاب الأليم.
وجئ باسم الإِشارة { فَأُوْلَـٰئِكَ } للاشعار بأنهم جديرون بالحكم الوارد بعده للصفات التى وصفوا بها قبله، فهم كانوا قادرين على الهجرة لكنهم لم يهاجروا لضعف نفوسهم وحرصهم على أموالهم ومصالحهم.
والمخصوص بالذم فى قوله { وَسَآءَتْ مَصِيراً } محذوف. أى: جهنم.
ثم استثنى - سبحانه - من هذا المصير السئ لمن ظلموا أنفسهم ثلاثة أصناف من الناس فقال: { إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ }.
أى: أن هذا المصير السئ والعذاب المهين هو للذين ظلموا أنفسهم بترك الهجرة إلى المسلمين مع قدرتهم عليها، لكن هناك طوائف من الناس خارجون من هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ومن هذا المصير الأليم، وهم أولئك الرجال الذين عجزوا حقا عن الهجرة لضعفهم أو مرضهم أو شيخوختهم.. أو النساء اللائى لا يستطعن الخروج وحدهن خشية من الاعتداء عليهن أو الوالدان الذين لم يبلغوا الحلم بعد، أو بلغوه بلوغا قريبا لكنهم لا يستطيعون الهجرة بمفردهم لقلة ذات يدهم أو لغير ذلك من الأعذار الصحيحة.
وقوله { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } جملة مستأنفة موضحة لمعنى الاستضعاف. حتى لا يتوهم متوهم أن استضعاف هؤلاء كالاستضعاف الذى تذرع به أولئك الذين ظلموا أنفسهم عندما قالوا - كما حكى القرآن عنهم - { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ }. ويصح أن تكون حالا من المستضعفين.
أى: ليس مندرجا مع الذين ظلموا أنفسهم فاستحقوا المصير السئ أولئك الضعفاء من الرجال والنساء والولدان؛ لأنهم { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } فى الخروج؛ إذ لا قوة لهم على الخروج ولا نفقة معهم توصلهم مبتغاهم { وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } أى: ولا يعرفون الطريق التى توصلهم إلى دار هجرتهم.
قال القرطبى: والحيلة: لفظ عام لأنواع أسباب التخلص. والسبيل: سبيل المدينة. فيما ذكر مجاهد والسدى وغيرهما والصواب أنه عام فى جميع السبل.
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ } منقطع - على الصحيح - لأن هؤلاء الذين قعدوا عن الهجرة لعجزهم، خارجون من أولئك الذين ظلموا أنفسهم بقعودهم عن الهجرة مع قدرتهم على ذلك.
وفى ذكر الوالدان مبالغة فى أمر الهجرة حتى لكأنها لو استطاعها غير المكلفين لقاموا بها، وإشعار بأن على أوليائهم أن يهاجروا بهم معهم متى تمكنوا من ذلك.
وقوله { فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ }. بيان لحكم هؤلاء المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
أى: أن هؤلاء الذين قعدوا عن الهجرة لأعذار حالت بينهم وبينها { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } أى: يتجاوز عنهم بفضله ورحمته بسبب عدم استطاعتهم للهجرة.
قال الجمل: وعسى ولعل فى كلام الله واجبتان، وإن كانتا رجاء وطمعا فى كلام المخلوقين، لأن المخلوق هو الذى تعرض له الشكوك والظنون. والبارى منزه عن ذلك، وإذا أطمع - سبحانه - عبده وصله.
وقال الآلوسى: وفى قوله { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى ان المضطر الذى تحقق عدم وجوبها عليه ينبغى له أن يعد تركها ذنبا، ولا يأمن. ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها".
وقوله { وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه أى وكان الله - تعالى -. وما زال كثير العفو عن عباده فيما يقعون فيه من تقصير، كثير المغفرة لمن تاب إليه وأناب.
ثم رغب - سبحانه - فى الهجرة من أجل إعلاء دينه بأسمى ألوان الترغيب فقال: { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً }.
وقوله: { مُرَاغَماً } اسم مكان أى يجد فى الأرض متحولا ومهاجرا.
قال القرطبى ما ملخصه: اختلف فى تأويل المراغم فقال مجاهد: المراغم: المتزحزح. وقال ابن عباس: المراغم: المتحول والمذهب. وقال ابن زيد: المراغم: المهاجر.
وهذه الأقوال متفقة المعانى وهو اسم الموضع الذى يراغم فيه. وهو مشتق من الرغام أى التراب ورغم أنف فلان أى لصق بالتراب. وراغمت فلانا هجرته وعاديته.
وهذا كله تفسير بالمعنى. فأما الخاص باللفظة هو أن المرغم موضع المراغمة كما ذكرناه وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده.
فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أنوف قريش لحصوله فى منعة منهم، فتلك المنعة هى موضع المراغمة.
والمعنى: ومن يهاجر تاركا دار إقامته من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، يجد فى الأرض أماكن كثيرة يأمن فيها مكر أعدائه وظلمهم، ويجد فيها من الخير والنعمة والسعة فى الرزق ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين فارقهم كراهة لصحبتهم القبيحة، ومعاملتهم السيئة.
قال الفخر الرازى: وذلك لأن من فارق بلده وذهب إلى بلده أجنبية، فإذا استقام أمره فى تلك البلدة الأجنبية، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم له ورغمت أنوفهم - أى أصابهم الذل - بسبب ذلك.
فكأنه قيل. يأيها الإِنسان إنك كنت تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع فى المشقة والمحنة والسفر، فلا تخف فإن الله - تعالى - سيعطيك من النعم الجليلة، والمراتب العظيمة، فى دار هجرتك ما يصير سببا لرغم أنوف أعدائك، ويكون سببا لسعة عيشك.
وإنما قدم - سبحانه - ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش؛ لأن ابتهاج الإِنسان الذى يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم له بدولته من حيث إنها تصير سببا لرغم أنوف الأعداء. أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث إنها صارت سببا لسعة العيش عليه.
وقوله { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } تنويه عظيم بشأن الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله، حيث جعل - سبحانه - ثوابها حاصلا حتى ولو لم يصل المهاجر إلى مقصده.
أى: ومن يخرج من بيته تاركا أهله ووطنه، فارا بدينه إلى المكان الذى تعلو فيه كلمة الله وكلمة رسوله، قاصدا بذلك نصرة الحق وأهله، من يفعل ذلك { ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ } وهو فى طريقه قبل أن يصل إلى مكان هجرته { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } أى: فقد ثبت ووجب له الأجر عند الله - تعالى - تفضلا منه - سبحانه - وكرما { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } فيغفر لهذا المهاجر ما فرط منه من تقصير، ويرحمه برحمته الواسعة.
وقوله { ثُمَّ يُدْرِكْهُ } بالجزم عطفا على فعل الشرط وهو { وَمَن يَخْرُجْ }. وجوابه قوله: { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ }.
قال الآلوسى: وقرئ { ثُمَّ يُدْرِكْهُ } بالرفع. خرج ابن جنى على أنه فعل مضارع مرفوع والموت فاعله. والجملة خبر لمبتدأ محذوف أى: ثم هو يدركه الموت.
وفى التعبير بقوله { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } بعث للطمأنينة فى قلوب المهاجرين، وحفز لهم على الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله؛ لأنهم إذاوصلوا إلى دار هجرتهم فقد راغموا أنف أعدائهم ورزقهم الله بالخير من فضله، وإن ماتوا قبل أن يصلوا أعطاهم - سبحانه ثواب المهاجرين كاملا ببركة حسن نياتهم، وكافأهم على ذلك أجرا جزيلا لا يعلم مقداره إلا هو.
وقد وردت روايات فى سبب نزول هذه الآية الكريمة منها ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنها نزلت فى جندب بن ضمرة وكان قد بلغه وهو بمكة قوله - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ }.. الآية فقال لبنيه: أحملونى فإنى لست من المستضعفين، وإنى لأهتدى إلى الطريق، وإنى لا أبيت الليلة بمكة. فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة - وكان شيخا كبيرا، فمات بالتنعيم - وهو موضع قرب مكة - ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله ويقول: اللهم هذه لك. وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم أبايعك على ما بايع عليه رسولك - ثم مات - ولما بلغ خبر موته الصحابة قالوا: ليته مات بالمدينة فنزلت الآية.
هذا، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1- وجوب الهجرة من دار لا يستطيع المسلم فيها أن يؤدى شعائر دينه.
قال القرطبى: فى هذه الآيات دليل على هجران الأرض التى يعمل فيها بالمعاصى. وقال سعيد بن جبير: إذا عمل بالمعاصى فى أرض فاخرج منها. وتلا { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا }. وقال مالك: هذه الآيات دالة على أنه ليس لأحد المقام فى أرض يسب فيها السلف ويعمل فيها بغير الحق.
وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه: قال الحافظ بن حجر فى "الفتح": الهجرة الترك. والهجرة إلى الشئ الانتقال إليه عن غيره. وفى الشرع: ترك ما نهى الله عنه.
وقد وقعت فى الإِسلام على وجهين:
الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن. كما فى هجرتى الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.
الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِيمان. وذلك بعد أن استقر النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين. وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالمدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقى عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا.
ثم قال الشيخ القاسمى: وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإِسماعيلى بلفظ: انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار. أى: ما دام فى الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشى أن يفتن فى دينه.
وروى الإِمام أحمد وأبو داود عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة. ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" .
2- أن من خرج للهجرة فى سبيل الله ومات فى الطريق أعطاه الله - تعالى - أجر المهاجرين ببركة نيته الصادقة، ويدل على ذلك ما جاء فى الصحيحين عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" .
وقال صاحب الكشاف: كل هجرة لغرض دينى - من طلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدا فى الدنيا أو ابتغاء رزق طيب - فهى هجرة إلى الله ورسوله. وإن أدركه الموت فى طريقه فأجره واقع على الله.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد وبخت الذين رضوا أن يقيموا مع الكافرين فى ذلة وهوان مع قدرتهم على الهجرة، وتوعدتهم على ضعف إيمانهم، بسوء المصير، وحرضت المؤمنين فى كل زمان ومكان على الهجرة فى سبيل الله بأسمى ألوان التحريض وأشدها، ووعدت المهاجر من أجل إعلاء كلمة الحق بالخير الوفير، والأجر الجزيل.
{ { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } }. وبعد أن حض - سبحانه - عباده على الهجرة فى سبيله أتبع ذلك ببيان جانب من مظاهر رحمته فى التيسير عليهم فيما شرعه لهم من عبادات، حيث أباح لهم قصر الصلاة فى حالة السفر، وعرفهم كيف يؤدونها فى حالة الجهاد والخوف من مباغتة العدو لهم فقال - تعالى -: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ...عَذَاباً مُّهِيناً }.